
(وما قدروا الله حق قدره) أي ما عرفوه حق معرفته، وقال المبرد أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره، من قولك فلان عظيم القدر. وإنما وصفهم بهذا لأنهم عبدوا غير الله، وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك، وقرىء قدروا بالتشديد.
(والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك فأخبر سبحانه عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمتها وكثافتها في مقدوره، كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه، وإن لم يقبض عليه.

والمراد بالأرض الأرضون السبع، يشهد لذلك قوله (جميعاً) وقوله الآتي (وَالسَّمَاوَاتُ) لأن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع، ولأن الموضع موضع تعظيم، فهو مقتض للمبالغة، والمعنى الأرضون جميعاً ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، وقدم الأرض على السموات لمباشرتهم بها ومعرفتهم بحقيقتها.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السموات يوم القيامة على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ﷺ (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) " وإنما خص يوم القيامة بالذكر -وإن كانت قدرته عامة وشاملة لدار الدنيا أيضاً- لأن الدعاوي تنقطع في ذلك اليوم، كما قال. (والأمر يومئذ لله) وقال (مالك يوم الدين) ولذلك قال في الحديث " ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ".
(والسموات مطويات بيمينه) ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه، والطي ضد النشر واليمين في كلام العرب قد يكون بمعنى القدرة والملك. قال الأخفش بيمينه يقول في قدرته نحو قوله (أو ما ملكت أيمانكم) أي ما كانت لكم قدرة عليه، وليس الملك لليمين دون الشمال وسائر الجسد، ومنه قوله سبحانه (لأخذنا منه باليمين) أي بالقوة والقدرة، وليس يريد به طياً بعلاج وانتصاب، وإنما المراد بذلك الفناء والذهاب، يقال قد انطوى عنا ما كنا فيه، وجاءنا غيره،

وانطوى عنا، وهو بمعنى المضي والذهاب قال الخازن اليمين ليس عندنا بمعنى الجارحة، وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها، وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب؛ والأخبار المأثورة الصحيحة؛ وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، قال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه اهـ.
ومعنى الآية ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة، والمقصود الإشارة إلى أن المتولي لإبقاء السموات والأرض في هذه الدار هو المتولي لتخريبهما يوم القيامة، وذلك يدل على قدرته التامة على الإِيجاد والإعدام، وأنه غني على الإطلاق فإنه إذا حاول تخريب الأرض يقبضها ويزيلها وتخريب السموات يجمعها كالسجل المطوي.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض " (١)؟
وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول " يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون أين ملوك الأرض "، أخرجه الشيخان وفي الباب أحاديث وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل، ولا تعسف بقال وقيل، ثم نزه سبحانه نفسه فقال:
(سبحانه وتعالى عما يشركون) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة - والحكمة الباهرة.
_________
(١) صحيح الجامع/٧٩٨١.

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
صفحة رقم 145