
ومن سورة النساء
وقوله تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ... (١)
قال (واحدة) لأن النفس مؤنثة، فقال: واحدة لتأنيث النفس، وهو [يعني] «١» آدم، ولو كانت (من نفس واحد) لكان صوابا، يذهب إلى تذكير الرجل «٢».
وقوله: وَبَثَّ مِنْهُما العرب تقول: بث اللَّه الخلق: أي نشرهم. وقال فى موضع آخر: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ «٣» ومن العرب من يقول: أبث اللَّه الخلق.
ويقولون: بثثتك ما فِي نفسي، وأبثثتك.
وقوله: الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ فنصب الأرحام يريد واتقوا الأرحام أن تقطعوها. قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْن عبد الله عن الأعمش عن إِبْرَاهِيم «٤» أنه خفض الأرحام، قال: هُوَ كقولهم: بالله «٥» والرحم وفيه قبح لأن العرب لا ترد مخفوضا على مخفوض وقد كنى عَنْهُ، وقد قال الشاعر «٦» فى جوازه «٧» :
(٢) وهى قراءة إبراهيم بن أبى عبلة كما فى القرطبي.
(٣) آية ٤ سورة القارعة.
(٤) هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد النخعىّ الكوفىّ. توفى سنة ٩٦ هـ. وقراءة الخفض قراءة حمزة وقتادة والأعمش أيضا.
(٥) يريد أن «الأرحام» معطوف على الضمير فى «به».
(٦) هو مسكين الدارمىّ. وانظر العينىّ على هامش الخزانة ٤/ ١٦٤. [.....]
(٧) كذا فى ج، وفى ش: «جوابه» وهو تحريف.

نعلق فِي مثل السواري سُيُوفنا... وما بينها والكَعْبِ غوط نفانف «١»
وإنما يجوز هذا فِي الشعر لضيقه.
وقرأ بعضهم «٢» تَسائَلُونَ بِهِ يريد: تتساءلون به، فأدغم التاء عند السين.
وقوله: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ... (٢)
يقول: لا تأكلوا أموال اليتامى بدل أموالكم، وأموالهم عليكم حرام، وأموالكم حلال.
وقوله: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً الحوب: الإثم العظم. ورأيت بني أسد يقولون الحائب: القاتل، وقد حاب يحوب. وقرأ الْحَسَن (إنه كان حوبا كبيرا) وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ... (٣)
واليتامى فِي هذا الموضع أصحاب الأموال، فيقول القائل: ما عدل الكلام من أموال اليتامى إلى النكاح؟ فيقال: إنهم تركوا مخالطة اليتامى تحرجا، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: فإن كنتم تتحرجون من مؤاكلة اليتامى فاحرجوا «٣» من جمعكم «٤» بين النساء ثُمَّ لا تعدلون بينهن، فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ يعني الواحدة إلى الاربع.
فقال تبارك وتعالى: ما طابَ لَكُمْ ولم يقل: من طاب. وذلك أنه ذهب
(٢) هم السبعة عدا عاصما وحمزة والكسائىّ.
(٣) الحرج: الضيق والقلق. والمراد به الكف عما يوجبه.
(٤) كذا فى ج. وفى ش: «جمعهم».

إلى الفعل «١» كما قال أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد: أو ملك أيمانكم. ولو قيل «٢» فِي هذين (من) كان صوابا، ولكن الوجه ما جاء به الكتاب. وأنت تقول فِي الكلام: خذ من عبيدي ما شئت، إذا أراد مشيئتك، فإن قلت: من شئت، فمعناه: خذ الَّذِي تشاء.
وأما قوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فإنها حروف لا تجرى «٣». وذلك أنهن مصروفات «٤» عن جهاتهن ألا ترى أنهن للثلاث والثلاثة، وأنهن لا يضفن إلى ما يضاف إليه الثلاثة والثلاث. فكان لا متناعه من الإضافة كأن فِيهِ الألف واللام.
وامتنع من الألف واللام لأن فِيهِ تأويل الإضافة كما كان بناء الثلاثة أن تضاف إلى جنسها، فيقال: ثلاث نسوة، وثلاثة رجال. وربما جعلوا مكان ثلاث ورباع مثلث ومربع، فلا يجرى أيضا كما لم يجر ثلاث ورباع لأنه مصروف، فِيهِ من العلة ما فِي ثلاث ورباع. ومن جعلها نكرة وذهب بها إلى الاسماء أجراها.
والعرب تقول: ادخلوا ثلاث ثلاث، وثلاثا ثلاثا «٥». وقال الشاعر:
[وإن الغلام المستهام بذكره] | قتلنا به من بين مثنى وموحد |
بأربعةٍ منكم وآخر خامسٍ | وسادٍ مع الإظلام فِي رمح معبد «٦» |
(٢) وهى قراءة إبراهيم بن أبى عبلة كما فى القرطبي.
(٣) الإجراء فى اصطلاح الكوفيين: صرف الاسم وتنوينه، وعدم الإجراء: منعه من الصرف.
(٤) أي معدولات.
(٥) ثبت فى ج، وسقط فى ش.
(٦) ساد: لغة فى سادس. ولم يرد الشطر الأول فى أصول الكتاب. وقد جاء فى شرح التسهيل لأبى حيان فى مبحث «ما لا ينصرف».

فوجه الكلام ألا تجرى وأن تجعل معرفة لأنها مصروفة، والمصروف خلقته أن يترك «١» على هيئته، مثل: لكع «٢» ولكاع. وكذلك قوله: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ «٣».
والواحد يقال فِيهِ موحد وأحاد ووحاد، ومثنى وثناء وأنشد بعضهم:
ترى النعرات الزرق تحت لبانه | أحاد ومثنى أصعقتها صواهله «٤» |
فواحدة (مقنع «٧»، فواحدة) رضا.
وقوله: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا: ألا تميلوا. وهو أيضا فِي كلام العرب:
قد عال يعول. وفي قراءة عَبْد اللَّه: (ولا يعل أن يأتيني بهم جميعا) «٨» كأنه فى المعنى:
ولا يشقّ عليه أن يأتيني بهم جميعا. والفقر يقال منه عال يعيل عيله وقال الشاعر «٩» :
ولا يدري الفقير مَتَى غناه | ولا يدري الغنى مَتَى يعيل |
(٢) لكع يقال للئيم، ولكاع للئيمة، وهما لا يقالان إلا فى النداء فى مقام السب. ولكع معدول عن ألكع، ولكاع عن لكعاء.
(٣) آية ١ سورة فاطر. [.....]
(٤) البيت لتميم بن أبى بن مقبل. والنعرات جمع النعرة وهى ذبابة تسقط على الدواب فتؤذيها.
والصواهل واحدها الصاهلة، وهو مصدر على فاعلة بمعنى الصهيل. يريد أن صهيلة قتلها. وهو فى وصف فرس. وانظر اللسان (صهل).
(٥) أي لا حدّ لكم فى ملك اليمين.
(٦) هذه الجملة بدل من الجملة قبلها. وجواب الشرط فى قوله: «كان صوابا» أو هى الجواب، والجملة الأخيرة بدل منها.
والأظهر سقوط «كان».
(٧) ثبت ما بين القوسين فى ج، وسقط فى ش.
(٨) أي فى قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً» آية ٨٣ سورة يوسف.
(٩) هذا هو أحيحة بن الجلاح الأوسىّ. وانظر اللسان (عيل). والبيت من قصيدة فى جمهرة أشعار العرب.

وقوله: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً (٤) يعني أولياء النساء لا الأزواج: وذلك أنهم كانوا فِي الجاهلية لا يعطون النساء من مهورهن شيئًا، فأنزل اللَّه تعالى: أعطوهن صدقاتهن نحلة، يقول: هبة وعطية.
وقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً. ولم يقل طبن. وذلك «١» أن المعنى- والله أعلم-: فإن طابت أنفسهن لكم عن شيء. فنقل الفعل من الأنفس إليهن فخرجت النفس مفسّرة كما قالوا: أنت حسن وجها، والفعل في الاصل للوجه، فلما حول إلى صاحب الوجه خرج الوجه مفسرا لموقع الفعل. ولذلك وحد النفس. ولو جمعت لكان صوابا ومثله ضاق به ذراعي «٢»، ثُمَّ تحول الفعل من الذراع إليك: فتقول «٣» قررت به عينا. قال اللَّه تبارك وتعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً «٤». وقال: سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً «٥» وقال الشاعر «٦» :
إذا التياز ذو العضلات قُلْنَا... إليك إليك ضاق بها ذراعا «٧»
وإنما قيل: ذرعا وذراعا لأن المصدر والاسم فِي هذا الموضع يدلان على معنى واحد، فلذلك كفى المصدر من الاسم.
وقوله: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ... (٥)
السفهاء: النساء والصبيان الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً يقول التي بها تقومون قواما وقياما. وقرأ نافع الْمَدَنِيّ (قيما) والمعنى- والله أعلم- واحد.
(٢) كذا فى ح. وفى ش: «ذرعى».
(٣) يبدو أن هذا مرتب على كلام سقط فى النسخ. والأصل: «وتقول: قرت عينك، ثم نحول الفعل».
(٤) آية ٢٦ سورة مريم.
(٥) آية ٧٧ سورة هود.
(٦) هو القطامي.
(٧) هذا فى أبيات يصف بكرة أحسن القيام عليها حتى قويت وعزت على القوى أن يركيها. والتياز الرجل القوى. وانظر اللسان (تيز).