تعليق على وصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس وعلى وصف السماء بأنها رفعت بدون عمد
ووصف الجبال بأنها جعلت لئلا تميد الأرض بالناس ووصف السماء بأنها رفعت بدون عمد يراها الناس قد تكرر في سور أخرى ترتيبها متأخر عن هذه السورة. والإيمان بما جاء في القرآن في صدد المشاهد الكونية واجب مع واجب الوقوف عند ما اقتضت الحكمة وحيه بالأسلوب الذي جاء به واستشفاف الحكمة في ذلك. والمتبادر من ذلك أن هذا الوصف مما كان مستقرا أيضا في أذهان السامعين الذين كانوا يعترفون بالله وكونه خالق السموات والأرض على ما ذكرناه في مناسبات سابقة فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها من خلال ذلك بقدرة الله وإبداعه والتدليل على شمول قدرته للبعث والجزاء الأخرويين أيضا. وعلى كل حال إن القرآن لم يقصد تقريرات فنية لأن ذلك خارج عن هدفه في الهداية والإرشاد على ما شرحناه في مناسبات سابقة. وعلى ضوء هذا الشرح تبدو الآيات قوية رائعة في تذكيرها وتنويهها وتحديها، والله أعلم.
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٢ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
(١) الحكمة: حسن التدبر والإدراك وبعد النظر وسعة العقل.
(٢) الجمهور على أن جملة (أن أشكر لله) وما بعدها هي خطاب رباني للقمان أي أننا آتيناه الحكمة وأمرناه أن يشكر الله إلخ.
(٣) وهنا على وهن: ضعفا على ضعف. أي حملته أمه على ضعفها فزاد ضعفها بحمله.
(٤) فصاله في عامين: إرضاعه عامين ثم فطمه حيث كان العرب يرون ذلك هو الأفضل. وقد جاء هذا صريحا في آية سورة البقرة هذه: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [٢٣٣] والفصال بمعنى الفطام.
(٥) إن جاهداك: إن بذلا جهدهما معك وألحّا عليك.
(٦) وصاحبهما في الدنيا معروفا: وعاشرهما وكن لهما صاحبا رفيقا في الدنيا مما هو متعارف عليه ومحمود من الأبناء للآباء.
(٧) من أناب إليّ: من آمن بي وسلك سبيلي واتجه إليّ.
(٨) المعروف: كل ما هو متعارف على أنه خير وصالح وطيب.
(٩) المنكر: كل ما هو متعارف على أنه شر وضار وخبيث.
(١٠) لا تصعّر خدك للناس: تصعير الخد بمعنى لوي الوجه أو العنق والجملة بمعنى النهي عن التكبّر والزهو والخيلاء.
(١١) مرحا: بطرا وزهوا.
(١٢) المختال: الذي يمشي متمايلا منتفخا بالكبر والزهو.
(١٣) فخور: الذي يتفاخر بنفسه وقوته وماله.
(١٤) اقصد في مشيك: اعتدل وتوسط في مشيك أو تأنّ بدون اختيال.
(١٥) اغضض من صوتك: اخفض صوتك وخففه.
(١٦) أنكر الأصوات: أقبح الأصوات وأشدها بعثا على الإنكار والاشمئزاز، ولعل المناسبة هي علو صوت الحمير حيث جاء التشبيه مقابل الأمر بالغض من الصوت وعدم رفعه.
الآيات احتوت إشارة إلى لقمان الحكيم ومواعظه لابنه، فذكرت أن الله قد آتى لقمان الحكمة وأوجب عليه الشكر من أجلها، ونبهه على أن الذي يشكر فإنما يفيد نفسه وأن الله غني عمن يكفره حميد لمن يشكره. وأنه وقف من ابنه موقف الواعظ فنهاه عن الشرك بالله واصفا له بالظلم العظيم. ونبهه إلى بعض مظاهر عظمة الله وقدرته وإحاطته بسبيل التدليل على حقه وحده بالخضوع والعبادة. فلو كانت حبة من خردل وكانت في داخل صخرة أو في أي ناحية من أنحاء السماء أو الأرض لأحاط علم الله بها واستحكمت سيطرته عليها. وأمره بإقامة الصلاة لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر في الخطوب والملمات وعدم الجزع.
وبيّن له ما في ذلك من الدلالة على قوة النفس والخلق والعزيمة. وحذره من التكبر والظهور بمظهر الزهو والبطر والاختيال، وحثّه على الاعتدال والتواضع والدماثة وحسن الخلق في صلاته بالناس وفي حديثه وفي سيره ومشيه.
وقد تخلل المواعظ حكم واستطرادات، منها ما هو حكاية عن لسان لقمان.
ومنها ما هو تقرير قرآني مباشر:
١- فالله سبحانه غني عن شكر الناس له كما أنه لا يضرّه كفرهم، فالشاكر ينفع نفسه والكافر يضر نفسه. والله مستوجب للحمد والوجود بذاته مستغن عن غيره سواء أحمده الناس أم لم يحمدوه واعترفوا به أم جحدوه.
٢- والله أوجب على الإنسان البر بوالديه والشكر لهم وقد حملته أمه بخاصة، وقاست في سبيل ذلك، ثم في سبيل إرضاعه عامين جهدا ومشقة، فضلا عما بعد ذلك. غير أن واجب الشكر عليه لوالديه لا يجوز أن يصل إلى طاعتهما في الشرك بالله. ففي حالة طلبهما منه ذلك وإلحاحهما عليه لا يكون عليه لهما حق الطاعة وكل ما يكون عليه معاملتهما ومعاشرتهما بالمعروف والحسنى في شؤون
الدنيا من جهة، واتباع من يكون مهتديا بهدي الله وسائرا في سبيله في أمور الدين من جهة أخرى. فمرجع الناس جمعيهم إلى الله وهو ينبئهم بما عمل كل منهم ويحكم على كل منهم بحسب عمله.
٣- والله لا يحب الذين يتكبرون على الناس ويختالون ويتفاخرون بأنفسهم وقوتهم ومالهم.
٤- وليس في رفع الصوت وترعيده أي مزية ومحل زهو فأعلى الأصوات ارتفاعا هو صوت الحمير وهو أنكرها وأبشعها.
وروح الآيات ومضمونها يلهمان أنها جاءت على سبيل الاستطراد وضرب المثل وأنها غير منقطعة عن الآيات السابقة لها، حيث احتوت تلك وصف مواقف التكبر والزهو والتعطيل التي يقفها الكفار حينما تتلى عليهم آيات الله ويدعون إلى سبيله. واحتوت هذه تقبيحا لهذه الأخلاق وتنديدا بالشرك على لسان حكيم مهتد بهدي الله وسائر في سبيله. وقد وصف المشركون في الآيات السابقة بوصف الظالمين ووصف الشرك في هذه بالظلم العظيم، مما فيه تساوق وترابط بين المجموعتين.
تعليق على شخصية لقمان وما في مواعظه من تلقين
وقد تعددت الأقوال في شخصية لقمان، فهو عبد حبشي حكيم وصالح في قول، ونبي في قول، وقاض من قضاة بني إسرائيل في قول، وابن باعوراء بن ناحور بن تارخ أي حفيد أخي إبراهيم عليه السلام في قول، وعبد أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين من سودان مصر أو النوبة في قول، أو عبد لبني الحسحاس في قول، وجميع الأقوال غير موثقة «١».
ومهما يكن من أمر فروح الآيات تلهم أن اسم لقمان ليس غريبا على السامعين بل وليس غريبا عن العرب والعربية. فصيغته صيغة عربية، ونرجح أنه
مشتق من (لقم) وهذا وذاك قد يدلان على عروبة المسمى. ولقد ذكرت الروايات «١» أن النبي ﷺ لقي في مكة زعيما من زعماء الأعراب اسمه سويد بن الصامت فدعاه إلى الإسلام فقال له: لعلك تدعو إلى دعوة لقمان وإن معي مجلته ثم تلا ما فيها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا حسن ولكن اسمع مني كلام الله فهو أحسن.
ولا بد من أن تكون مجلة لقمان عربية اللغة كما هو المتبادر مما يمكن أن يرجح أصله العربي. ولقد أورد المفسرون بعض أقواله ونوادره والامتحانات الربانية التي تعرض لها، عزوا إلى علماء السير والأخبار «٢». منها المعقول ومنها الغريب.
وتدل على كل حال على أن اسم لقمان وأخباره مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ما جاء عنه في القرآن مما كان متسقا مع ما يعرفونه عنه وعن حكمته.
ومما أورده ابن كثير عنه أن رجلا وقف عليه فقال له: (أنت لقمان عبد بني الحسحاس؟ قال نعم، قال أنت راعي الغنم؟ قال نعم. قال أنت الأسود؟ قال أما سوادي فظاهر. فما الذي يعجبك من أمري؟ قال وطء الناس بساطك، وغشيانهم بابك، ورضاؤهم بقولك. قال له يا ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك. ثم قال: «غضّي بصري وكفّي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي وصدقي بقولي ووفائي بعهدي وتكريمي لضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني. ذاك الذي صيرني إلى ما ترى». ومما أورده الطبري «إن مولاه أمره بذبح شاة وإخراج أطيب مضغتين فيها فأتاه بلسانها وقلبها. ثم أمره بذبح شاة أخرى وإخراج أخبث ما فيها. فأتاه بلسانها وقلبها. فسأله مولاه فقال له ليس أطيب منهما إن طابا ولا أخبث منهما إن خبثا». وهذا متسق مع ما يقرره القرآن بأسلوبه الرائع من الحكمة التي آتاه الله إياها.
وحكاية مواعظ لقمان لابنه ليس من شأنها بطبيعة الحال أن تفقد الآيات وأسلوبها قوة ما احتوته من المبادئ وروعة الأسلوب ولذعته سواء أفي التنفير من الكبر والخيلاء وسلاطة اللسان أم في الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن
(٢) انظر كتب التفسير المذكورة سابقا.
المنكر والصبر في الخطوب وعدم الجزع أم في وجوب الشكر لله وفائدة ذلك للإنسان مع تقرير استغناء الله عنهم شاكرين كانوا أم كافرين. أم في تعظيم ما في الشرك من ظلم وإثم وسخف. من حيث إن ما يرد في القرآن من ذلك ولو جاء على لسان لقمان هو أيضا مما يجب على المسلم أن يعتبره موجها إليه وأن يلتزم به، وينسحب هذا على ما ورد في القرآن من أوامر ونواه أخلاقية واجتماعية محكية عن الله عز وجل وموجهة إلى الأنبياء وأقوالهم، أو محكية عن رسل الله وغيرهم.
والمفسرون يعتبرون ذلك كذلك ويديرون الكلام عنه على هذا الاعتبار. وقد نبهنا على ما في كلام ملكة سبأ عن الملوك وعلى ما في كلام قوم قارون لقارون، من ذلك في سورتي النمل والقصص، وعلى ما في كلام الله الموجه لرسله وكلام رسله الموجه إلى أقوامهم من ذلك في سياق السور التي سبق تفسيرها وفيها قصص الأنبياء.
وعلى اعتبار أن في مواعظ لقمان أخلاقيات متنوعة وأن ما وجه من الله إليه هو موجه إلى المسلمين أيضا. فإن المفسرين وبخاصة ابن كثير أورد على هامش هذه الآيات أحاديث متنوعة. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد، وقد أوردنا بعض ما ورد في الصحاح منها في سياق مجموعة سورة الإسراء ونورد فيما يلي بعض ما لم نورده. من ذلك في صدد جملة وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ حديث قدسي رواه مسلم عن أبي ذرّ عن رسول الله عن الله تعالى قال: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر». وفي صدد حسن الخلق وحسن التعامل مع الناس حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال: «خياركم أحاسنكم أخلاقا». وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله ﷺ ما أكثر ما يدخل الناس الجنة قال تقوى الله وحسن الخلق». وحديث رواه مسلم
وأبو داود عن عياض عن النبي ﷺ قال: «إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد».
ولقد علقنا في سورة الأعراف على موضوعي واجب الشكر لله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأوردنا ما ورد في ذلك من أحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على حدود واجب الأولاد إزاء الآباء
والآيتان [١٤ و ١٥] وإن كانت صيغتهما تلهم أنهما تقريرات مباشرة وأنهما منفصلتان عن حكاية مواعظ لقمان أو معترضتان بينهما فإنهما تلهمان كذلك وجود مناسبة بين ما احتوتاه وبين هذه المواعظ. ولقد ورد في سورتي الإسراء والأنعام اللتين سبق تفسيرهما آيات قررت وجوب البرّ بالوالدين والإحسان في معاملتهما وخفض جناح الذل لهما إطلاقا، فجاءت الآيتان هنا للاستدراك بأن الله إذ يوصي الأولاد بالبرّ بآبائهم وشكرهم فإنه يجعل طاعتهم في حدود طاعة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له وحده. فإذا دعا الوالدان أو أحدهما ابنهما إلى الشرك بالله فلا تجب عليه طاعتهما، وكل ما يجب عليه معاملتهما بالبر في الحياة الدنيا، ثم اتباع سبيل الله والذين يدعون إليه ويسيرون فيه. وهكذا يتقرر مبدأ قرآني جليل وهو أن الطاعة لمن تجب له لا يجوز أن تتجاوز حدود الحق والمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية وباطل وإثم.
وفي آية سورة الممتحنة هذه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) وفي حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» «١».
ولقد ذكرت الروايات «١» أن الآيتين نزلنا في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأمه. فقد آمن سعد في شبابه في جملة من آمن من شباب قريش فأخذت أمه تحاول ردّه عن الإسلام وتهدد بالإضراب عن الطعام مما كان يثير فيه أزمة نفسية فأنزل الله الآيتين لتقرير كون طاعة الوالدين والبرّ بهما إنما تجب في حدود الإخلاص له وعدم الشرك به. والرواية تقتضي أن تكون الآيتان نزلتا لحدتهما مع أنهما منسجمتان في السياق. وهذا لا ينفي أن تكون حالة سعد مع أمه واقعة صحيحة، وتكون الآيتان والحالة هذه قد تضمنتا الإشارة على سبيل الاستطراد إلى هذه الحالة أو ما يماثلها من حالة فيها فساد بين والد أو أم من المشركين وولد مؤمن، وكان فيه تساؤل وحيرة وأزمة نفسية. وقد تكرر هذا في سورة العنكبوت أيضا حيث جاء فيها هذه الآية: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) مما يسوغ القول أن المسألة لم تكن مسألة شخص سعد لحدته، وإنما كانت أكثر من شخص.
وهذا مما أوضحته روايات السيرة «٢» التي ذكرت عددا غير يسير من شباب قريش وفتيانهم آمنوا بالرسالة المحمدية رغم بقاء آبائهم على الكفر والشرك، وتعرضوا لاضطهاد وضغط آبائهم، وهاجروا إلى الحبشة نتيجة لذلك مثل خالد بن سعيد بن العاص وامرأته أمينة بنت خلف، وأخوه عمرو وامرأته فاطمة بنت صفوان، والأسود بن نوفل بن خويلد وعامر بن أبي وقاص، والمطلب بن أزهر بن عوف وامرأته رملة بنت أبي عوف، وعبيد الله بن جحش وامرأته رملة بنت أبي سفيان، وعثمان بن ربيعة، ومعمر بن عبد الله ومالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس وامرأته عمرة، ويزيد بن زمعة بن الأسود وغيرهم وغيرهم رضوان الله عليهم.
ومما روي عن سعد «٣» أن أمه اشتدت في الإلحاح عليه وقالت له: لأضربن
(٢) انظر ابن هشام ج ١ ص ٣٤٠ وما بعدها.
(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري.
عن الطعام حتى أهلك فيعيرك الناس، فقال لها: يا أمه والله لو كان لك مائة نفس وخرجت منك واحدة بعد أخرى ما تركت ديني وفي هذا صور رائعة من صور السيرة النبوية.
ومن المتبادر أن يكون الشباب الذين آمنوا رأوا أنفسهم في حرج لأن آيات الإسراء والأنعام تأمرهم بالبرّ والإحسان بوالديهم إطلاقا فأفضوا بحرجهم إلى رسول الله ﷺ فاقتضت حكمة التنزيل نزول هذه الآيات للاستدراك ورفع الحرج وفي هذه صورة من صور تطور التنزيل القرآني.
تعليق على وصف الشرك بالظلم العظيم
ووصف الشرك بالظلم العظيم جدير بالتنويه لما فيه من تعظيم إثم الشرك.
ويتضح عظم هذا الإثم ومصداق هذا الوصف إذ يلاحظ أن المشرك يجني على نفسه جنايات متنوعة فهو أولا يناقض نفسه ويظهرها في مظهر السخف والغباء في اعترافه بالله الخالق المدبر النافع الضار، ثم إشراك غيره معه في الدعاء والاتجاه والعبادة. وثانيا يعرض نفسه لسخط الله وغضبه في شذوذه عن الحق وما يجب عليه من الإخلاص له وحده وفي تسويته بينه وبين بعض خلقه. وثالثا يخضع نفسه لمفهومات وتصورات وقوى باطلة لا حقيقة لها وليس من شأنها أن تجلب له خيرا أو تدفع عنه ضرا.
تعليق على اختصاص الأم بالذكر
واختصاص الأم بالذكر جدير بالتنويه أيضا حيث ينطوي فيه من ناحية تنبيه إلى الحنان العظيم الذي تمنحه الأم لوليدها، ومن ناحية تنبيه إلى ما يجب على الأولاد نحو أمهاتهم خاصة من واجب البر والرحمة. ولقد أخرج البخاري ومسلم حديثا عن أبي هريرة جاء فيه أن رجلا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: من أحقّ الناس بحسن صحبتي يا رسول الله؟ قال له: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثم