وحكى الشعبي أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع فقال شريح: ردها عليها فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ قال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه، وعنه ولا أقيلها وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن والذي عليه الحنفيون أن الزوجة إذا وهبت شيئا للزوج ليس لها الرجوع فيه بل ذكر ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة على أنه ليس لأحد من الزوجين الرجوع فيما وهب لصاحبه.
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس أعني النكاح، وبيان بعض الحقوق المتعلقة بالأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال استطرادا إذ الخطاب- كما يدل عليه كلام عكرمة- للأولياء، وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السُّفَهاءَ اليتامى، ومن أَمْوالَكُمُ أموالهم وإنما أضيفت إلى ضمير الأولياء المخاطبين- تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بهم فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي- مبالغة في حملهم على المحافظة عليها، ونظير ذلك قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] فإن المراد لا يقتل بعضكم بعضا إلا أنه عبر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل حتى كأن قتلهم قتل أنفسهم، وقد أيد ذلك بما دل عليه قوله سبحانه: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً حيث غير عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، ومفعول جعل الأول محذوف وهو ضمير الأموال، والمراد من
القيام ما به القيام والتعيش، والتعبير بذلك زيادة في المبالغة وهو المفعول الثاني لجعل، وقد جوز أن يكون المحذوف وحده مفعولا، وهذا حالا منه، وقيل: إنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء نظرا إلى كونها تحت ولايتهم.
واعترض بأنه وإن كان صحيحا في نفسه لأن الإضافة لأدنى ملابسة ثابتة في كلامهم كما في قوله:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة | سهيل أذاعت غزالها في القرائب |
وروي أنه سئل الصادق رضي الله تعالى عنه عن هذه الإضافة، وقيل له: كيف كانت أموالهم أموالنا؟ فقال: إذ كنتم وارثين لهم،
وفيه احتمالان: أحدهما أنه إشارة إلى ما ذكرناه أولا في توجيه الإضافة، وثانيهما أن ذلك من مجاز الأول، ويرد عليه حينئذ بعد القول بكذب نسبته إلى الصادق رضي الله تعالى عنه أن الأول غير متحقق بل العادة في الغالب على خلافه، والحمل على التفاؤل مما يتشاءم منه الذوق السليم.
وذكر العلامة الطيبي أنه إنما أضيف الأموال إلى اليتامى في قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالغة في ردّ الأموال إليهم، فاقتضى ذلك أن يقال: أموالهم، وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم وأضافها إلى الأولياء انتهى، ولا يخفى أنه بيان للعلة المرجحة لإضافة الأموال لمن ذكر، وينبغي أن تكون العلة المصححة ما مرّ آنفا، ثم وصف اليتامى بأنهم سفهاء باعتبار خفة أحلامهم واضطراب آرائهم لما فيهم من الصغر وعدم التدرب، وأصل السفه الخفة والحركة، يقال: تسفهت الريح الشجر أي مالت به، قال ذو الرمة:
جرين كما اهتزت رماح «تسفهت» | أعاليها مر الرياح النواسم |
على ظهر مقلات «سفيه» جديلها يعني خفيف زمامها، ولكون هذا الوصف مما ينشأ منه تبذير المال وتلفه المخل بحال اليتيم ناسب أن يجعل مناطا لهذا الحكم، وقد فسر السفهاء بالمبذرين بالفعل من اليتامى؟ وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب الكثير من المتأخرين، وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن المراد بالسفهاء النساء والصبيان، والخطاب لكل أحد كائنا من كان، والمراد نهيه عن إيتاء ماله من لا رشد له من هؤلاء، وقيل: إن المراد بهم النساء خاصة،
وروي عن مجاهد وابن عمر، وروي (١) عن أنس بن مالك أنه قال: «جاءت امرأة سوداء جرية المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قل فينا خيرا مرة واحدة فإنه بلغني أنك تقول فيناكل شر قال:
أي شيء قلت فيكن؟ قالت: سميتنا السفهاء فقال: الله تعالى سماكن السفهاء في كتابه، قالت: وسميتنا النواقص، قال:
كفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها، ثم قال: أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله تعالى وإذا وضعت كانت كالمتشحط في دمه في سبيل الله تعالى فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير فقالت السوداء: يا له من فضل لولا ما يتبعه من الشرط».
وقيل: إن السفهاء عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير، وقريب منه ما
روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن السفيه شارب الخمر ومن يجري مجراه،
وجعل الخطاب عاما أيضا للأولياء وسائر الناس والإضافة في أَمْوالَكُمُ لا تفيد إلا الاختصاص وهو شامل لاختصاص الملكية واختصاص التصرف، وأيد ما ذهب إليه الكثير بأنه الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة، ومن ذهب إلى غيره جعل ذكر هذا الحكم استطرادا وكون ذلك مخلا بجزالة النظم الكريم محل تأمل، وقرأ نافع وابن عامر «قيما» بغير ألف، وفيه- كما قال أبو البقاء- ثلاثة أوجه: أحدها أنه مصدر مثل الحول والعوض وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها كما صحت في العوض والحول لكن أبدلوها ياء حملا على قيام، وعلى اعتلالها في الفعل، والثاني أنها جمع قيمة- كديمة وديم- والمعنى أن الأموال كالقيم للنفوس إذ كان بقاؤها بها، وقال أبو علي: هذا لا يصح لأنه قد قرئ في قوله تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الأنعام: ١٦١] وقوله سبحانه: الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً [المائدة: ٩٧] ولا يصح معنى القيمة فيهما.
والثالث أن يكون الأصل قياما فحذفت الألف كما حذفت في خيم، وإلى هذا ذهب بعض المحققين وجعل ذلك مثل عوذا وعياذا، وقرأ ابن عمر- قواما- بكسر القاف وبواو وألف، وفيه وجهان: الأول أنه مصدر قاومت قواما مثل لاوذت لواذا فصحت في المصدر كما صحت في الفعل، والثاني أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر، وقرئ كذلك إلا أنه بغير ألف وهو مصدر صحت عينه وجاءت على الأصل كالعوض، وقرئ بفتح القاف وواو وألف، وفيه وجهان: أحدهما: أنه اسم مصدر مثل السلام والكلام والدوام، وثانيهما: أنه لغة في القوام الذي هو بمعنى يقال: جارية حسنة القوام والقوام والمعنى التي جعلها الله تعالى سبب بقاء قامتكم، وعلى سائر القراءات في الآية إشارة إلى مدح الأموال وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن ولأن أترك مالا يحاسبني الله تعالى عليه خير من أن أحتاج إلى الناس، وقال عبد الله بن عباس: الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك، وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال، وقيل لأبي الزناد:
لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها، وفي منثور الحكم من استغنى كرم على أهله، وفيه أيضا الفقر مخذلة والغنى مجذلة والبؤس مرذلة والسؤال مبذلة. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وقال أبو العتاهية:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى | وكل غنى في العيون جليل |
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت | اليه ومال الناس حيث يميل |
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى | عشية يقرى أو غداة ينيل |
قالوا اغتنى ناس وإنا نرى | عنك وأنت العلم المال مال |
قلت غنى النفس كمال الغنى | والفقر كل الفقر فقد الكمال |
قالوا حوى المال رجال وما | على كمال نلت هذا المنال |
فقلت حازوا بعض أجزائه | وإنني حزت جميع الكمال |
منها كان الإنفاق من نفس المال، وجوز بعضهم أن تكون في بمعنى من التبعيضية.
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي كلاما تطيب به نفوسهم كأن يقول الولي لليتيم: مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك، وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بعدة جميلة في البر والصلة، وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غزاي جعلت لك حظا، وقال الزجاج: علموهم- مع إطعامكم وكسوتكم إياهم- أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل، وقال القفال: إن كان صبيا فالوصي يعرفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه يرد المال إليه، وإن كان سفيها وعظه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإتلاف فقر واحتياج.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه فقل له: عافانا الله تعالى وإياك بارك الله تعالى فيك، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر لما أنه ظاهر في أن الخطاب في هذه الجملة ليس للأولياء، وبالجملة كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل معروف، وكل ما أنكرته لقبحه شرعا أو عقلا منكر- قاله غير واحد- وليس إشارة إلى المذهبين في الحسن والقبح هل هو شرعي أو عقلي- كما قيل- إذ لا خلاف بيننا وبين القائلين بالحسن والقبح العقليين في الصفة الملائمة للغرض والمنافرة له، وإن منها ما مأخذه العقل وقد يرد به الشرع، وإنما الخلاف- فيما يتعلق به المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا- هل هو مأخذه للشرع فقط أو العقل على ما حقق في الأصول وَابْتَلُوا الْيَتامى شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق، والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء- قاله شيخ الإسلام- وهو ظاهر على تقدير أن يراد السفهاء المبذرين (١) بالفعل من اليتامى وأما على تقدير أن يراد بهم اليتامى مطلقا ووصفهم بالسفه باعتبار ما أشير إليه فيما مر ففيه نوع خفاء، وقيل: إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا شروع وهو مبني على أن ما تقدم كان مذكورا على سبيل الاستطراد والخطاب للأولياء، والابتلاء الاختبار أي- واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها وجربوهم بما يليق بحالهم- والاقتصار على هذا الاهتداء رأي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، والشافعي رحمه الله تعالى يعتب مع هذا أيضا الصلاح في الدين، إلى ذلك ذهب ابن جبير، ونسب إلى ابن عباس، والحسن.
واتفق الإمامان رضي الله تعالى عنهما على أن هذا الاختبار قبل البلوغ وظاهر الكلام يشهد لهما لما تدل عليه الغاية، وقال الإمام مالك: إنه بعد البلوغ، وفرع الإمام الأعظم على كون الاختيار قبل أن تصرفات العاقل المميز بإذن
الولي صحيحة لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء مثلا، وقال الشافعي: الاختيار لا يقتضي الإذن في التصرف لأنه يتوقف على دفع المال إلى اليتيم- وهو موقوف على الشرطين- وهما إنما يتحققان بعد، بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال، فولد التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولي إن أراد وعلى هذا القياس حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي إذا بلغوا حدّ البلوغ وهو إما بالاحتلام، أو بالسن- وهو خمس عشرة سنة- عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد- وهي رواية عن أبي حنيفة- وعليها الفتوى عند الحنفية لما أن العادة الفاشية أن الغلام والجارية يصلحان للنكاح وثمرته في هذه المدة ولا يتأخران عنها، والاستدلال بما أخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود- ضعيف لأن البيهقي نفسه صرح بأن إسناد الحديث ضعيف، وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للغلام تمام ثماني عشرة سنة وللجارية تمام سبع عرة سنة، وله في ذلك قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
[الأنعام: ١٥٢] وأشدّ الصبي ثماني عشرة سنة- هكذا قاله ابن عباس- وتابعه القتبي، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن غير أن الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة، والمراد أن يطعن في التاسعة عشرة ويتم له ثماني عشرة، وقيل: فيه اختلاف الرواية لذكر حتى يستكمل تسع عشرة سنة.
وشاع عن الإمام الشافعي أنه قد جعل الإنبات دليلا على البلوغ في المشركين خاصة، وشنع ابن حزم الضال عليه، والذي ذكره الشافعية أنه إذا أسر مراهق ولم يعلم أنه بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالبالغين من قتل ومنّ وفداء بأسرى منا أو مال واسترقاق. أو غير بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالصبيان من الرق يكشف عن سوأته فإن أنبت فله حكم الرجال وإلا فلا وإنما يفعل به ذلك لأنه لا يخبر المسلمين ببلوغه خوفا من القتل بخلاف المسلم فإنه لا يحتاج إلى معرفة بلوغه بذلك، ولا يخفى أن هذا لا يصلح محلا للتشنيع وغاية ما فيه أنه جعل الإنبات سببا لإجراء أحكام الرجال عليه في هذه المسألة لعدم السبيل إلى معرفة البلوغ فيها وصلاحتيه لأن يكون أمارة في الجملة لذلك ظاهرة، وأما أن فيه أن الإنبات أحد أدلة البلوغ مثل الاحتلام والإحبال والحيض والحبل في الكفار دون المسلمين فلا فَإِنْ آنَسْتُمْ أي أحسستم- قاله مجاهد- وأصل معنى الاستئناس- كما قال الشهاب- النظر من بعد مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يؤنس به، ثم عم في كلامهم قال الشاعر:
«آنست» نبأة وأفزعها الق | ناص عصرا وقد دنا الإمساء |
خلا أن العتاق من المطايا | أحسن به فهن إليه شوس |
أَمْوالَهُمْ أي من غير تأخير عن حدّ البلوغ كما تدل عليه الفاء، وفي إيثار الدفع على الإيتاء في أول الأمر إيذان على ما ذهب إليه البعض بتفاوتهما بحسب المعنى، وقد تقدم الكلام في ذلك، ونظم الآية أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله:
سريت بهم حتى تكل مطيهم | وحتى الجياد ما يقدن بأرسان |
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا | منا معاقد عز زانها كرم |
للحجر بعده وفي الكافي وللإمام الأعظم قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، والمراد بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال بعد البلوغ إلا أنه منع عنه ماله قبل هذه المدة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنص والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم عندنا على أن الشرط رشد نكرة فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه، وأول أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه، وإذا امتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا وحدث ضرب من الرشد لا محالة لأنه حال كمال لبه فقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمسا وعشرين.
وقال أهل الطباع: من بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ أشده ألا ترى أنه قد يصير جدا صحيحا في هذا السن لأن أدنى مدة البلوغ اثنا عشر حولا وأدنى مدة الحمل ستة أشهر، ففي هذه المدة يمكن أن يولد له ابن ثم ضعف هذا المبلغ يولد لابنه ابن.
وأنت تعلم أن الاستدلال بما ذكر من الآية على الوجه الذي ذكر ظاهر بناء على أن المراد بالإيتاء فيها الدفع، وقد مر الكلام في ذلك، واعترض على قوله: على أن الشرط إلخ بأنه إذا كان ضرب من الرشد كافيا- كما يشعر به التنكير وكان ذلك حاصلا لا محالة في ذلك السن كما هو صريح كلامه، واستدل عليه بما استدل- كان الدفع حينئذ عند إيناس الرشد- وهو مذهب الشافعي، وقول الإمامين- فلم يصح أن يقال: إن مذهب الإمام وجوب دفع مال اليتيم إليه إن أونس منه الرشد أو لم يؤنس غاية ما في الباب أنه يبقى خلاف بين الإمام وغيره في أن الرشد المعتبر شرطا للدفع في الآية ماذا- وهو أمر آخر وراء ما شاع عن الإمام رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة- وأيضا إن أريد بهذا الضرب من الرشد الذي أشار إليه التنوين هو الرشد في مصلحة المال فكونه لا بدّ وأن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو على فرض تسليم حصوله إذ ذاك لا يجدي نفعا إذ الآية كالصريحة في اشتراط الضرب الأول فقد قال الفخر: لا شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فيجب أن يكون المراد فإن آنستم رشدا في ضبط مصالحه فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال لا ضرب من الرشد كيف كان، ثم قال:
والقياس الجلي يقوي الاستدلال بالآية لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشاب والشيخ كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليهما إن لم يؤنس منهما الرشد ومنه يعلم ما في التعليل السابق أعني قولهم لأن المنع كان لرجاء التأديب إلخ من النظر ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنع الضال ابن حزم كعادته مع سائر أئمة الدين على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وتابعه في ذلك سفهاء الشيعة- كيوسف الأوالي وغيره- ولا يخفى أن المسألة من الفروع، وكم لابن حزم وأتباعه فيها من المخالفات للكتاب والسنة ومتمسكهم في ذلك بما هو أوهى وأوهن من بيت العنكبوت.
ومن أمعن النظر فيما ذهب إليه الإمام علم أن نظره رضي الله تعالى عنه في ذلك دقيق لأن اليتيم بعد أن بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره وصار مورد الخطابات الإلهية والتكاليف الشرعية وسلم الله تعالى إليه نفسه يتصرف بها حسب اختياره المترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب كان منع ماله عنه وتصرف الغير به أشبه الأشياء بالظلم، ثم هذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ مطلقا من غير تأخير إلى بلوغه سن خمس وعشرين فيمن بلغ غير رشيد إلا أنا أخرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ورجاء الرشد والكف عن السفه وما فيه تبذير المال وإفساده، نظير ذلك
من وجه أخذ أموال البغاة وحبسها عنهم ليفيئوا، واعتبرت الزيادة سبع سنين لأنها- كما تقدم- مدة معتبرة في تغير الأحوال، والعشر مثلا وإن كانت كذلك كما يشير إليه
قوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع»
إلا أنا اعتبرنا الأقل لأنه كاف في الغرض غالبا، ولا يرد أن المنع يدور مع السفه لأنا لا نسلم أنه يدور مع السفه مطلقا بل مع سفه الصبا ولا نسلم بقاءه بعد تلك المدة على أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدمه عندنا فأصل الدوران حينئذ ممنوع، وعلى هذا لا معنى للتشنيع على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيما ذهب إليه، ويؤيد مذهبه أيضا قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا فإنه مشير إلى أنه لا يمنع مال اليتيم عنه إذا كبر، إذ المعنى لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا إلا أنه قدر الكبر فيمن بلغ سفيها بما تقدم لما تقدم، فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك.
والإسراف في الأصل تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الإفراط، وربما كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال: أسرف يسرف إسرافا، وإذا كان في التقصير يقال: سرف يسرف سرفا ويستعمل بمعنى السهو والخطأ وهو غير مراد أصلا، والمبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم واليتيم يبادر نزعه منه، وأصلها كما قيل: من البدار وهو الامتلاء ومنه البدر لامتلائه نورا، والبدرة لامتلائها بالمال، والبيدر لامتلائه بالطعام والاسمان المتعاطفان منصوبان على الحال كما أشرنا اليه، وقيل: إنهما مفعول لهما والجملة معطوفة على- ابتلوا- لا على جواب الشرط لفساد المعنى لأن الأول بعد البلوغ وهذا قبله، ويَكْبَرُوا بفتح الباء الموحدة من باب علم يستعمل في السن، وأما بالضم فهو في القدرة والشرف، وإذا تعدى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا وتخصيص الأكل الذي هو أساس الانتفاع وتكثر الحاجة إليه بالنهي يدل على النهي عن غيره بالطريق الأولى، وفي الجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى:
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ إلخ أي ومن كان من الأولياء والأوصياء ذا مال فليكف نفسه عن أكل مال اليتيم ولينتفع بما آتاه الله تعالى من الغنى، فالاستعفاف الكف وهو أبلغ من العف، وفي المختار يقال: عف عن الحرام يعف بالكسر عفة وعفا وعفافة أي كف فهو عف وعفيف، والمرأة عفة وعفيفة، وأعفه الله تعالى، واستعف عن المسألة أي عف، وتعفف تكلف العفة، وتفسيره بالتنزه كما يشير إليه كلام البعض بيان لحاصل المعنى وَمَنْ كانَ من الأولياء والأوصياء فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته الضرورية من سدّ الجوعة وستر العورة قاله عطاء وقتادة.
وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس أنه قال: يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذر،
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر سأل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال وإني ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله،
وهل يعد ذلك أجرة أم لا؟ قولان، ومذهبنا الثاني كما صرح به الجصاص في الأحكام، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني والباقر رضي الله تعالى عنهم. وآخرين أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر الكفاية على جهة القرض فإذا وجد ميسرة أعطى ما استقرض، وهذا هو الأكل بالمعروف، ويؤيده ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهما من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت، وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ. وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: وَمَنْ كانَ فَقِيراً
الآية نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: ١٠] إلخ، وذهب قوم إلى إباحة الأكل دون الكسوة، ورواه عكرمة عن ابن عباس، وزعم آخرون أن الآية نزلت في حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد- وهو مردود- لأن قوله سبحانه: فَلْيَسْتَعْفِفْ لا يعطي معنى ذلك، والتفكيك مما لا ينبغي أن يخرج عليه النظم الكريم فَإِذا دَفَعْتُمْ أيها الأولياء الأوصياء إِلَيْهِمْ أي اليتامى بعد رعاية ما ذكر لكم أَمْوالَهُمْ التي تحت أيديكم، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاهتمام به فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأن قبضوها وبرئت عنها ذممكم لما أن ذلك أبعد عن التهمة وأنفى للخصومة وأدخل في الأمانة وهو أمر ندب عندنا، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه أمر وجوب، واستدلوا بذلك على أن القيم لا يصدق بقوله في الدفع بدون بينة وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي شهيدا قاله السدي، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن معنى وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم وهذا موافق لمذهبنا في عدم لزوم البينة، وقيل: إن المعنى وَكَفى به تعالى محاسبا لكم فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم، ولا يخفى موقع المحاسب هنا لأن الوصي يحاسب على ما في يده، وفي فاعل كَفى كما قال أبو البقاء: وجهان، أحدهما أنه الاسم الجليل، والباء زائدة دخلت لتدل على معنى الأمر، فالتقدير اكتفوا بالله تعالى، والثاني أن الفاعل مضمر والتقدير كَفى الاكتفاء بالله تعالى، فبالله على هذا في موضع نصب على أنه مفعول به، وحَسِيباً حال، وقيل: تمييز، وَكَفى متعدية إلى مفعول واحد عند السمين، والتقدير وكفاكم الله حسيبا، وإلى مفعولين عند أبي البقاء والتقدير، وكفاكم الله شركم، ونحو ذلك.
هذا «ومن باب الإشارة» يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي احذروه من المخالفات والنظر إلى الأغيار والزموا عهد الأزل حين أشهدكم على أنفسكم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي الحقيقة المحمدية ويعبر عنها أيضا بالنفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم وبآدم الحقيقي الذي هو الأب لآدم، وإلى ذلك أشار سلطان العاشقين ابن الفارض قدس سره بقوله على لسان تلك الحقيقة:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة | فلي فيه معنى شاهد بأبوتي |
بين النساء فتقعوا في نحو ما هربتم منه فَواحِدَةً تكفيكم في تحصيل غرضكم (١) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ مهورهن نِحْلَةً عطية من الله وفضلا، وفيه إشارة إلى التخلية عن البخل والغدر والتحلية بالوفاء والكرم، وذلك من جملة ما يربى به القوى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ولا تأنفوا وتتكبروا عن ذلك وهذا أيضا نوع من التربية لما فيه من التخلية عن الكبر والأنفة والتحلية بالتواضع والشفقة وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أي لا تودعوا الناقصين عن مراتب الكمال أسراركم وعلومكم الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي غذوهم بشيء منها وَاكْسُوهُمْ أي حلوهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً لينقادوا إليكم ويسلموا أنفسهم بأيديهم وَابْتَلُوا الْيَتامى
أي اختبروهم، ولعله إشارة إلى اختبار الناقصين من السائرين حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ وصلحوا للإرشاد والتربية فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أي استقامة في الطريق وعدم تلون فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ التي يستحقونها من الأسرار التي لا تودع إلا عند الأحرار.
والمراد إيصاء الكمل من الشيوخ أن يخلفوا ويأذنوا بالإرشاد من يصلح لذلك من المريدين السالكين على أيديهم وَلا تَأْكُلُوها أي ننتفعوا بتلك الأموال دونهم إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا بالتصدي للإرشاد فإن ذلك من أعظم أدواء النفس والسموم القاتلة وَمَنْ كانَ منكم غَنِيًّا بالله لا يلتفت إلى ضرورات الحياة أصلا فَلْيَسْتَعْفِفْ عما للمريد وَمَنْ كانَ فَقِيراً لا يتحمل الضرورة فَلْيَأْكُلْ أي فلينتفع بما للمريد بِالْمَعْرُوفِ وهو ما كان بقدر الضرورة فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ الله تعالى وأرواح أهل الحضرة وخذوا العهد عليهم برعاية الحقوق مع الحق والخلق وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً لأنه الموجود الحقيقي والمطلع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو حسبنا ونعم الوكيل لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث، والمراد من الرجال الأولاد الذكور، أو الذكور أعم من أن يكون كبارا أو صغارا، ومن الأقربين الموروثون، ومن الوالدين ما لم يكن بواسطة، والجد والجدة داخلان تحت الأقربين، وذكر الولدان مع دخولهما أيضا اعتناء بشأنهما، وجوز أن يراد من الوالدين ما هو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فيشمل الجد والجدة، واعترض بأنه يلزم توريث أولاد الأولاد مع وجود الأولاد. وأجيب بأن عدم التوريث في هذه الصورة معلوم من أمر آخر لا يخفى، والنصيب الحظ كالنصب بالكسر ويجمع على أنصباء وأنصبة، ومن- في «مما» متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله أي نصيب كائن مِمَّا تَرَكَ وجوز تعلقه بنصيب.
وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ المراد من النساء البنات مطلقا، أو الإناث كذلك، وإيراد حكمهن على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام السالفين بأن يقال للرجال والنساء نصيب إلخ للاعتناء- كما قال شيخ الإسلام- بأمرهن والإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة، وللرد عليهم نزلت هذه الآية- كما قال ابن جبير وغيره-
وروي أن أوس بن ثابت، وقيل: أوس بن مالك، وقيل: ثابت بن قيس، وقيل: أوس بن الصامت- وهو خطأ- لأنه توفي في زمن خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه مات وترك ابنتين وابنا صغيرا، وزوجته أم كجة، وقيل: بنت كجة، وقيل: أم كحلة، وقيل: أم كلثوم فجاء أبناء عمه خالد، أو سويد وعرفطة، أو قتادة وعرفجة فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما: تزوجا بالابنتين وكانت بهما دمامة فأبيا
فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما أدري ما أقول؟ فنزلت لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية فأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ابني العم فقال: لا تحركا من الميراث شيئا فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبا ثم نزل بعد ذلك وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله: عَلِيماً ثم نزل يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء: ١١] فدعا صلّى الله عليه وسلم بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يعط ابني العم شيئا»، وفي بعض طرقه- أن الميت خلف زوجة وبنتين وابني عم فأعطى صلّى الله عليه وسلم الزوجة الثمن، والبنتين الثلثين وابني العم الباقي.
وفي الخبر دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب، ومن عمم الرجال والنساء، وقال: إن الأقربين عام لذوي القرابة النسبية والسببية جعل الآية متضمنة لحكم الزوج والزوجة واستحقاق كل منهما الإرث من صاحبه، ومن لم يذهب إلى ذلك وقال: إن الأقربين خاص بذوي القربة النسبية جعل فهم الاستحقاق كفهم المقادر المستحق مما سيأتي من الآيات، وعلل الاقتصار على ذكر الأولاد والبنات هنا بمزيد الاهتمام بشأن اليتامى، واحتج الحنفية والإمامية بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قالوا: لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه: لِلرِّجالِ إلخ غاية ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بها، وأما المقدار فمستفاد من سائر الدلائل، والإمامية فقط على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورثون كغيرهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا رده على أتم وجه.
مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل من ما الأخيرة بإعادة العامل قبل، ولعلهم إنما لم يعتبروا كون الجار والمجرور بدلا من الجار المجرور لاستلزامه إبدال من- من من- واتحاد اللفظ في البدل غير معهود.
وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور حالا من الضمير المحذوف في تَرَكَ أي مما تركه قليلا أو كثيرا أو مستقرا مما قل، ومثل هذا القيد معتبر في الجملة الأولى إلا أنه لم يصرح به هناك تعويلا على ذكره هنا، وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال، وبهذا يرد على الإمامية لأنهم يخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس البدني بدون عوض عند أكثرهم وهذا من الغريب كعدم توريث الزوجة من العقار مع أن الآية مفيدة أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق، وتقديم القليل على الكثير من باب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩] نَصِيباً مَفْرُوضاً نصب إما على أنه مصدر مؤكد بتأويله بعطاء ونحوه من المعاني المصدرية وإلا فهو اسم جامد، ونقل عن بعضهم أنه مصدر، وإما على الحالية من الضمير المستتر في قَلَّ وكَثُرَ أو في الجار والمجرور الواقع صفة، أو من نصيب لكون وصفه بالظرف سوغ مجيء الحال منه أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا إذ المعنى ثبت لهم مفروضا نصيب، وهو حينئذ حال موطئة والحال في الحقيقة وصفه، وقيل: هو منصوب على أنه مفعول بفعل محذوف والتقدير أوجب لهم نصيبا، وقيل: منصوب على إضمار أعني ونصبه على الاختصاص بالمعنى المشهور مما أنكره أبو حيان لنصهم على اشتراط عدم التنكير في الاسم المنصوب عليه، والفرض- كالضرب- التوقيت ومنه فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة: ١٩٧] والحز في الشيء كالتفريض وما أوجبه الله تعالى كالمفروض سمي بذلك لأن له معالم وحدودا، ويستعمل بمعنى القطع، منه قوله تعالى: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: ١١٨] أي مقتطعا محدودا كما في الصحاح، فمفروضا هنا إما بمعنى مقتطعا محدودا كما في تلك الآية، وإما بمعنى ما أوجبه الله تعالى أي نصيبا أوجبه الله تعالى لهم.
وفرق الحنفية بين الفرض والواجب بأن الفعل غير الكف المتعلق به خطاب بطلب فعل بحيث ينتهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب إن ثبت بقطعي، ففرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: ٢٠] وإن ثبت بظني فهو الواجب نحو تعيين الفاتحة الثابت
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»
وهو آحاد، ونفي الفضيلة محتمل ظاهر، وذهب الشافعية إلى ترادفهما، واحتج كل لمدعاه بما احتج به، والنزاع على ما حقق في الأصول لفظي قاله غير واحد، وقال بعض المحققين: لا نزاع للشافعي في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي- كحكم الكتاب- وما ثبت بدليل ظني- كحكم خبر الواحد في الشرع- فإن جاحد الأول كافر دون الثاني، وتارك العمل بالأول مؤولا فاسق دون الثاني، وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعا سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني، وهذا مجرد اصطلاح، فلا معنى للاحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد موجب للتفاوت بين مدلوليهما، أو بأن الفرض في اللغة التقدير والوجوب هو السقوط، فالفرض علم قطعا أنه مقدر علينا، والواجب ما سقط علينا بطريق الظن ولا يكون المظنون مقدرا ولا المعلوم القطعي ساقطا علينا على أن للخصم أن يقول: لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا نسلم امتناع أن يثبت كون الشيء مقدرا علينا بدليل ظني، وكونه ساقطا علينا بدليل قطعي، ألا ترى أن قولهم: الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع، وأيضا الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت، وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب إنما هو الوجبة والوجيب، ثم استعمال الفرض- فيما ثبت بظني، والواجب فيما ثبت بقطعي- شائع مستفيض كقولهم: الوتر فرض، وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك، ويسمى فرضا عمليا، وكقولهم: الصلاة واجبة والزكاة واجبة، ونحو ذلك، ومن هنا يعلم سقوط كلام بعض الشافعية في ردّ استدلال الحنفية بما تقدم على توريث ذوي الأرحام بأن الواجب عند الحنفية ما علم ثبوته بدليل مظنون، والمفروض ما علم بدليل قاطع، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق، فعرفنا أنه غير مراد من الآية ووجه السقوط ظاهر غني عن البيان.
واحتج بعضهم بالآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي قسمة التركة بين أربابها وهي مفعول به، وقدمت لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعددا فلو روعي الترتيب يفوت تجاذب أطراف الكلام، وقيل: قدمت لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما أنها أمامهم في الواقع، وهي نكتة للتقديم لم أر من ذكرها من علماء المعاني أُولُوا الْقُرْبى ممن لا يرث لكونه عاصبا محجوبا أو لكونه من ذوي الأرحام، والقرينة على إرادة ذلك ذكر الورثة قبله وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ من الأجانب فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم شيئا من المال، أو المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل: الضمير لما وهو أمر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقلوب المذكورين وتصدقا عليهم، وقيل: أمر وجوب، واختلف في نسخه ففي بعض الروايات عن ابن عباس أنه لا نسخ والآية محكمة وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ.
وحكي عن سعيد بن جبير أن المراد من أولي القربى هنا الوارثون، ومن الْيَتامى وَالْمَساكِينُ غير الوارثين وأن قوله سبحانه: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ راجع إلى الأولين، وقوله تعالى: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً راجع للآخرين وهو بعيد جدا، والمتبادر ما ذكر أولا وهذا القول للمرزوقين من أولئك المذكورين، والمراد من القول المعروف أن
يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم، وقوله سبحانه: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فيه أقوال: أحدها أنه أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى أو يخافوا على أولادهم فيفعلوا مع اليتامى ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية: يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم يقول: فإن ولى مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا والآية على هذا مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى: لِلرِّجالِ إلخ في معنى الأمر للورثة أي أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم، وقيل في وجه الارتباط: إن هذا وصية للأوصياء بحفظ الأيتام بعد ما ذكر الوارثين الشاملين للصغار والكبار على طريق التتميم، وقيل: إن الآية مرتبطة بقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى، وثانيها أنه أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم، ونسب نحو هذا إلى الحسن وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير.
وروي عن ابن عباس أيضا ما يؤيده، فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه أنه قال في الآية: يعني الرجل يحضره الموت فيقال له: تصدق من مالك وأعتق وأعط منه في سبيل الله فنهوا أن يأمروا بذلك يعني أن من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون يوصي لهم بالخمس، أو الربع، يقول: أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف- يعني صغار- لا يرضى أن يتركهم بغير مال فيكونوا عيالا على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك، وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء وما بعده للورثة، وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم أو لا يأمروه بما يضر، فالآية مرتبطة بما قبلها أيضا، وثالثها أنه أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم، واتصال الكلام على هذا بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم كما يخافون من حرمان ضعاف ذريتهم، ورابعها أمر للمؤمنين أن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث ويقولون: إن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث، وورد في الخبر ما يؤيده، وعلى هذا فالمراد من الذين المرضى. وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفا على ذريتهم الضعاف، والقرينة عليه أنهم المشارفون لذلك ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفا عن أخذ ما زاد من الوصية فيرتبط به، ويكون متصلا بما قبله تتميما لأمر الأوصياء، والورثة بأمر مرضى المؤمنين، وهذا أبعد الوجوه وأبعد منه ما قيل: إنه أمر لمن حضر المريض بالشفقة على ذوي القربى بأن لا يقول للمريض لا توص لأقاربك ووفر على ذريتك، وأبعد من ذلك القول: بأنه أمر للقاسمين بالعدل بين الورثة في القسمة بأن لا يراعوا الكبير منهم فيعطوه الجيد من التركة ولا يلتفتوا إلى الصغير ولو بما في حيزه صلة الموصول كما قال غير واحد. ولما كانت الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للخاطب ثابتة للموصول كالصفة قالوا: إنها هنا كذلك أيضا وأن المعنى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع.
وذهب الأجهوري وغيره إلى أن لَوْ بمعنى إن فتقلب الماضي إلى الاستقبال، وأوجبوا حمل تَرَكُوا على المشارفة ليصح وقوع خافُوا جزاء له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة، وفي ترتيب الأمر على الوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية إشارة إلى أن المقصود من الأمر أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع
أولادهم، وفيه تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم، ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ الله تعالى أولادهم، أخرج ابن جرير عن الشيباني قال: كنا في القسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانىء بن كلثوم فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان فضقت ذرعا مما سمعت فقلت لابن الديلمي: يا أبا بشر يودني أنه لا يولد لي ولد أبدا فضرب بيده على منكبي وقال: يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من نسمة كتب الله أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى، ثم قال: ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله تعالى منه وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله تعالى فيك؟ قلت: بلى فتلا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ الآية، وفي وصف الذرية بالضعاف بعث على الترحم والظاهر أن مِنْ خَلْفِهِمْ ظرف لتركوا، وفي التصريح به مبالغة في تهويل تلك الحالة، وجوز أن يكون حالا من ذُرِّيَّةً وضِعافاً كما قال أبو البقاء: يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأجل الكسرة، وجاز ذلك مع حرف الاستعلاء لأنه مكسور مقدم ففيه انحدار، وكذلك «خافوا» يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال وهو خفت وقرئ- «ضعفاء» «وضعافى» و «ضعافى»، نحو سكارى وسكارى فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وإنما أمرهم سبحانه بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ولما لم ينفع الأول بدون الثاني لم يقتصر عليه مع استلزامه له عادة وَلْيَقُولُوا لليتامى، أو للمريض، أو لحاضري القسمة، أو ليقولوا في الوصية قَوْلًا سَدِيداً فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال، ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن بالله، وما يصده عن الإسراف بالوصية وتضييع الورثة، ويقول الوارث لحاضر القسمة ما يزيل وحشته، أو يزيد مسرته ويقول الموصي في إيصائه ما لا يؤدي إلى تجاوز الثلث، والسديد- على ما قال الطبرسي- المصيب العدل الموافق للشرع. وقيل: ما لا خلل فيه، ويقال سدّ قوله يسدّ بالكسر إذا صار سديدا، وأنه ليسد في القول فهو مسدّ إذا كان يصيب السداد أي القصد، وأمر سديد وأسد أي قاصد، والسداد بالفتح الاستقامة والصواب، وكذلك السدد مقصور منه، وأما السداد بالكسر فالبلغة، وما يسد به، ومنه قولهم: فيه سداد من عوز- قاله غير واحد- وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون: سداد من عوز فيفتحون السين- وهو لحن- والصواب الكسر، وتعقبه ابن بري بأنه وهم فإن يعقوب بن السكيت سوى بين الفتح والكسر في إصلاح المنطق في باب فعال وفعال بمعنى واحد، فقال: يقال سداد من عوز وسداد، وكذا حكاه ابن قتيبة في أدب الكاتب وكذا في الصحاح إلا أنه زاد والكسر أفصح، نعم ذكر فيها أن سداد القارورة وسداد الثغر بالكسر لا غير، وأنشد قول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا | ليوم كريهة «وسداد» ثغر |
كلوا في «بعض بطنكم» تعفوا | فإن زمانكم زمن خميص |
وجوز أن يكون ذكر البطون للتأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: ١٦٧] والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: ٤٦] والقلب لا يكون إلا في الصدر، وقوله سبحانه: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨] والطير لا يطير إلا بجناح، فقد قالوا:
إن الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة، ثم المظروف هنا المفعول أي المأكول لا الفاعل، وتحقيق ذلك على ما نقل عن التمرتاشي في الإيمان أنه إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل ومفعول كما إذا قلت: إن ضربت زيدا في الدار، أو في المسجد فكذا فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر، وإن كان الفاعل فيه دون المفعول، أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه، ولذا قال بعض الفقهاء: لو قال: إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فشرط حنثه كون الفاعل فيه، ولو قال: إن ضربته، أو جرحته، أو قتلته، أو رميته فشرطه كون المفعول فيه، وإنما كان الرمي في الأول مما لا يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم من القوس بنيته، وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل، وفي الثاني مما يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم، أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيجرحه أو يوجعه ويؤلمه، ولا شك أن ما نحن فيه من قبيل هذا القسم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك، والجار والمجرور متعلق- بيأكلون- وهو الظاهر، وقيل: إنه حال من قوله تعالى: ناراً أي ما يجرّ إليها فالنار مجاز مرسل من ذكر المسبب وإرادة السبب، وجوز في ذلك الاستعارة على تشبيه ما أكل من أموال اليتامى بالنار لمحق ما معه، واستبعده بعض المحققين، وذهب بعضهم إلى جواز حمله على ظاهره، فعن عبيد الله بن جعفر أنه قال: من أكل مال اليتيم فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة فيملأ فمه جمرا ويقال له كل ما أكلته في الدنيا ثم يدخل السعير الكبرى.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «حدثني النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار فيقذف في أجوافهم حتى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما»
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أي سيدخلون نارا هائلة مبهمة الوصف، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم ياء المضارعة، والباقون بفتحها، وقرئ وَسَيَصْلَوْنَ بتشديد اللام، وفي الصحاح يقال: صليت اللحم، وغيره أصليه صليا مثل رميته رميا إذا شويته، وصليت الرجل نارا إذا أدخلته وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء- كأنك تريد الإحراق- قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية، ويقال: صلى بالأمر إذا قاسى حره وشدته، قال الطهوي:
ولا تبلى بسالتهم وإن هم | صلوا بالحرب حينا بعد حين |
بمعنيين كما يشير إليه ما في الصحاح، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا أوقدتها وألهبتها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير أن السعير واد من فيح جهنم، وظاهر الآية أن هذا الحكم عام لكل من يأكل مال اليتيم مؤمنا كان أو مشركا، وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه قال: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم أي اليتامى ويأكلون أموالهم، ولا يخفى أنه إن أراد حكم الآية خاص بأهل الشرك فقط فغير مسلم، وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس به إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ [البقرة: ٢٢٠] الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ شروع في بيان ما أجمل في قوله عز وجل لِلرِّجالِ نَصِيبٌ إلخ، والوصية كما قال الراغب: أن يقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم، وبالثاني فسره في القاموس وعدل عن الأمر إلى الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب الحصول بسرعة فِي أَوْلادِكُمْ أي في توريث أولادكم، أو في شأنهم وقدر ذلك ليصح معنى الظرفية، وقيل: فِي بمعنى اللام كما
في خبر «إن امرأة دخلت النار في هرة»
أي لها كما صرح به النحاة، والخطاب قيل: للمؤمنين وبين المتضايفين مضاف محذوف أي يوصيكم في أولاد موتاكم لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده، وقيل: الخطاب لذوي الأولاد على معنى يوصيكم في توريثهم إذا متم وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف كما لو فسر يوصيكم يبين لكم، وبدأ سبحانه بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاء بعد المورث، وسبب نزول الآية ما أشرنا إليه فيما مر.
وأخرج عبد بن حميد عن جابر قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يعودني وأنا مريض فقلت كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد عليّ شيئا فنزلت لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
في موضع التفصيل والبيان للوصية فلا محل للجملة من الإعراب وجعلها أبو البقاء في موضع نصب على المفعولية ليوصي باعتبار كونه في معنى القول، أو الفرض أو الشرع وفيه تكلف، والمراد أنه يعدّ كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان من الذكور والإناث واتحدت جهة إرثهما فيضعف للذكر نصيبه كذا قيل، والظاهر أن المراد بيان حكم اجتماع الابن والبنت على الإطلاق. ولا بد في الجملة من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم: السمن منوان بدرهم، والتقدير هنا للذكر منهم فتدبر، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه- مع أن مقتضى كون الآية نزلت في المشهور لبيان المواريث- ردا لما كانوا عليه من توريث الذكور دون الإناث الاهتمام بالإناث، وأن يقال: للأنثيين مثل حظ الذكر لأن الذكر أفضل، ولأن ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غيره، ولذا قال سبحانه: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: ٧] فقدم ذكر الإحسان وكرره دون الإساءة، ولأن في ذلك تنبيها على أن التضعيف كاف في التفضيل فكأنه حيث كانوا يورثون الذكور دون الإناث قيل لهم: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن عن الميراث بالكلية مع تساويهما في جهة الإرث. وإيثار اسمي الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا- كما هو زعم أهل الجاهلية- حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء، والحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الإناث من المال أقل من نصيب الذكور نقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الخبر مع أن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن وشهوتهنّ أكثر فقد يصير المال سببا لكثرة فجورهنّ، ومما اشتهر.
إن الشباب والفراغ والجده | مفسدة للمرء أي مفسده |
ذكره بعضهم ولم أقف على صحته، ثم محل الإرث إن لم يقم مانع كالرق والقتل واختلاف الدين كما لا يخفى، واستثني من العموم الميراث من النبي صلّى الله عليه وسلم بناء على القول بدخوله صلّى الله عليه وسلم في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة، والدليل على الاستثناء
قوله صلّى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها صلّى الله عليه وسلم حتى قالت له بزعمهم:
يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا،
وقالوا: إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد، ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ [الطلاق: ٦] فقال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بقول امرأة. فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله، وأيضا العام- وهو الكتاب- قطعي، والخاص- وهو خبر الآحاد- ظني فيلزم ترك القطعي بالظني.
وقالوا أيضا: إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: ١٦] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: ٦] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون، والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص،
وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس ابن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا: اللهم نعم، ثم أقبل على عليّ والعباس فقال:
أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: اللهم نعم،
فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يلتفت إليه، وفي كتب الشيعة ما يؤيده،
فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر»
وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث.
وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة (١) من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعا، فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا ذلك لأن تخصيص القرآن بالخبر المتواتر جائز اتفاقا وإن لم يثبت وبقي الخبر
من الآحاد فنقول: إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة، ويدل على جوازه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خصصوا به من غير نكير فكان إجماعا، ومنه قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: ٢٤] ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها»
والشيعة أيضا قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر، ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك، والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر رضي الله تعالى عنه مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها، ولذلك قال بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما
رواه الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلّى الله عليه وسلم وسليمان عليه السلام غير متصورة بوجه،
وأيضا إن داود عليه السلام- على ما ذكره أهل التاريخ- كان له تسعة عشر ابنا وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمان عليه السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة.
وأيضا توصيف سليمان عليه السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالا ولا يستدعي امتيازا لأن البر والفاجر يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه السلام، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه شيء بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى، وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا، وهذا أفحش من الأول، وإن كان المراد بعض الأولاد، أو أريد من يعقوب غير المتبادر، وهو ابن إسحاق عليهما السلام يقال: أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته، والابن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد، وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني واتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه، ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف، فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها، وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية، وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر، وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وانتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرفه ويتصدق به في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة واحتمال موت الفجأة.
وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه السلام خشي من أشرار
بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الإلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم، فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر واتصال الثواب، والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية، فإن قيل: الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة، فما الضرورة هنا؟ أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب، وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الاستعمال في العرف مختصا بالمال، وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح، وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في استعمال القرآن المجيد، ومن ذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ [فاطر: ٣٢] وأورثوا الكتاب إلى غير ما آية، ومن الشيعة من أورد هنا بحثا، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن؟
والجواب أن ذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنى كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بنى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ذلك لفاطمة رضي الله تعالى عنها. وأمامة وسلمه إليهما، وكان كل من بيده شيء ما بناه له رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتصرف فيه تصرف المالك على عهده عليه الصلاة والسلام، ويدل على ما ذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة، والشيعة أن الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه لما حضرته الوفاة استأذن من عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وسألها أن تعطيه موضعا للدفن جوار جده المصطفى صلّى الله عليه وسلم فإنه إن لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للاستئذان والسؤال معنى وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: ٣٣] فأضاف البيوت إليهنّ ولم يقل في بيوت الرسول، ومن أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص الصديق جناب الأمير رضي الله تعالى عنهما بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل. إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يرث النبي صلّى الله عليه وسلم بوجه، وقد صح أيضا أن الصديق أعطى الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضا من متروكاته صلّى الله عليه وسلم وإنما لم يعط رضي الله تعالى عنه فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم فدكا مع أنها طلبتها إرثا وانحرف مزاج رضاها رضي الله تعالى عنها بالمنع إجماعا وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة، وأتت بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة، ولم تمكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره الأسلمي في الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية وأطال فيه.
وتحقيق الكلام في هذا المقام أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه خص آية المواريث بما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخبره عليه الصلاة والسلام في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة والعمل بسماعة واجب عليه سوء سمعه غيره أو لم يسمع، وقد أجمع أهل الأصول من أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلى من لم يشاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلم وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي صلّى الله عليه وسلم وسمع منه بلا واسطة،
فخبر «نحن معاشر الأنبياء لا نورث»
عند أبي بكر قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعبا منه، والقطعي يخصص القطعي اتفاقا، ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياء عليهم السلام لما علمت، ودعوى الزهراء رضي الله تعالى عنها فدكا بحسب الوراثة لا تدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو
غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها، وكذا أخذ الأزواج المطهرات حجراتهن لا يدل على ذلك لما مر وحلا، وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا بل المتحقق دعوى الإرث، ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهودا، وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي الله تعالى عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود، ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن الصديق ردّ شهادتهم بل لم يقض بها، وفرق بين عدم القضاء هنا والرد، فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلا، والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة، وانحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية، وقد غضب موسى عليه السلام على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئا على أن أبا بكر استرضاها رضي الله تعالى عنها مستشفعا إليها بعلي كرم الله تعالى وجهه فرضيت عنه- كما في مدارج النبوة وكتاب الوفاء وشرح المشكاة للدهلوي- وغيرها، وفي محاج السالكين. وغيره من كتب الإمامية المعتبرة ما يؤيد هذا الفصل حيث
رووا أن أبا بكر لما رأى فاطمة رضي الله تعالى عنها انقبضت عنه وهجرته ولم تتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال: صدقت يا بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما ادعيت ولكن رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يؤتى منها قوتكم فما أنتم صانعون بها؟ فقالت: افعل فيها كما كان أبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل فيها فقال:
لك الله تعالى أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك، فقالت: والله لتفعلن؟ فقال: والله لأفعلن ذلك، فقالت: اللهم اشهد، ورضيت بذلك، وأخذت العهد عليه فكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي بين الفقراء والمساكين وابن السبيل،
وبقي الكلام في سبب عدم تمكينها رضي الله تعالى عنها من التصرف فيها، وقد كان دفع الالتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب، أو تضييق الأمر على المسلمين.
وقد ورد «المؤمن إذا ابتلي ببليتين اختار أهونهما»
على أن رضا الزهراء رضي الله تعالى عنها بعد على الصديق سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب، وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب فَإِنْ كُنَّ نِساءً الضمير للأولاد مطلقا والخبر مفيد بلا تأويل، ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له، ويجوز أن يعود الى المولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد، والمعنى فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا ليس معهن ذكر، وبهذا يفيد الحمل وإلا لاتحد الاسم والخبر فلا يفيد على أن قوله تعالى: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إذا جعل صفة- لنساء- فهو محل الفائدة، وأوجب ذلك أبو حيان فلم يجز ما أجازه غير واحد من كونه خبرا ثانيا ظنا منه عدم إفادة الحمل حينئذ وهو من بعض الظن كما علمت، وجوز الزمخشري أن تكون كان تامة، والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأن- كان- ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده لاختصاصه بباب نعم، والتنازع- كما قاله الشهاب- والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية، وفائدة ذكر ذلك التصريح بعدم اختصاص المراد بعدد دون عدد أي فَإِنْ كُنَّ نِساءً زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن.
فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ أي المتوفى منكم وأضمر لدلالة الكلام عليه، ومثله شائع سائغ وَإِنْ كانَتْ أي المولودة المفهومة من الكلام واحِدَةً أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت.
وقرأ نافع وأهل المدينة واحِدَةً بالرفع على أن كان تامة والمرفوع فاعل لها، ورجحت قراءة النصب بأنها أوفق بما قبل، وقال ابن تمجيد: القراءة بالرفع أولى وأنسب للنظم لتفكك النظم في قراءة النصب بحسب الظاهر، فإنه إن
كان ضمير كان راجعا إلى الأولاد فسد المعنى كما هو ظاهر، وإن كان راجعا إلى المولودة كما قالوه يلزم الإضمار قبل الذكر، وكلا الأمرين مرتفع على قراءة الرفع إذ المعنى وإن وجدت بنت واحدة من تلك الأولاد، والمحققون لا ينكرون مثل هذا الإضمار كما علمت آنفا فَلَهَا النِّصْفُ أي مِمَّا تَرَكَ وترك اكتفاء بالأول والنِّصْفُ مثلث كما في القاموس أحد شقي الشيء، وقرأ زيد بن ثابت النِّصْفُ بضم النون وهي لغة أهل الحجاز، وذكر أنها أقيس لأنك تقول: الثلث والربع والخمس وهكذا وكلها مضمومة الأوائل. وأخذ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بظاهر الآية فجعل الثلثين لما زاد على البنتين كالثلاث فأكثر، وجعل نصيب الاثنتين النصف كنصيب الواحدة، وجمهور الصحابة والأئمة والإمامية على خلافه حيث حكموا بأن للاثنتين وما فوقهما الثلثين، وأن النصف إنما هو للواحدة فقط، ووجه ذلك- على ما قاله القطب- أنه لما تبين أن للذكر مع الأنثى ثلثين إذ للذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الثلثين ليس بحظ لهما أصلا لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الاثنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة الانفراد، وإلى هذا أشار السيد السند في شرح السراجية، وأورد أن الاستدلال دوري لأن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور، وأجيب بأن المستخرج هو حظ المعين للأنثيين وهو الثلثان، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا فلا دور، ولما في هذا الوجه من التكلف عدل عنه بعض المحققين، وذكر أن حكم البنتين مفهوم من النص بطريق الدلالة، أو الإشارة، وذلك لما
رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وأن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يقضي الله تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله ﷺ إلى عمهما فقال: أعط لابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك».
فدل ذلك على أن انفهام الحكم من النص بأحد الطريقين لأنه حكم به بعد نزول الآية، ووجهه أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إذا انفردا عنه استحقتا أكثر من ذلك لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعد ما كانت معه تأخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما كما يأخذه الذكر في الجملة وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت (١) فيكون قوله سبحانه: فَإِنْ كُنَّ نِساءً إلخ بيانا لحظ الواحدة، وما فوق الثنتين بعد ما بين حظهما ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها، وهذا مما لا غبار عليه، وقيل: إن حكم البنتين ثبت بالقياس على البنت مع أخيها أو على الأختين.
أما الأول فلأنها لما استحقت البنت الثلث مع الأخ فمع البنت بالطريق الأولى، وأما الثاني فلأنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات ولم يذكر حكم البنتين، وذكر في ميراث الأخوات حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك، وقد ذهب إلى هذا غير واحد من المتأخرين، وجعله العلامة ناصر
الدين مؤيدا ولم يجعله دليلا للاستغناء عنه بما تقدم، ولأنه قيل: إن القياس لا يجري في الفرائض والمقادير، ونظر بعضهم في الأول بأن البنت الواحدة لم تستحق الثلث مع الأخ بل تستحق نصف حظه وكونه ثلثا على سبيل الاتفاق ولا يخفى ضعفه، وقيل: يمكن أن يقال: ألحق البنتان بالجماعة لأن وصف النساء يفوق اثنتين للتنبيه على عدم التفاوت بين عدد وعدد، والبنتان تشارك الجماعة في التعدد، وقد علم عدم تأثير القلة والكثرة، فالظاهر إلحاقهما بالجماعة بجامع التعدد، وعدم اعتبار القلة والكثرة دون الواحدة لعدم الجامع بينهما.
وقيل: إن معنى الآية فَإِنْ كُنَّ نِساءً اثنتين فما فوقهما إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين كما
روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها»
فإن معناه لا تسافر سفرا ثلاثة أيام فما فوقها، وإلى ذلك ذهب من قال: إن أقل الجمع اثنان، واعترض على ابن عباس رضي الله تعالى عنه بأنه لو استفيد من قوله سبحانه: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أن حال الاثنتين ليس حال الجماعة بناء على مفهوم الصفة فهو معارض بأنه يستفاد من واحدة أن حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم العدد، وقد قيل به، وأجيب بالفرق بينهما فإن النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكد به صار محكما في التخصيص بخلاف وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً وأورد عليه بأن هذا إنما يتم على تقدير كون الظرف صفة مؤكدة لا خبرا بعد خبر، وأجيب بأن قوله سبحانه: نِساءً ظاهر في كونها فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فعدم الاكتفاء به والإتيان بخبر بعده يدل دلالة صريحة على أن الحكم مقيد به لا يتجاوزه، وأيضا مما ينصر الحبر أن الدليلين لما تعارضا دار أمر البنتين بين الثلثين والنصف، والمتيقن هو النصف، والزائد مشكوك غير ثابت، فتعين المصير إليه، ولا يخفى أن الحديث الصحيح الذي سلف يهدم أمر التمسك بمثل هذه العرى، ولعله لم يبلغه رضي الله تعالى عنه ذلك- كما قيل- فقال ما قال، وفي شرح الينبوع نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط: صح رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن ذلك فصار إجماعا وعليه فيحتمل أنه بلغه الحديث، أو أنه أمعن النظر في الآية ففهم منها ما عليه الجمهور فرجع إلى وفاقهم.
وحكاية النظام عنه رضي الله تعالى عنه في كتاب النكت أنه قال: للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف ولما فوق الاثنتين الثلثين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما مما لا تكاد تصح فافهم وَلِأَبَوَيْهِ أي الميت ذكرا كان أو أنثى غير النظم الكريم لعدم اختصاص حكمه بما قبله من الصور بل هو في الحقيقة شروع في إرث الأصول بعد ذكر إرث الفروع، والمراد من الأبوين الأب والأم تغليبا للفظ الأب، ولا يجوز أن يقال في ابن وبنت ابنان للإيهام فإن لم يوهم جاز ذلك كما قاله الزجاج لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من لِأَبَوَيْهِ بتكرير العامل، وسط بين المبتدأ وهو قوله تعالى: السُّدُسُ والخبر، وهو لأبويه- وزعم ابن المنير أن في إعرابه بدلا نظرا، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، ويكون أصل الكلام- والسدس- لأبويه لكل واحد منهما ومقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس كما قال سبحانه: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فاقتضى اشتراكهن فيه، ومقتضى البدل لو قدر إهدار الأول إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل إذ يلزم فيه أن يكون مؤدى المبدل منه والبدل واحدا، وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الإعراب، وإلا لزم زيادة معنى في البدل، فالوجه أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا فصله بقوله: لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما السدس استحقاقهما معا للثلث، ورده أبو حيان بأن هذا بدل بعض من كل، ولذلك أتى
بالضمير، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا، بل تقول: يصنع كذا إلا أنه اعترض على جعل لِأَبَوَيْهِ خبر المبتدأ بأن البدل هو الذي يكون خبر المبتدأ في أمثال ذلك دون المبدل منه كما في المثال، وتعقبه الحلبي بأن في هذه المناقشة نظرا لأنه إذا قيل لك: ما محل لِأَبَوَيْهِ من الإعراب؟ تضطر إلى أن تقول: إنه في محل رفع على أنه خبر مقدم.
ولكنه نقل نسبة الخبرية إلى كل واحد منهما دون لِأَبَوَيْهِ واختير هذا التركيب دون أن يقال: ولكل واحد من أبويه السُّدُسُ لما في الأول من الإجمال، والتفصيل الذي هو أوقع في الذهن دون الثاني، ودون أن يقال:
لِأَبَوَيْهِ السدسان للتنصيص على تساوي الأبوين في الأول وعدم التنصيص على ذلك في الثاني لاحتماله التفاضل، وكونه خلاف الظاهر لا يضر لأنه يكفي نكتة للعدول.
وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الثلث والربع والثمن مِمَّا تَرَكَ متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في الظرف الراجع إلى المبتدأ، والعامل الاستقرار أي كائنا مِمَّا تَرَكَ المتوفى إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر، وولد الابن كذلك، ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له وإن كانوا ذكورا فالباقي لهم بالسوية، وإن كانوا ذكورا وإناثا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وإن كانت بنتا فلها النصف ولأحد الأبوين السدس، أولهما السدسان والباقي يعود للأب إن كان لكن بطريق العصوبة وتعدد الجهات منزل منزلة تعدد الذوات، وإن كان هناك أم وبنت فقط فالباقي بعد فرض الأم والبنت يرد عليهما، وزعمت الإمامية في صورة أبوين أو أب أو أم وبنت أن الباقي بعد أخذ كل فرضه يرد على البنت، وعلى أحد الأبوين أو عليهما بقدر سهامهم فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ولا ولد ابن وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فقط وهو مأخوذ من التخصيص الذكرى كما تدل عليه الفحوى فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه، وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وهو مما أجمع عليه المسلمون، وقيل: إنما لم يذكر لأن المقصود تغيير السهم، وفي هذه الصورة لم يتغير إلا سهم الأم وسهم الأب بحاله، وإنما يأخذ الباقي بعد سهمه وسهم الأم بالعصوبة فليس المقام مقام حصة الأب- وفيه تأمل- لأن الظاهر أن أخذ الأب الباقي بعد فرض الأم بطريق العصوبة وبه صرح الفرضيون، وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لذلك، ولما أن حظها أخصر واستحقاقه أتم وأوفر هذا إذا لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك وتسمى المسألتان بالغراوين وبالغريبتين وبالعمريتين، فللأم ثلث ما بقي بعد فرض أحدهما عند جمهور الصحابة والفقهاء لا ثلث الكل خلافا لابن عباس رضي الله تعالى عنهما مستدلا بأنه تعالى جعل لها أولا سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ثم ذكر أن لها مع عدمه الثلث بقوله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فيفهم منه أن المراد ثلث أصل التركة أيضا.
ويؤيده أن السهام المقدرة كلها بالنسبة إلى أصلها بعد الوصية والدين، وإلى ذلك ذهبت الإمامية وكان أبو بكر الأصم يقول: بأن لها مع الزوج ثلث ما يبقى من فرضه ومع الزوجة ثلث الأصل، ونسب إلى ابن سيرين لأنه لو جعل لها مع الزوج ثلث جميع المال لزم زيادة نصيبها على نصيب الأب لأن المسألة حينئذ من ستة لاجتماع النصف والثلث فللزوج ثلاثة وللأم اثنان على ذلك التقدير فيبقى للأب واحد، وفي ذلك تفضيل الأنثى على الذكر، وإذا جعل لها ثلث ما بقي من فرض الزوج كان لها واحد وللأب اثنان ولو جعل لها مع الزوجة ثلث الأصل لم يلزم ذلك التفضيل لأن
المسألة من اثني عشر لاجتماع الثلث والربع، فإذا أخذت الأم أربعة بقي للأب خمسة فلا تفضيل لها عليه، ورجح مذهب الجمهور على مذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بخلوه عن الإفضاء إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب بل الأقوى منها في الإرث بدليل إضعافه عليها عند انفرادهما عن أحد الزوجين، وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع، وهذا الإفضاء ظاهر في المسألة الأولى، وبذلك علل زيد بن ثابت حكمه فيها مخالفا لابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق والبيهقي عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين. فقال زيد: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال فأرسل إليه ابن عباس أفي كتاب الله تعالى تجد هذا؟ قال: لا ولكن أكره أن أفضل أما على أب، ولا يخفى أن هذا لا ينتهض مرجحا لمذهب الجمهور على مذهب الأصم، ومن هنا قال السيد السند وغيره في نصرة مذهبهم عادلين عن المسلك الذي سلكناه: إن معنى قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ هو أن لها ثلث ما ورثاه سواء كان جميع المال أو بعضه، وذلك لأنه لو أريد ثلث الأصل لكفى في البيان فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث كما قال تعالى في حق البنات: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ بعد قوله سبحانه: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فيلزم أن يكون قوله تعالى: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ خاليا عن الفائدة، فإن قيل: نحمله على أن الوراثة لهما فقط قلنا: ليس في العبارة دلالة على حصر الإرث فيهما وإن سلم فلا دلالة في الآية حينئذ على صورة النزاع لا نفيا ولا إثباتا، فيرجع فيهما إلى أن الأبوين في الأصول كالابن والبنت في الفروع لأن السبب في وراثة الذكر والأنثى واحد وكل منهما يتصل بالميت بلا واسطة فيجعل ما بقي من فرض أحد الزوجين بينهما أثلاثا كما في حق الابن والبنت وكما في حق الأبوين إذا انفردا بالإرث فلا يزيد نصيب الأم على نصف نصيب الأب كما يقتضيه القياس فلا مجال لما ذهب إليه الأصم أيضا على هذا، وليته سمع ذلك فليفهم.
وقد اختلفوا أيضا في حظ الأم فيما إذا كان مكان الأب جد وباقي المسألة على حالها، فمذهب ابن عباس وإحدى الروايتين عن الصديق، وروى ذلك أهل الكوفة عن ابن مسعود في صورة الزوج وحده أن للأم ثلث جميع المال. وقول أبي يوسف- وهو الرواية الأخرى- عن الصديق رضي الله تعالى عنه: إن لها ثلث الباقي كما مع الأب فعلى هذه الرواية جعل الجد كالأب فيعصب الأم كما يعصبها الأب، والوجه على الرواية الأولى على ما ذكره الفرضيون هو أنه ترك ظاهر قوله تعالى: فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ في حق الأب، وأول بما مر لئلا يلزم تفضيلها عليه مع تساويهما في القرب في الرتبة، وأيد التأويل بقول أكثر الصحابة، وأما في حق الجد فأجرى على ظاهره لعدم التساوي في القرب وقوة الاختلاف فيما بين الصحابة ولا استحالة في تفضيل الأنثى على الذكر مع التفاوت في الدرجة كما إذا ترك امرأة وأختا لأم وأب وأخا للأب، فإن للمرأة الربع، وللأخت النصف وللأخ لأب الباقي، فقد فضلت هاهنا الأنثى لزيادة قربها على الذكر، وأيضا للأم حقيقة الولاد كما للأب فيعصبها والجد له حكم الولاد لا حقيقته فلا يعصبها إذ لا تعصيب مع الاختلاف في السبب بل مع الاتفاق فيه فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانوا من الإخوة أو الأخوات، وسواء كانوا من جهة الأبوين، أو من جهة أحدهما.
وخالف ابن عباس في ذلك فإنه جعل الثلاثة من الإخوة والأخوات حاجبة للأم دون الاثنين فلها معهما الثلث عنده بناء على أن الإخوة صيغة الجمع فلا يتناول المثنى، وبهذا حاج عثمان بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن جرير والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين لا يردان الأم عن
الثلث وتلا الآية. والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس، وقال الجمهور: إن حكم الاثنين في باب الميراث حكم الجماعة، ألا يرى أن البنتين كالبنات، والأختين كالأخوات في استحقاق الثلثين فكذا في الحجب وأيضا معنى الجمع المطلق مشترك بين الاثنين وما فوقهما، وهذا المقام يناسب الدلالة على الجمع المطلق فدل بلفظ الإخوة عليه بل قال: جمع إن صيغة الجمع حقيقة في الاثنين كما فيما فوقهما في كلام العرب، فقد أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له: يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ وأنت تحجبها بأخوين فقال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة، وهذا يعارض الخبر السابق عن ابن عباس فإنه صريح في أن صيغة الجمع لا تقال على اثنين في لغة العرب، وعثمان رضي الله تعالى عنه سلم ذلك إلا أنه احتج بأن إطلاق الإخوة على الأعم كان إجماعا.
ومن هنا اختلف الناس في مدلول صيغة الجمع حقيقة، وصرح بعض الأصوليين أنها في الاثنين في المواريث والوصايا ملحقة بالحقيقة، والنحاة على خلاف ذلك وخالف ابن عباس أيضا في توريث الأم السدس مع الإناث الخلص لأن الإخوة جمع أخ فلا يشمل الأخت إلا بطريق التغليب، والخلص لا ذكور معهم فيغلبون، وهو كلام متين إلا أن العمل على اختلافه اعتبارا لوصف الإخوة في الآية للإجماع على ذلك قبل ظهور خلاف ابن عباس وخرق الإجماع إنما يحرم على من لم يكن موجودا عنده، وذهب الزيدية والإمامية إلى أن الإخوة لأم لا يحجبونها بخلاف غيرهم فإن الحجب هاهنا بمعنى معقول كما يشير إليه كلام قتادة، وهو أنه إن كان هناك إخوة لأب وأم أو لأب فقد كثر عيال الأب فيحتاج إلى زيادة مال للإنفاق، وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا كان الإخوة لأم إذ ليس نفقتهم على الأب، والجمهور ذهبوا إلى عدم الفرق لأن الاسم حقيقة في الأصناف الثلاثة، وهذا حكم غير معقول المعنى ثبت بالنص، ألا يرى أنهم يحجبون الأم بعد موت الأب ولا نفقة عليه بعد موته ويحجبونها كبارا أيضا وليست عليه نفقتهم، ثم الشائع المعلوم من خارج أو من الآية في رأي أن الإخوة يحجبون الأم حجب نقصان، وإن كانوا محجوبين بالأب حجب حرمان، ويعود السدس الذي حجبوها عنه للأب- وهو مذهب جمهور الصحابة أيضا- ويروى عن ابن عباس أنه للإخوة لأنهم إنما حجبوها عنه ليأخذوه فإن غير الوارث لا يحجب كما إذا كانت الإخوة كفارا أو أرقاء، وقد يستدل عليه بما
رواه طاوس مرسلا أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الإخوة السدس مع الأبوين.
وللجمهور- كما قال الشريف- إن صدر الكلام يدل على أن لأمه الثلث والباقي للأب فكذا الحال في آخره كأنه قيل: فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس ولأبيه الباقي، ثم إن شرط الحاجب أن يكون وارثا في حق من يحجبه، والأخ المسلم وارث في حق الأم بخلاف الرقيق والكافر، فالإخوة يحجبونها وهم يحجبون بالأب، ألا يرى أنهم لا يرثون مع الأب شيئا عند عدم الأم لأنهم كلالة فلا ميراث لهم مع الوالد، وليس حال الإخوة مع الأم بأقوى من حالهم مع عدمها،
وقد روي عن طاوس أنه قال: لقيت ابن رجل من الإخوة الذين أعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم السدس مع الأبوين وسألته عن ذلك فقال: كان ذلك وصية
وحينئذ صار الحديث دليلا للجمهور إذ لا وصية لوارث، والظاهر أنه لا صحة لهذه الرواية عن ابن عباس لأنه يوافق الصديق رضي الله تعالى عنه في حجب الجد للإخوة فكيف يقول بإرثهم مع الأب كذا في شرح الإمام السرخسي، وفي الدر المنثور أن ابن جرير، وعبد الرزاق والبيهقي عنه، وقرأ حمزة والكسائي «فلإمه» بكسر الهمزة اتباعا لكسرة اللام، وقيل: إنه اتباع لكسرة الميم، وضعف بأن فيه اتباع حركة أصلية لحركة عارضة وهي الإعرابية، وقيل: إنه لغة في الأم، وأنكرها الشهاب، وفي القاموس الأم- وقد تكسر- الوالدة، ويقال: أمة وأمهة وتجمع على أمات وأمهات، وهذه لمن يعقل، وأمات لما لا يعقل، وحكي ذلك في الصحاح عن
بعضهم مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ متعلق- بيوصيكم- والكلام على حذف مضاف بناء على أن المراد من الوصية المال الموصى به، والمعنى أن هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية.
وجوز أن يكون حالا من السدس، والتقدير مستحقا من بعد ذلك والعامل فيه الجار والمجرور الواقع خبرا لاعتماده، ويقدر لما قبله مثله كالتنازع، وقيل: إنه متعلق بكون عام محذوف أي استقر ذلك لهؤلاء مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها الميت.
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم يُوصِي مبنيا للمفعول مخففا، وقرئ «يوصّي» مبنيا للفاعل مشددا، والجملة صفة وَصِيَّةٍ وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها، وقيل: التعميم لأن الوصية لا تكون إلا موصى بها أَوْ دَيْنٍ عطف على وصية إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف السابق فلا يتوقف إخراج الدين على الإيصاء به بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة والإقرار في الصحة، وإيثار أَوْ على الواو للإيذان بتساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو مفردين، وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع أن الدين مقدم عليها حكما كما قضى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه علي كرم الله تعالى وجهه، وأخرجه عنه جماعة- لإظهار كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها حيث إنها تؤخذ كالميراث بلا عوض فكانت تشق عليهم ولأن الجميع مندوب إليها حيث لا عارض بخلاف الدين في المشهور مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت، وقال ابن المنير: إن الآية لم يخالف فيها الترتيب الواقع شرعا لأن أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية، ثم اقتسام ذوي الميراث، فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج الوصية والوصية تلو الدين فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية، والدين صورة الواقع شرعا، ولو سقط ذكر بَعْدِ وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لأمكن ورود السؤال المذكور وهو من الحسن بمكان آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً الخطاب للورثة، وآباؤُكُمْ مبتدأ، ووَ أَبْناؤُكُمْ معطوف عليه، ولا تَدْرُونَ مع ما في حيزه خبر له، وأي- إما استفهامية مبتدأ، وأَقْرَبُ خبره، والفعل معلق عنها فهي سادة مسدّ المفعولين، وإما موصولة، وأَقْرَبُ خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة الموصول وهو مفعول أول مبني على الضم لإضافته، وحذف صدر صلته، والمفعول الثاني محذوف، ونَفْعاً نصب على التمييز، وهو منقول من الفاعلية، والجملة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية.
والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع، فيشمل البنات والأمهات والأجداد والجدات، أي أصولكم وفروعكم الذين يموتون قبلكم لا تعلمون من أنفع لكم منهم أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، أم من لم يوص فوفر عليكم عرض الدنيا، وليس المراد- كما قال شيخ الإسلام- بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم، وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان لأحدهما على الآخر فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور، والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية، وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيرا لمناط زعمهم وتعيينا لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل: لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة، وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا، والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى، والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى، واختار كثير من المحققين
كون الجملة اعتراضا مؤكدا لأمر القسمة، وجعل الخطاب للمورثين، وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل وكانت الأنصباء مختلفة، والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك. فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء، ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر الله تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل، وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال: إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه، وكونوا مطيعين لأمر الله تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها، ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم، والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلا، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة،
فقد أخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به،
وإلى هذا ذهب الحسن رحمه الله تعالى، وخص مجاهد النفع بالدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي.
وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعا لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة، وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض الله تعالى وقسم ولا تقولوا: لماذا أخر الأب عن الابن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت، واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة، أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك، والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعا لاتصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق، ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير، وربما يقال:
المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعا فضلا عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة، والكلام مسوق لردّ ما كان في الجاهلية فإن أهل الجاهلية كانوا- كما قال السدي- لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، وعن ابن عباس أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر، وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد الله تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها، ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر، وقيل: إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه، ونسب إلى أبي مسلم، ولا يخفى مزيد بعده فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه على حدّ هذا ابني حقا لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا أي فرض ذلك فريضة من الله: وقيل: إنه ليس بمصدر بل هو اسم مفعول وقع حالا، والتقدير لهؤلاء الورثة هذه السهام حال كونها مفروضة من الله تعالى، وقيل: بل هو مصدر إلا أنه مؤكد لفعله وهو يوصيكم السابق على غير لفظه إذ المعنى يفرض عليكم وأورد عليه عصام الملة أن المصدر إذا أضيف لفاعله أو مفعوله أو تعلقا به يجب حذف فعله كما صرح به الرضي إلا أن يفرق بين صريح المصدر وما تضمنه لكن لا بدّ لهذا من دليل ولم نطلع عليه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بالمصالح والرتب حَكِيماً في كل ما قضى وقدر فتدخل فيه أحكام المواريث دخولا أوليا، وموقع هذه الجملة هنا موقع قوله تعالى للملائكة: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة:
٣٠] والخبر عن الله تعالى بمثل هذه الألفاظ- كما قال الخليل- كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن