وما ينتظر كفار مكة إلا صيحة القيامة ليزجّ بهم في عذاب النار التي إذا جاءت لا تؤخر أبدا، أو لا تستأخر لحظة واحدة: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل ١٦/ ٦١].
ولكن اغتر الكفار بطول المهلة، ولما سمعوا أن الله منع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا، إكراما للنبيّ ص: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال ٨/ ٣٣] وجعل عذابهم في الآخرة، قالوا سخرية واستهزاء: ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب قبل يوم القيامة والحساب إن كان الأمر كما يقول محمد ص.
وهذا غاية الجهل والسفاهة والحمق.
ثم أمر الله نبيه ص بالصبر على أذاهم وسفاهتهم لما استهزءوا به، فما بعد الصبر إلا الفرج، وسيكون النصر والظفر قريبا.
قصة داود عليه السلام
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٧ الى ٢٦]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
الإعراب:
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا.. إِذْ الأولى تتعلق ب نَبَأُ وتَسَوَّرُوا بلفظ الجمع، لأن الخصم مصدر يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، فجمع حملا على المعنى.
وإِذْ الثانية: بدل من الأولى. وخَصْمانِ خبر مبتدأ محذوف تقديره: نحن خصمان، فحذف المبتدأ.
وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ عزّني بالتشديد على الأصل من عزّه: إذا غلبه، وقرئ بالتخفيف على أنه مخفف من المشدد، كما يقال في «ربّ: رب». والخطاب: مصدر خاطب أو مصدر خطب، نحو الأول: ضارب ضرابا، ونحو الثاني كتب كتابا.
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ تقديره: بسؤاله إياك نعجتك، فحذف الهاء التي هي فاعل في المعنى، والمفعول الأول، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني الْخُلَطاءِ جمع خليط بوزن فعيل صفة فيجمع على فعلاء إلا إن كان فيه واو فيجمع على فعاة، نحو طويل وطوال.
وَقَلِيلٌ ما هُمْ بَعْضُهُمْ: مبتدأ، وقَلِيلٌ: خبره، وما زائدة، وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي تيقن، وقرئ فَتَنَّاهُ بالتخفيف، أراد به فتنة الملكين. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ذلِكَ منصوب ب غفرنا، ويصح جعله خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك.
البلاغة:
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ بينهما طباق، لأن المراد بهما المساء والصباح.
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ورد بأسلوب التشويق.
وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. ورد بأسلوب الإطناب.
المفردات اللغوية:
وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ واذكر لهم قصته تعظيما للمعصية في أعينهم، فإنه مع علوّ شأنه، واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات، لما توهم أو ظن أنه أتى صغيرة استغفر ربه وأناب، فما الظن بالكفرة وأهل الطغيان؟ ذَا الْأَيْدِ القوة والجلد في العبادة، كان يصوم يوما، ويفطر يوما، ويصوم نصف الليل، وينام ثلثه، ويقوم سدسه أَوَّابٌ رجاع إلى الله وإلى طاعته ومرضاته.
يُسَبِّحْنَ بتسبيحه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ بالمساء والصباح، وأصل العشي: وقت العشاء، والْإِشْراقِ وقت شروق الشمس ووضوح ضوئها مَحْشُورَةً مجموعة إليه من كل جانب، تسبح معه كُلٌّ لَهُ من الجبال والطير لأجل تسبيحه أَوَّابٌ رجاع إلى التسبيح منقاد يسبح تبعا له وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قويناه حتى ثبت، وآزرناه بالهيبة والنصر، وبالحرس والجنود الْحِكْمَةَ النبوة وكمال العلم وإصابة الصواب في القول والعمل وَفَصْلَ الْخِطابِ البيان الشافي، والكلام الفاصل بين الحق والباطل.
وَهَلْ أَتاكَ أيها الرسول أي خبرهم وقصتهم، ويراد بالاستفهام هنا التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده الْخَصْمِ جماعة الخصوم، ويطلق الخصم على المفرد والجمع، مذكرا ومؤنثا تَسَوَّرُوا أتوه من أعلى السور، ودخلوا إلى المنزل والمسجد الذي يصلي فيه، حيث منعوا الدخول عليه من الباب، لشغله بالعبادة فَفَزِعَ خاف خَصْمانِ نحن فوجان متخاصمان، والمشهور أنهما ملكان، والأقرب أنهما بشران عاديان صاحبا نعاج أي مواشي، والخصومة حقيقية بَغى جار وظلم وَلا تُشْطِطْ لا تجر في الحكم ولا تبعد عن الحق وَاهْدِنا أرشدنا سَواءِ الصِّراطِ وسط الطريق الصواب.
إِنَّ هذا أَخِي أي على ديني نَعْجَةً أنثى الضأن أَكْفِلْنِيها اجعلني كافلها وملكنيها وَعَزَّنِي غلبني فِي الْخِطابِ في الجدال والمخاطبة والمحاجة بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ سؤاله نعجتك ليضمها إليه الْخُلَطاءِ الشركاء، والمعارف أو الأعوان الذين بينهم خلطة وامتزاج، جمع خليط وَقَلِيلٌ ما هُمْ ما زائدة لتأكيد القلة وَظَنَّ من الظن وهو رجحان تصور الشيء، أو بمعنى تيقن وعلم فَتَنَّاهُ ابتليناه أو امتحناه بتلك الحكومة، واختبرناه بهذه الحادثة فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ للظن السيء بالرجلين أنهما أتياه لقتله وهو منفرد في محرابه وَخَرَّ راكِعاً ساجدا وَأَنابَ تاب ورجع إلى الله وطاعته.
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي عفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين، وهذا من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين». لَزُلْفى قرب من الله مَآبٍ مرجع في الآخرة.
إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك فيها لتدبير أمور الناس وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى هوى النفس فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الدلائل الدالة على الحق بِما نَسُوا بنسيانهم يَوْمَ الْحِسابِ المرتب لهم، لضلالهم عن السبيل الحق، فإن تذكر يوم الحساب يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.
المناسبة:
بعد إنذار قريش بحال الكفار الغابرين، وبعد أمر النبي ص بالصبر على أذى قريش وسفاهتهم، أمره الله تعالى بتذكر حال تسعة من الأنبياء، حال ثلاثة منهم تفصيلا، وحال ستة آخرين منهم إجمالا، ليتأسى بما لاقوا من أذى قومهم، محتسبين أجرهم عند الله تعالى.
وبدأ بذكر قصة داود عليه السلام، ليتذكر حال ذلك النبي الشاكر الصابر، ذي القوة في الدين والبدن معا.
ويجب أن تفهم هذه القصة- قصة المحاكمة- على النحو الظاهري المبين في القرآن الكريم، وأن تستبعد الإسرائيليات منها، لمناقضتها مبدأ عصمة الأنبياء، فقد روي في الإسرائيليات أن داود عليه السلام وقع بصره على امرأة تستحم، فأعجبته وعشقها، وكانت زوجة أحد قواده واسمه «أوريا الحثي» فأراد أن يتخلص منه ليتزوج بها، فأرسله في إحدى المعارك وحمّله الراية، وأمره بالتقدم فانتصر، فأرسله مرارا ليتخلص منه حتى قتل، فتزوجها.
قال البيضاوي: هذا هزء وافتراء، ولذلك
قال علي رضي الله عنه: «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصاص، جلدته مائة وستين».
وهو حد الفرية على الأنبياء، أي مضاعفا «١».
وأبطل الإمام الرازي هذه الحكاية المفتراة بوجوه ثلاثة ملخصها:
الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لاستنكف منها.
الثاني- أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين: السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته، وكلاهما منكر.
الثالث- أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بصفات عشر، ثم وصفه أيضا بصفات كثيرة بعد هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح «١».
والرواية الصحيحة لهذه القصة: أن داود عليه السلام كان يقسم وقته الأسبوعي أثلاثا: ثلث لشؤون الملك، وثلث للقضاء بين الناس، وثلث آخر للخلوة والعبادة وترتيل الزبور في المحراب «٢»، فتجاوز خصمان هذا النظام، وتسورا عليه المحراب من فوق الجدار طلبا للمحاكمة في غير موعدها، ففزع منهما، وظن أنهما جاءا لاغتياله، وهو منفرد في محرابه لعبادة ربه، والخصمان بشران لا ملكان، والنعاج: المواشي، لا النساء. إلا أنه بادر إلى الحكم والقضاء قبل سماع بينة الخصم الآخر، فعاتبه الله على ذلك، ونبهه إلى وجوب تثبت القاضي وسماع الخصم الآخر، قبل إصدار الحكم. وسأبين أن هذا أيضا محل نظر، فإنه لا يعقل أن يحكم داود عليه السلام قبل سماع قول الخصم الآخر، فهذا من مبادئ الحكم الأولية التي لا تترك.
(٢) وقال ابن عباس: جزّأ أزمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما لجميع بني إسرائيل، فيعظهم ويبكيّهم، فجاءوه في غير القضاء، ففزع منهم، لأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله، لا يتركون من يدخل عليه، فخاف أن يؤذوه. (البحر المحيط: ٧/ ٣٩١).
التفسير والبيان:
تضمنت قصة داود عليه السلام في هذه السورة ثلاثة موضوعات:
الأول- تعداد الصفات التي أنعم الله بها على داود والتي أهّلته لسعادة الدنيا والآخرة.
الثاني- إصدار الحكم في واقعة بين خصمين.
الثالث- استخلاف الله تعالى إياه بعد تلك الواقعة.
الموضوع الأول- صفات داود عليه السلام
ذكر الله تعالى عشر صفات لداود عليه السلام آتاه الله إياها، وهي تحقق كمال السعادة الدنيوية والأخروية.
١- ٤: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، ذَا الْأَيْدِ، إِنَّهُ أَوَّابٌ هذا معطوف على مطلع الآية المذكور في نهاية المقطع السابق وهو وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والمعنى: اذكر أيها الرسول لقومك قصة عبدنا داود ذي القوة في العلم والعمل وطاعة الله، قال قتادة: أعطي داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام قوة في العبادة، وفقها في الإسلام، وكان يقوم ثلث الليل، ويصوم نصف النهار،
ثبت في الصحيحين أن النبي ص قال: «أحبّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى، وإنه كان أوّابا».
أي رجّاعا إلى الله عز وجل في جميع أموره وشؤونه.
وفي تاريخ البخاري عن أبي داود قال: «كان النبي ص إذا ذكر داود وحدث عنه قال:
كان أعبد البشر».
والصفات الأربع المذكورة هنا هي:
١- الصبر: فقد أمر الله تعالى محمدا ص على جلالة قدره بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله.
٢- والعبودية: فقد وصفه ربه بقوله عَبْدَنا داوُدَ وعبر عن نفسه بصيغة الجمع للتعظيم، والوصف بالعبودية لله غاية التشريف، كوصف محمد ص بها ليلة المعراج: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء ١٧/ ١]. فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبودية بسب الاجتهاد في الطاعة.
٣- والقوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي، في قوله تعالى: ذَا الْأَيْدِ.
٤- والرجاع إلى طاعة الله في أموره كلها، في قوله تعالى: إِنَّهُ أَوَّابٌ.
٥- ٦: تسبيح الجبال والطير معه: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أي إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال عز وجل: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ ٣٤/ ١٠] قال ابن كثير: وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرّ به الطير، وهو سابح في الهواء، فسمعه، وهو يترنم بقراءة الزبور، لا يستطيع الذهاب، بل يقف في الهواء، ويسبح معه، وتجيبه الجبال الشامخات، ترجّع معه، وتسبّح تبعا له»
. وهذا ما قاله تعالى:
٧- وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي وسخرنا له الطير، حال كونها محبوسة في الهواء، تسبح بتسبيحه، وكل من الجبال والطير مطيع، يسبح تبعا له، فكلما سبح داود جاوبته. وهذا يومئ أن داود عليه السلام كان حسن الترتيل، جميل الصوت.
٨- قوة الملك: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوينا ملكه بالجند أو الحرس، وجعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك.
٩- إيتاء الحكمة: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أعطيناه الفهم والعقل والفطنة، والعلم، والعدل، وإتقان العمل، والحكم بالصواب. ولما كمّل الله تعالى نفس نبيه داود بالحكمة، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة، فقال: وَفَصْلَ الْخِطابِ.
١٠- حسن الفصل في الخصومات: وَفَصْلَ الْخِطابِ أي وألهمناه حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإيجاز البيان، بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
الموضوع الثاني- القضاء في خصومة
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قالُوا: لا تَخَفْ، خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَلا تُشْطِطْ، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ هذا نبأ عجيب يشوق السامع سماعه ومعرفته، لذا ذكره الله لرسوله، ومعناه: هل علمت ذلك الخبر المهم العجيب؟
وبدأه بهذا الاستفهام، ليكون مدعاة إلى الإصغاء له والاعتبار به.
إنه نبأ جماعة من الخصوم تسلقوا سور غرفة داود المخصصة للصلاة، فدخلوا عليه وهو منهمك بالصلاة وعبادة الله وترانيم الزبور، في غير موعد المحاكمة المخصص للناس، فخاف منهم ظنا منه أنهم جاؤوا لاغتياله، وهو منفرد في محرابه للعبادة، في أشرف مكان في داره- وقد كان اغتيال الأنبياء معروفا في بني إسرائيل، فقد قتلوا إشعيا وزكريا، كما قال تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران ٣/ ٢١] فقالوا له: لا تخف، نحن متخاصمان جار بعضنا على
بعض، فاحكم بيننا حكما عادلا، ولا تجر في الحكم، واهدنا إلى الطريق الحق العدل.
وموضوع الخصومة هو:
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فَقالَ: أَكْفِلْنِيها، وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي إن هذا أخ لي في الدين والإنسانية، يملك تسعا وتسعين شاة، وأملك شاة واحدة، فقال: ملكنيها وغلبني في المخاصمة والجدال والحجة، فأتى بحجج لم أستطع ردها. والنعجة: هي الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش: نعجة.
فحكم داود عليه السلام بقوله:
قالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي قال داود الحاكم بعد إقرار المدعى عليه بالدعوى: لقد ظلمك بهذا الطلب، وطمع عليك.
ويقال: إن خطيئة داود هي قوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت، فربما كان صاحب النعجة الواحدة هو الظالم.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي وإن كثيرا من الشركاء في المال أو المعارف والأعوان المتعاملين ليظلم بعضهم بعضا، إلا من آمن بالله وخاف ربه وعمل صالح الأعمال، فإنه لا يظلم، وهؤلاء الصالحون قلة، كما قال تعالى: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ [الأعراف ٧/ ١٠٢].
وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ أي وعلم داود وأيقن أنما اختبرناه بهذه الواقعة، وهي تعرضه للاغتيال ثم نجاته منه، فاستغفر ربه لذنبه وهو سوء ظنه بالخصمين، وأنهما أتيا لاغتياله، وهو الأصح، أو أنه حكم
بين الخصمين في النعاج قبل أن يسمع بيّنه الخصم الآخر، وكان الحق له، وخر ساجدا- وعبر بالركوع عن السجود- ورجع إلى الله بالتوبة من ذنبه.
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أي فغفرنا له سوء ظنه أو ما كان منه مما يقال فيه: إن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وإن له عند ربه لقربا وحسن مرجع، وهو الجنة.
والظاهر أن الذنب: هو همّ داود الانتقام من هذين الشخصين اللذين كانا يقصدان اغتياله، فاصطنعا هذه الخصومة، لأنهما رأيا أن الحرس سيقتلونهما ولن يفلتا من العقاب، ثم رأى داود أن العفو والصفح أقرب لمقام النبوة، فاستغفر ربه مما كان قد عزم عليه من الانتقام.
الموضوع الثالث- الاستخلاف في الأرض
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يخاطب الله تعالى داود عليه السلام بأنه استخلفه حاكما بين الناس في الأرض، فله السلطة والحكم، وعليهم السمع والطاعة. ثم بيّن الله تعالى له قواعد الحكم تعليما لغيره من الناس:
١- فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي فاقض بين الناس بالعدل الذي قامت به السموات والأرض. وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.
٢- وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي لا تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا، فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار، لذا قال:
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والانحراف عن جادة الحق، وما عاقبته إلا الخذلان، فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي إن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل، لهم عقاب شديد يوم القيامة
والحساب الأخروي، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم، وما فيه من حساب دقيق لكل إنسان، وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم، ومنه القضاء بالعدل.
والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاه الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق، ولا يحيدوا عنه، فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد الله تعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد.
روى ابن أبي حاتم أن أبا زرعة دخل على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد: أخبرني، أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت القرآن وفقهت! فقال:
يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قال: يا أمير المؤمنين: أنت أكرم على الله أو داود عليه السلام؟ إن الله تعالى جمع له بين الخلافة والنبوة، ثم توعده في كتابه، فقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وصف الله تعالى داود عليه السلام بعشر صفات: هي كما تقدم الصبر، والعبودية لله، والقوة في الدين، وكونه أوابا كثير الرجوع إلى الله تعالى، وتسبيح الجبال، والطير مع تسبيحه وترنيمه، وإتيان الطير طائعة له، وتشديد ملكه في الدين والدنيا، وإيتاؤه الحكمة (الفهم والعقل والفطنة والحكم بالصواب) وحسن الفصل في الخصومات.
٢- بمناسبة تسبيح الجبال معه بالعشي والإشراق، أي في المساء والصباح، ذكر القرطبي أن صلاة الضحى نافلة مستحبة،
جاء في صحيح مسلم عن أبي ذرّ
عن النبي ص أنه قال: «يصبح على كل سلامي «١» من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى».
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «من حافظ على شفعة الضحى، غفر له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر».
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر».
وأقل الضحى كما في هذه الأحاديث وغيرها ركعتان، وأكثره ثنتا عشرة ركعة.
٣- ذكر الله تعالى لداود بعد قصة المحاكمة عشر صفات منها سؤال المغفرة من ربه فغفر له، ومنها السجود شكرا لله والإنابة، ومنها: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ومنها يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ. قال مجاهد عن عبد الله بن عمر: الزلفى: الدنو من الله عز وجل يوم القيامة.
٤- ليس الحاكم ملزما كل يوم بالاستعداد لفصل القضاء في الخصومات بين الناس، وإنما له تخصيص أيام في الأسبوع لتلك المهمة الخطيرة.
٥- الفزع ظاهرة إنسانية في المفاجآت، وقد فزع النبي داود عليه السلام من الرجلين اللذين أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم، أو لدخولهم عليه بغير إذنه، أو لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. وقد شاع بين بني إسرائيل قتل الأنبياء وإيذاؤهم.
٦- إن القصة التي يرويها بعض المفسرين بما يتعارض مع مبدأ «عصمة الأنبياء» لا أصل لها، ولا مستند عليها، وإنما هي من الإسرائيليات الدخيلة.
٧- لم يكن خطأ داود عليه السلام في أنه قضى لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، فهذا من أصول الحكم التي لا يمكن تجاوزها، قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر، وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين ادّعى، والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى «١».
وقد قال النبي ص لعلي رضي الله عنه فيما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما: «إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر».
٨- أجمع العلماء على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر، وفي الصغائر اختلاف، الأصح كما قرر ابن العربي وغيره أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر.
٩- استدل العلماء على مشروعية الشركة بأدلة، منها: ما ورد على لسان داود عليه السلام: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي الشركاء في المال كما تقدم.
١٠- الصلحاء في كل زمان قليلون، لقوله تعالى: وَقَلِيلٌ ما هُمْ يعني الصالحين. سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال: أردت قول الله عز وجل:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر.
١١- اختلف العلماء في سجدة داود، هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أو لا؟ أي هل هي سجدة تلاوة؟
فقال المالكية والحنفية: ليست موضع سجود، لما
في البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: «ص، ليست من عزائم القرآن، وقد رأيت النبي ص يسجد فيها».
وأنكر المالكية أيضا سجدة الشكر.
وقال الشافعية والحنابلة: إنها ليست من عزائم السجود، بل هي سجدة شكر، استدلالا بفعل النبي ص، كما نص الحديث المتقدم،
وروى النسائي أن النبي ص قال: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا».
١٢- ليس في استغفار داود ما يشعر بارتكاب ذنب أو أمر يستغفر منه، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة.
١٣- الأصل في مشروعية الأقضية أو التقاضي قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة ٥/ ٤٩] وقوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء ٤/ ١٠٥] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ [النساء ٤/ ١٣٥].
١٤- إن قاعدة الحكم الأساسية الحكم بالعدل والحق: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ومن قواعده: أن القاضي لا يحكم في الوقائع إلا بالدعوى ورفع الأمر إليه، فيجب الحكم بالحق، وألا يميل القاضي إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة أو غيرهما.
١٥- هذه الآية: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.. تمنع الحاكم من القضاء بعلمه الشخصي في الحوادث، لأن الحكام لو مكّنوا أن يحكموا بعلمهم، لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليّه (صديقه) ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. وبذلك يمنع من هذا القضاء للتهمة، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيت رجلا على حدّ من حدود الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري.