
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦). في الآيات أمر للنبي ﷺ بتوجيه سؤال استنكاري فيه معنى التقريع للكفار عما إذا كانوا يريدونه أن يعبد غير الله كما يفعلون بجهلهم في حين أن الله قد أوحى إليه وإلى الأنبياء من قبله أن الذي يشرك بالله يحبط عمله ويكون خاسرا، وأن عليه أن يعبد الله وحده ويكون له شاكرا.
وفي توجيه الخطاب في الآية الأولى للكافرين عود على بدء في صدد محاججتهم والتنديد بهم، وربط بين هذه الآيات وما قبلها سياقا وموضوعا، وقرينة على أن الآيات السابقة لها متصلة أيضا بموقف الجدل والحجاج بين النبي ﷺ والكفار وبسبيل دعوة الكفار إلى الله وحده.
ولقد قال المفسرون «١» في سياق تفسير الآية الأولى: إنها جواب لطلب الكفار من النبي ﷺ أن يعبد آلهتهم ليعبدوا إلهه. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن ذلك سبب نزول الآية. ونحن نرجح أن الآية متصلة بالسياق السابق واللاحق ولم تنزل منفصلة لسبب جديد. وهذه ثالث مرة يتكرر فيها مثل هذا الأمر للنبي ﷺ في السورة، ولقد نبهنا إلى ذلك في مناسبة سابقة منها وعلّلناه بما تبادر لنا ونرجو أنه الصواب فنكتفي بذلك.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)

(١) الشهداء: الجمهور على أن الشهداء هنا هم الملائكة الذين يحصون على الناس أعمالهم ويكتبونها.
في الآيات إشارة تعنيفية إلى الكفار المشركين على عدم إدراكهم حق الإدراك وتقديرهم حق التقدير مدى عظمة الله وقدرته وشأنه واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة وتنزهه وتعاليه عن الشركاء. واستطراد إلى ذكر ما يكون يوم القيامة من دلائل عظمته وقدرته وشمول تصرفه حيث تكون الأرض في قبضته والسموات مطويات بيمينه. وحيث ينفخ في الصور للمرة الأولى فيخرّ من في السموات والأرض إلا من شاء الله مصعوقا. ثم ينفخ فيه للمرة الثانية فيقومون جميعا مندهشين ينتظرون مصائرهم. وحيث يتجلى الله حينئذ على الأرض فتمتلىء إشراقا بنوره. وينعقد مجلس القضاء ويؤتى بكتب أعمال الناس وبالنبيين والشهداء ويقضى بين الناس بالحق دونما إجحاف وظلم وتوفّى كل نفس ما عملت والله أعلم بما يفعلون.
تعليقات على الآية وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والآيات الثلاث التي بعدها
ولقد روى الترمذي عن ابن عباس قال: «مرّ يهوديّ بالنبي ﷺ فقال له: يا يهوديّ حدّثنا، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرض على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ وأشار الراوي محمد بن الصلت بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام فأنزل الله تعالى:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ

بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
«١». ومقتضى الرواية أن تكون الآية مدينة وأن تكون نزلت لحدتها. ولم يرو أحد مدنية الآية، وارتباطها بما بعدها قوي. وهي بعد معطوفة على ما قبلها. وضمير الفاعل في وَما قَدَرُوا اللَّهَ هو عائد على المعطوف عليه وهم الكفار موضوع الكلام في الآية السابقة.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات عن عبد الله بن مسعود قال:
«جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله، فقال: يا محمّد إنّا نجد أنّ الله يجعل السموات على إصبع والأرض على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك. فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثمّ قرأ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ولعل التباسا ما وقع في الرواية حيث يكون النبي ﷺ قد تلا هذه الآية حين ما سأل اليهودي فظن الراوي أنها نزلت في مناسبة السؤال.
وكل ما تقدم يسوّغ التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية في المدينة والقول إن الآيات وحدة تامة ومعطوفة على ما قبلها ومتصلة به. وأنها استهدفت كما قلنا في شرحها فيما استهدفته التنويه بعظم قدرة الله تعالى ومطلق تصرفه في خلقه ثم توكيد البعث الأخروي ومحاسبة الناس على أعمالهم وجزائهم بما يستحقون عليها.
ولقد روى البغوي في سياق الآية حديثا عن عبد الله بن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يطوي الله السموات يوم القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبّارون، أين المتكبّرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهنّ بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبّارون أين المتكبّرون». ولقد روى ابن كثير هذا الحديث من إخراج الإمام أحمد بصيغة أخرى فيها مماثلة وفيها زيادات قال: «قرأ رسول

الله ﷺ ذات يوم على المنبر: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ورسول الله يقول هكذا بيده يحرّكها.
يقبل بها ويدبر، يمجّد الربّ نفسه أنا الجبّار، أنا المتكبّر، أنا العزيز، أنا الكريم فيرجف المنبر برسول الله ﷺ حتّى قلنا ليخرّنّ به».
والحديث لم يرد بهذا النص أو ذاك في كتب الصحاح ولكن ورد شيء منه فيها حيث روى الشيخان حديثا جاء فيه: «يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين الملوك» «١». وفي هذه الأحاديث صورة من تعليقات رسول الله ﷺ على هذه الآية للتنويه بعظمة الله بما هو إلهام من عند الله عز وجل.
والنفخ في الصور في الآيات رافقه صعق واستثناء، ومع أن القرآن استعمل الصعق بمعنى الإغماء كما جاء في آية سورة الأعراف هذه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ فإن الجمهور على أنها هنا بمعنى الموت الصاعق. وفي جملة: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) ما قد يدعم هذا الرأي.
ولقد كرر المفسرون هنا ما قالوه في سياق آيات سورة النمل [٨٧- ٩٠] في جملة إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ حيث قالوا إن المستثنين هم الشهداء أو كبار الملائكة.
ثم يقضي الله على هؤلاء بالموت فلا يبقى إلّا الله عز وجل. ونص الاستثناء صريح بأن هناك فريقا قد يشاء الله تعالى أن يستثنى من الصعق. وهذا ما يجعل ما يقولونه موضوع توقف في نطاق النص القرآني. وليس هناك حديث صحيح في ذلك فنرى الوقوف عند ما اقتضته حكمة التنزيل التي قد يلمح أن منها قصد بيان ما يكون عليه وقت البعث والحشر من رهبة وهول.
ولقد اختلفت الأقوال في مدى تعبيري قبضته ويمينه. وقد ألمحنا بهذا الموضوع في تعليق عقدناه في آخر تفسير سورة القصص فنكتفي بهذا التنبيه.