
وكل ما سكنت إليه النفوس وأحبته من دول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر (١).
وقال الزجاج: أي علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم (٢).
٦ - قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ الآية. قال المفسرون: نزلت في ثابت بن رفاعة (٣)، وفي عمه (٤)، وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتًا وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي - ﷺ - فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله- عز وجل-: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى﴾ (٥).
قال الحسن، وقتادة، ومجاهد، والسدي، وابن زيد: اختبروهم في عقولهم وأديانهم (٦).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤.
(٣) هو ثابت بن رفاعة الأنصاري، ترجموه ضمن الصحابة -رضي الله عنهم- لهذه القصة. انظر: "أسد الغابة" ١/ ٢٦٨، "الإصابة" ١/ ١٩٢.
(٤) لم أقف على ترجمته.
(٥) أخرجه ابن جرير بسنده عن قتادة مطولًا، وليس فيه التصريح بأنه سبب نزول الآية. انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٥٩، وأورده الثعلبي في "الكشف والبيان" ٤/ ١٢ أ، والمؤلف في "أسباب النزول" ص ١٤٣، والبغوي في "معالم التنزيل" ٢/ ١٦٥، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ١٤، وانظر "الدر المنثور" ٢/ ٢١٤، وعزاه ابن حجر إلى ابن منده وقال: هذا مرسل رجاله ثقات. "الإصابة" ١/ ١٩٢.
(٦) ذكر هذا القول عنهم ابن الجوزي في "زاد المسير" ٢/ ١٤، وانظر:=

ومعنى هذا الابتلاء وكيفيته -على ما ذكره الفقهاء-: أن يُردّ إليه الأمر في نفقته عند مراهقة الحلم، ويعطى شيئًا نزرًا يتصرف فيه، ليعرف كيف تدبيره وتصرفه. وإن كانت جاريةً يرد إليها ما يرد إلى النساء من أمر البيت وتدبير الغزل والقطن (١).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾. قال ابن عباس ومجاهد والسدي وابن زيد: يريد الحلم (٢).
وتقديره: حتى إذا بلغوا حال النكاح من الاحتلام.
وقال آخرون: أي بلغوا مبلغ الرجال والنساء من القدرة على النكاح (٣). قال ابن قتيبة: أي بلغوا أن ينكحوا النساء (٤).
(١) انظر: "الكشف والبيان" ٤/ ١٢ب، "معالم التنزيل" ٢/ ١٦٥.
(٢) هذه الرواية ثابتة عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة كما في "تفسير ابن عباس" ص ١٣٥، "تفسير الطبري" ٤/ ٢٥٢، "الدر المنثور" ٢/ ٢١٤ - ٢١٥، "تحقيق المروي عن ابن عباس" ١/ ١٥٤.
أما عن مجاهد ففي "تفسيره" ١/ ١٤٥، وأخرجه الطبري عنه ٤/ ٢٥٢، وانظر: "تفسير الهواري" ١/ ٣٤٩، "الدر المنثور" ٤/ ٢١٤. وأما عن السدي فلم أقف عليه. وأما عن ابن زيد فقد أخرجه ابن جرير ٤/ ٢٥٢.
(٣) هذا قول الثعلبي في "الكشف والبيان" ٤/ ١٢ أ، وابن قتيبة كما سيذكر المؤلف. والظاهر أن القولين متقاربان أو متلازمان في الأعم الأغلب من الناس، فإن من احتلم فقد قدر على النكاح من هذه الناحية، ومن قدر على النكاح فقد احتلم، ويؤيد ذلك ما ذكره المؤلف -رحمه الله- من التقدير للقول الأول، والله أعلم.
(٤) "غريب القرآن" ص ١٢٠.

ومعنى النكاح هو إنزال الماء، فإذا أنزل الغلام أو الجارية فقد بلغ، سواءٌ كان عن جماع أو احتلام.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾. معنى (آنستم) قال ابن عباس: عرفتم (١)، وقال عطاء عنه: يريد رأيتم (٢).
وقال الفراء: وجدتم (٣). وقال الزجاج: علمتم (٤).
وأصل الإيناس في اللغة: الإبصار (٥)، ومنه قوله: ﴿آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ [القصص: ٢٩]، وقال ابن حلزة (٦):
آنَست نَبأَةً وأفَزَعها القَـ | ـنَّاص عَصرًا وقد دَنا الإمساءُ (٧) |
(٢) لم أقف علي رواية عطاء هذه، وهي بمعنى الأولى الثابتة عن ابن عباس.
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٢٥٧.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٤.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٢١٦ (أنس)، "الكشف والبيان" ٤/ ١٢ أ، "اللسان" ١/ ١٥٠ (أنس).
(٦) هو الحارث بن حلزة بن مكروه اليشكري الوائلي شاعر جاهلي وأحد أصحاب المعلقات السبع وقد ارتجلها ارتجالًا بين يدي ملك الحيرة، توفي سنة ٥٠ قبل الهجرة تقريبًا. انظر: "الشعر والشعراء" ص ١١١، "طبقات الشعراء" ١/ ١٥١، "الأعلام" ٢/ ١٥٤.
(٧) هذا البيت من معلقة ابن حلزة -وهي المعلقة السابعة- كما في "شرح المعلقات" للزوزني ص ١٥٦. قال الزوزني في شرح البيت: النبأة الصوت الخفي يسمعه الإنسان أو يتخيله، والقناص جمع قانص، وهو الصائد.

وقوله تعالى: ﴿رُشْدًا﴾ قال ابن عباس والسدي: هو الصلاح في العقل وحفظ المال (١). وقال عطاء عنه: يريد صلاحًا ومعرفة وعقلًا (٢).
وقال الزجاج. معنى الرشد: الطريقة المستقيمة التي تثقون (٣) معها بأنهم يحفظون أموالهم (٤).
وقال الشافعي -رضي الله عنه-: الرشد: من يكون صالحًا في دينه، مصلحًا لماله (٥). ولا يجوز دفع مال اليتيم إليه إلا بعد البلوغ وتبين العفاف وإصلاح المال منه (٦).
(١) الأثر عن ابن عباس ثابت من طريق ابن أبي طلحة كما في "تفسير ابن عباس" ص ١٣٥، وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" ٤/ ٢٥٢ لكن بلفظ: (رُشدًا) في حالهم والإصلاح في أقوالهم. وانظر "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٩٢، "تحقيق المروي" عن ابن عباس ١/ ١٥٥. أما عن السدي فأخرجه ابن جرير ٤/ ٢٥٢ أيضًا، لكن بلفظ: عقولًا وصلاحًا.
(٢) رواية عطاء هذه بمعنى رواية ابن أبي طلحة الثابتة، ولم أقف عليها.
(٣) في النسختين: يثقون بالتحتية للغيبة، والأولى بالفوقية الخطاب؛ لأن في الآية الخطاب، ولموافقة ذلك ما في معاني الزجاج.
(٤) "معاني الزجاج" ٢/ ١٤.
(٥) من "الكشف والبيان" ٤/ ١٣ ب، وعبارة الشافعي: والرشد -والله أعلم- صلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة وإصلاح المال. "الأم" ٣/ ٢١٥، وانظر "معالم التنزيل" ٢/ ١٦٥ - ١٦٦، "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٩٢. قال الثعلبي: فالرشد عنده -أي: الشافعي- شيئان: جواز الشهادة واصلاح المال وهذا قول الحسن وربيعة ومالك، "الكشف والبيان" ٤/ ١٣ ب، وانظر "تفسير الحسن البصري" ١/ ٢٥٩.
(٦) انظر: "الأم" ٣/ ٢١٨، "الكشف والبيان" ٤/ ١٢ب، "معالم التنزيل" ٢/ ١٦٥.

وأبو حنيفة وأصحابه اعتبروا صلاح المال، ولم يعتبروا صلاح الدين (١).
وهذا الاختلاف يعود إلى الاختلاف في معنى الرشد، فمن جعل معنى الرشد حفظ المال وإصلاحه يزيل الحجر عن اليتيم بالبلوغ وحفظ المال، دون الصلاح في الدين، ومن جعل معنى الرشد صلاح الدين وحفظ المال اعتبرهما في زوال الحجر عن اليتيم، وهذا هو الأولى (٢)؛ فإن أهل اللغة قالوا في معنى الرشد: إنه إصابة الخير (٣)، والمفسد في دينه لا يكون مصيبًا للخير. وأيضًا فإن الرشد نقيض الغي، قال الله تعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦]، والغي: هو الجهالة والبطالة والفساد. قال طرفة:
أرى قبرَ نَحَّامٍ بَخيلٍ بمالِه | كقبر غويٍّ في البَطَالة مُفْسدِ (٤) |
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾.
(٢) انظر: "البغوي" ٢/ ١٦٧، "القرطبي" ٥/ ٣٧، ٣٨.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤١١ (رشد)، "مقاييس اللغة" ٢/ ٣٩٨ (رشد)، "اللسان" ٣/ ١٦٤٩ (رشد).
(٤) "ديوانه" ص ٢٦، "شرح المعلقات السبع" للزوزني ص ٦٢. والنَحّام: البخيل.
(٥) في (د): (غوي).

قال ابن عباس: يريد لا تبادروا في أموال اليتامى بالسرف قبل أن يبلغ الحلم والرشد (١).
وقال المفسرون: يريد (٢): لا تبادروا بأكل مالهم كبرهم ورشدهم حذرًا أن يبلغوا فيلزمكم تسليم المال إليهم (٣).
و (أن) في محل النصب؛ لأنه مفعول المصدر، على تقدير: مبادرة كبرهم (٤). ثم بين ما يحل لهم فقال: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾. قال ابن عباس: يريد: من كان غنيًّا من الأوصياء فليستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئًا (٥).
معنى: ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ أي: ليترك ذلك ولا يأكل. يقال: استعفف عن الشيء وعف إذا امتنع منه وتركه (٦).
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾. اختلفوا في الأكل بالمعروف: ما هو؟ فقال قوم: هو أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه من
(٢) في (أ): (يقول).
(٣) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٥٤، "الكشف والبيان" ٤/ ١٥أ.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٢٥٤، "معاني الزجاج" ٢/ ١٤، "إعراب القرآن" للنحاس ١/ ٣٩٧، "الكشف والبيان" ٤/ ١٥ أ، "مشكل إعراب القرآن" ١/ ١٩٠.
(٥) أخرجه ابن جرير بمعناه من أكثر من طريق كما في "تفسيره" ٤/ ٢٥٥، وانظر: "تحقيق المروي" عن ابن عباس ١/ ١٥٦ - ١٥٧، وقد صحح المحقق إسنادًا من أسانيد ابن جرير وحسن آخر.
(٦) انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص ١١٥، "الصحاح" ٤/ ١٤٠٥ (عف)، "تفسير الثعلبي" ٤/ ١٥ أ، "اللسان" ٥/ ٣٠١٥ (عف).

مال اليتيم قرضًا، ثم إذا أيسر قضاه، فإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه.
وهذا قول سعيد بن جبير (١)، وعبيدة (٢) (٣)، ومجاهد (٤)، وأبي العالية (٥)، وأكثر الروايات عن ابن عباس (٦).
والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ [النساء: ١١٤]، قالوا: يعني القرض (٧). وما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: (ألا) (٨) إني أنزلت نفسي من مال الله عز وجل بمنزلتي من مال اليتيم، إن
(٢) هو أبو عمرو عبيدة بن عمرو السلماني المرادي الكوفي، مخضرم، ومن كبار أئمة التابعين فقيه مقرئ فاضل، وحديثه عند الجماعة. توفي -رحمه الله- قبل السبعين من الهجرة. انظر: "تاريخ الثقات" ١٢٤ - ١٢٥، "مشاهير علماء الأمصار" ص ٩٩، "التقريب" ص ٣٧٩ رقم (٤٤١٢).
(٣) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١٤٧، ١٤٨، والطبري ٤/ ٢٥٥، وانظر: الثعلبي ٤/ ١٥ أ.
(٤) "تفسيره" ١/ ١٤٦، وأخرجه عبد الرزاق ١/ ١٤٧، والطبري ٤/ ٢٥٦ - ٢٥٧ من عدة طرق.
(٥) أبو العالية هو رفيع بن مهران الرياحي، تقدمت ترجمته.
(٦) ومنها رواية ابن أبي طلحة، انظر: "تفسير ابن عباس" ص ١٣٥، والطبري ٤/ ٢٥٥ والثعلبي٤/ ١٥ أ، و"زاد المسير" ٢/ ١٦، و"تفسير ابن كثير" ١/ ٤٩٣، و"الدر المنثور" ٢/ ٢١٥ - ٢١٦، و"تحقيق المروي" عن ابن عباس ١٥٨/ ١٥٩.
(٧) رُوي عن ابن عباس ومقاتل بن حيان، وقيل إن المعروف في هذه الآية عام يشمل جميع أنواع البر. وهو أولى. انظر: "زاد المسير" ٢/ ٢٠٠، "معالم التنزيل" ٢/ ٢٨٦، "الدر المنثور" ٢/ ٢١٦.
(٨) ما بين القوسين غير موجود في (د).

استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيت (١).
وقال بعضهم: معنى الأكل بالمعروف هو أن يقتصد ولا يسرف، ثم لا قضاء عليه فيما يأكل. فهذا قول عطاء (٢)، وعكرمة (٣)، والسدي (٤).
وقال إبراهيم: هو ما سد الجوعة ووارى العورة (٥).
وذهبت عائشة وجماعة من العلماء (٦) إلى أن المعروف هو أن يأخذ من جميع المال إذا كان يلي ذلك بقدر قيامه وعمله وأجرته، وإن أتى على جميع المال، ولا قضاء عليه، وهذا طعمة من الله له (٧). ودليل صحة هذا ما روي عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبي - ﷺ - فقال: يا رسول الله إن في حجري يتيمًا أفاضربه؟ قال: "مما كنت ضاربًا منه ولدك"، قال: يا رسول الله أفآكل من ماله؟ قال: "غير متأثل مالًا، ولا واقٍ مالك بماله" (٨)
(٢) هو ابن أبي رباح أخرج ذلك عنه الطبري ٤/ ٢٥٩.
(٣) أخرجه الطبري ٤/ ٢٦٠.
(٤) انظر الثعلبي ٤/ ١٥ ب، "زاد المسير" ٢/ ١٦.
(٥) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" ١/ ١٤٧، والطبري من طرق ٤/ ٢٦٠ كلاهما بلفظ الجوع بدل الجوعة.
(٦) منهم ابن عباس - رضي الله عنه - والإمام أحمد -رحمه الله- كما في "زاد المسير" ٢/ ١٦.
(٧) أخرج البخاري عن عائشة - رضي الله عنه - كتاب: التفسير، باب: (من كان غنيًا فليستعفف) رقيم (٤٥٧٥) أنها قالت في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾: أنها نزلت في مال اليتيم إذا كان فقيرًا أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف البخاري كتاب التفسير سورة النساء، باب: ٢ ﴿وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ ٥/ ١٧٧.
(٨) أخرجه الثعلبي في "الكشف والبيان" ٤/ ١٦ أ، ب، وانظر "الكافي الشاف" ص ٣٨.

وعلى هذا الحكم اليوم، فالقيم ممنوع من الإسراف، وإنما له أجر مثل عمله؛ لأنه أجير بالشرع. والغني يستعف كما أمره الله، وإن أخذ الأجرة حلت له في الحكم في مقابلة عمله (١).
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾. هذا وصية من الله تعالى للأولياء بالإشهاد على دفع المال إذا دفعوه إلى الأيتام، لكن إن وقع اختلاف أمكن للولي أن يقيم البينة على أنه رد المال إليه (٢). وفي هذا دليل على أن القول قول اليتيم عند التنازع، وذلك أن القيّم خير (٣) مؤتمن من جهة اليتيم، وإنما هو مؤتمن من جهة الشرع، ولذلك أمر بالإشهاد (٤)، وليس بفريضة (٥).
قوله تعالى: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ قال ابن الأنباري والأزهري: يكون بمعنى محاسبًا، ويكون بمعنى كافيًا (٦).
فمن الأول قولهم للرجل عند التهدد: حسيبه الله. ومعناه: محاسبه الله
(٢) انظر: "الكشف والبيان" ٤/ ١٦ ب، "معالم التنزيل" ٢/ ١٦٩.
(٣) المعنى يقتضي أنها: (غير) بالغين.
(٤) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ٥/ ٤٤، ٤٥.
(٥) "الكشف والبيان" ٤/ ١٦ ب، وانظر: "معالم التنزيل" ٢/ ١٦٩، "زاد المسير" ٢/ ١٧. وقصد المؤلف تبعًا للثعلبي بقوله: ليس بفريضة أي: الإشهاد ليس بفريضة. وقيل بفرضيته.
انظر: "المحرر الوجيز" ٤/ ٥٠٢، "الجامع لأحكام القرآن" ٥/ ٤٤.
(٦) هذا نص ما ذكره الأزهري عن أبي إسحاق النحوي في "تهذيب اللغة" ١/ ٨١٠ (حسب)، ونحو ما ذكره ابن الأنباري "الزاهر" ١/ ٦، وانظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٢٩.

على ما يفعل من الظلم (١).
وأنشد ابن الأنباري (٢) قول قيس المجنون (٣):
دعا المحرمون اللهَ يستغفرونه | بمكةَ يومًا أن تُمَحَّا ذُنوبُها |
وناديتُ يا ربّاه أولُ سؤلتي | لنفسي لَيلَى ثم أنت حسيبُها (٤) |
قالوا: فالحسيب هو المحاسب بمنزلة قول العرب: الشريب. للمشارب (٦).
وأنشد (٧) أيضًا قول المخبل السعدي (٨):
فلا تُدخِلنَّ الدهر قبرك حَوبَةً | يقوُم بها يومًا عليك حسيبُ (٩) |
ومن الكفاية قولهم: حسيبك الله. ومعناه: كافي إياك الله (١١).
(٢) في "الزاهر" ١/ ٦.
(٣) هو قيس بن الملوح العامري، شاعر غزل ويعرف بمجنون ليلى بسبب أنه حجب منها مع حبه لها فهام على وجهه ينشد الأشعار، وله ديوان وأخبار. توفي سنة ٦٥ أو ٦٨ هـ. انظر: "ديوانه" ص ٧ المقدمة، "الأعلام" ٥/ ٢٠٨.
(٤) "ديوانه" ص ٣١، لكن في البيت الأول: شعثًا بدل يومًا، وفي الثاني: يا رحمن بدل يا رباه.
(٥) أي ابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ٦.
(٦) "الزاهر" ١/ ٦، وانظر: "اشتقاق أسماء الله" للزجاجي ص ١٢٩.
(٧) أي ابن الأنباري في "الزاهر" ١/ ٥.
(٨) تقدم ترجمته.
(٩) البيت في اللسان ٢/ ١٠٣٦ (حوب) لكنه فيه: يدخلن بالتحتية ورفع حوبة.
(١٠) في "الزاهر" ١/ ٥: محاسب عليها عالم بها.
(١١) من "الزاهر" ١/ ٦.

وقد ذكرنا في اللغة في هذا (١) قوله: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: ١٧٣].
وقال ابن عباس في قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾: يريد مجازيًا للحسن والمسيء (٢)، وهذا يعود إلى المحاسب؛ لأن الحساب إنما هو للجزاء.
والباء في قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ﴾، ﴿وَكَفَى بِرَبِكَ﴾ [الإسراء: ١٧، ٦٥]، [الفرقان: ٣١] في جميع القرآن (٣) زائدة (٤).
قال الزجاج: المعنى: كفى الله، كفى ربُك (٥). واستقصاء هذا مذكور في هذه السورة عند قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء: ٤٥] (٦).
(٢) لم أقف عليه لا عند ابن جرير ولا الثعلبي ولا غيرهما، وذكره المؤلف في "الوسيط" بتحقيق بالطيور ٢/ ٤٥٠، وقد ذكر ابن الجوزي أن قول ابن عباس هو أن الحسيب بمعنى الشهيد كما في "زاد المسير" ٢/ ١٧.
(٣) انظر: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن" ص ٦١٣، ٦١٤ (كفى).
(٤) وتفيد التوكيد عند بعض العلماء. انظر "الكتاب" ١/ ٤١، ٩٢، ٢/ ٢٦، "معاني الحروف" للرماني ص ٣٧، "الدر المصون" ٣/ ٥٨٦. وتعبير المؤلف بقوله: زائدة غير مناسب؛ فإن المحققين من العلماء يتحاشون مثل ذلك. قال ابن هشام: وينبغي أن يتجنب المعرب أن يقول في حرف في كتاب الله تعالى إنه زائد، لأنه يسبق إلى الأذهان أن الزائد هو الذي لا معنى له، وكلام الله سبحانه منزّه عن ذلك، والزائد عند النحويين معناه الذي لم يؤت به إلا لمجرد التقوية والتوكيد، وكثير من المتقدمين يسمون الزائد صلة وبعضهم يسميه مؤكدا وبعضهم يسميه لغوًا، لكن اجتناب هذه العبارة في التنزيل واجب. "الإعراب عن قواعد الإعراب" ص ١٠٨، ١٠٩، وانظر: "البرهان" للزركشي ١/ ٣٠٥، "تفسير ابن كثير" ١/ ٤٩٨، "الدر المصون" ٥/ ٢٦٣.
(٥) انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٥٧.
(٦) تفسير هذه الآية من القسم المفقود.