يطلب من محله، ولا دلالة في الآية على انحصار حكمة إلقاء الرواسي فيها بسلامتها عن الميد فإن لذلك حكما لا تحصى.
وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الاستدارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس، ووراءه مذاهب أظهر بطلانا منه. نعم الأدلة النقلية والعقلية على ذلك كثيرة وَبَثَّ فِيها أي أوجد وأظهر، وأصل البث الإثارة والتفريق ومنه فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: ٦] وكَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤] وفي تأخيره إشارة إلى توقفه على إزالة الميد مِنْ كُلِّ دابَّةٍ من كل نوع من أنواعها وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر والمراد بالسماء جهة العلو، وجوز تفسيرها بالمظلة وكون الإنزال منها بضرب من التأويل، وترك التأويل لا ينبغي أن يعول عليه إلا إذا وجد من الأدلة ما يضطرنا إليه لأن ذلك خلاف المشاهد فَأَنْبَتْنا فِيها أي بسبب ذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف كَرِيمٍ أي شريف كثير المنفعة، والالتفات إلى ضمير العظمة في الفعلين لإبراز مزيد الاعتناء بهما لتكررهما مع ما فيهما من استقامة حال الحيوان وعمارة الأرض ما لا يخفى.
هذا أي ما ذكر من السماوات والأرض وسائر الأمور المعدودة خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي أي أعلموني وأخبروني، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم ذلك فأروني ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة حتى استحقوا به العبودية، وماذا يجوز أن يكون اسما واحدا استفهاميا ويكون مفعولا لخلق مقدما لصدارته وأن يكون ما وحدها اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبرها وتكون الجملة معلقا عنها سادة مسد المفعول الثاني لأروني، وأن يكون ماذا كله اسما موصولا فقد استعمل كذلك على قلة على ما قال أبو حيان ويكون مفعولا ثانيا له والعائد محذوف في الوجهين وقوله تعالى:
بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إضراب عن تبكيتهم بما ذكر إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة لإستحالة أن يفهموا منها شيئا فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه ومتعدون عن الحد وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد.
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك بالنقل بعد الإشارة إلى بطلانه بالعقل..
ولقمان اسم اعجمي لا عربي مشتق من اللقم وهو على ما قيل: ابن باعوراء قال وهب: وكان ابن أخت أيوب عليه الصلاة والسلام، وقال مقاتل: كان ابن خالته، وقال عبد الرحمن السهيلي: هو ابن عنقا بن سرون، وقيل: كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال: ألا أكتفي إذا كفيت، وقيل: كان قاضيا في بني إسرائيل، ونقل ذلك عن الواقدي إلا أنه قال: وكان زمانه بين محمد، وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وقال عكرمة، والشعبي كان نبيا، والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه السلام ولم يكن نبيا. واختلف فيه أكان حرا أو عبدا والأكثرون على أنه كان عبدا. واختلفوا فقيل:
كان حبشيا، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
وأخرج ذلك ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا
، وذكر مجاهد في وصفه أنه كان غليظ الشفتين مصفح القدمين، وقيل: كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس وابن المسيب، ومجاهد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال:
كان قصيرا أفطس من النوبة، وأخرج هو، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه قال: إن لقمان كان أسود من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة. واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال فقال خالد بن الربيع: كان نجارا بالراء وفي معاني الزجاج كان نجادا بالدال وهو على وزن كتان من يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه كان خياطا وهو أعم من النجاد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان راعيا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة ولا وثوق لي بشيء من هذه الأخبار وإنما نقلتها تأسيا بمن نقلها من المفسرين الأخيار عن أني أختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ولم يكن نبيا.
والْحِكْمَةَ على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس العقل والفهم والفطنة. وأخرج الفريابي، وأحمد في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنها العقل والفقه والإصابة في القول، وقال الراغب: هي معرفة الموجودات وفعل الخيرات وقال الإمام: هي عبارة عن توفيق العمل بالعلم ثم قال: وإن أردنا تحديدا بما يدخل فيه حكمة الله تعالى فنقول: حصول العمل على وفق المعلوم وقال أبو حيان: هي المنطق الذي يتعظ به ويتنبه ويتناقله الناس لذلك، وقيل:
إتقان الشيء علما وعملا وقيل: كمال حاصل باستكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها وفسرها كثير من الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية. ولهم تفسيرات أخر وما لها وما عليها من الجرح والتعديل مذكوران في كتبهم ومن حكمته
قوله لابنه: أي بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيا، وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عزّ وجلّ حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزا والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية وقوله: ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع وقوله: يا بني إياك والدّين فإنه ذلّ النهار وهم الليل وقوله يا بني ارج الله عزّ وجلّ رجاء لا يجزيك على معصيته تعالى وخف الله سبحانه خوفا لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه، وقوله: من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم، وقوله: يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء، وذقت المرار فلم أذق شيئا هو أمر من الفقر، يا بني لا ترسل رسولك جاهلا فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك، يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا، يا بني لا تأكل شبعا على شبع فإن القاءك إياه للكلب خير من أن تأكله، يا بني لا تكن حلوا فتبلع ولا مرا فتلفظ، وقوله لابنه:
لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء، وقوله: لا خير في أن تتعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك رجل احتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى، وقوله: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره، وقوله: لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء، وقوله: يا بني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بد لك منه، يا بني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، وقوله: يا بني امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك
إلى غير ذلك مما لا يحصى أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي أي أشكر على أن أَنِ تفسيرية وما بعدها تفسير لإيتاء الحكمة وفيه معنى القول دون حروفه سواء كان بإلهام أو وحي أو تعليم.
وجوز أن يكون تفسيرا للحكمة باعتبار ما تضمنه الأمر، وجعل الزجاج أَنِ مصدرية بتقدير اللام التعليلية ولا يفوت معنى الأمر كما مرّ تحقيقه.
وحكى سيبويه كتبت إليه بأن قم، والجار متعلق بآياتنا، وجوز كونها مصدرية بلا تقدير على أن المصدر بدل اشتمال من الحكمة، وهو بعيد وَمَنْ يَشْكُرْ إلخ استئناف مقرر لمضمون ما قبله موجب للامتثال بالأمر أي ومن يشكر له تعالى فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن نفعه من ارتباط القيد واستجلاب المزيد والفوز بجنة الخلود مقصورة عليها وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن كل شيء فلا يحتاج إلى الشكر ليتضرر بكفر من كفر حَمِيدٌ حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد أو محمود بالفعل ينطق بحمده تعالى جميع المخلوقات بلسان الحال، فحميد فعيل بمعنى محمود على الوجهين، وعدم التعرض لكونه سبحانه وتعالى مشكورا لما أن الحمد متضمن للشكر بل هو رأسه كما
قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحمد رأس الشكر لم يشكر الله تعالى بعد لم يحمده»
فإثباته له تعالى إثبات للشكر له قطعا، وفي اختيار صيغة المضي في هذا الشق قيل: إشارة إلى قبح الكفران وأنه لا ينبغي إلا أن يعد في خبر كان، وقيل:
إشارة إلى أنه كثير متحقق بخلاف الشكر وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: ١٣] وجواب الشرط محذوف قام مقامه قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ إلخ، وكان الأصل ومن كفر فإنما يكفر على نفسه لأن الله غني حميد، وحاصله ومن
كفر فضرر كفره عائد عليه لأنه تعالى غني لا يحتاج إلى الشكر ليتضرر سبحانه بالكفر محمود بحسب الاستحقاق أو بنطق ألسنة الحال فكلا الوصفين متعلقات بالشق الثاني، وجوز أن يكون غَنِيٌّ تعليلا لقوله سبحانه: فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وقوله عزّ وجلّ: حَمِيدٌ تعليلا للجواب المقدر للشرط بقرينة مقابله وهو فإنما يكفر على نفسه، وأن يكون كل منهما متعلقا بكل منهما، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف الذي لم يدع إليه ولم تقم عليه قرينة فتدبر.
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ تاران على ما قال الطبري، والقتيبي، وقيل: ما ثان بالمثلثة، وقيل: أنعم، وقيل: أشكم وهما بوزن أفعل، وقيل: مشكم بالميم بدل الهمزة، وَإِذْ معمول لا ذكر محذوفا، وقيل: يحتمل أن يكون ظرفا لآتينا والتقدير وآتيناه الحكمة إذا قال واختصر لدلالة المقدم عليه، وقوله تعالى: وَهُوَ يَعِظُهُ جملة حالية، والوعظ- كما قال الراغب- زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل، هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب يا بُنَيَّ تصغير اشفاق ومحبة لا تصغير تحقير:
ولكن إذا ما حب شيء تولعت | به أحرف التصغير من شدة الوجد |
ما قلت حبيبي من التحقير | بل يعذب اسم الشيء بالتصغير |
وأخرج ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين عن الفضل الرقاشي قال: ما زال لقمان يعظ ابنه حتى مات.
وأخرج عن حفص بن عمر الكندي قال: وضع لقمان جرابا من خردل وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة فنفذ الخردل فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظتها جبلا لتفطر فتفطر ابنه، وقيل: كان مسلما والنهي عن الشرك تحذير له عن صدوره منه في المستقبل، والظاهر أن الباء متعلق بما عنده، ومن وقف على لا تُشْرِكْ جعل الباء للقسم أي أقسم بالله تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والظاهر أن هذا من كلام لقمان ويقتضيه كلام مسلم في صحيحه، والكلام تعليل للنهي أو الانتهاء عن الشرك، وقيل: هو خير من الله تعالى شأنه منقطع عن كلام لقمان متصل به في تأكيد المعنى، وكون الشرك ظلما لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه وكونه عظيما لما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه سبحانه ومن لا نعمة له.
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلخ كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيه من النهي عن الإشراك فهو من كلام الله عزّ وجلّ لم يقله سبحانه للقمان، وقيل: هو من كلامه تعالى قاله جلّ وعلا له وكأنه قيل: قلنا له أشكر وقلنا له وصينا الإنسان إلخ، وفي البحر لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه كان ذلك حثا على طاعة الله تعالى ثم بين أن الطاعة أيضا تكون للأبوين وبين السبب في ذلك فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه أخبر الله تعالى عنه بذلك، وكلا القولين كما ترى، والمعنى وأمرنا الإنسان برعاية والديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً أي ضعفا عَلى وَهْنٍ أي ضعف، والمصدر حال من أُمُّهُ بتقدير مضاف أي ذات وهن وجوز جعله نفسه حالا مبالغة لكنه مخالف للقياس إذ القياس في الحال كونه مشتقا، ويجوز أن يكون مفعولا لا مطلقا لفعل مقدر أي تهن وهنا، والجملة حال من أُمُّهُ أيضا. صفحة رقم 84
وأيا ما كان فالمراد تضعف ضعفا متزايدا بازدياد ثقل الحمل إلى مدة الطلق، وقيل: ضعفا متتابعا وهو ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف النفاس، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في حَمَلَتْهُ العائد على الْإِنْسانَ وهو الذي يقتضيه ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: وَهْناً الولد عَلى وَهْنٍ الوالدة وضعفها، والمراد أنها حملته حال كونه ضعيفا على ضعيف مثله، وليس المراد أنها حملته حال كونه متزايد الضعف ليقال أن ضعفه لا يتزايد بل ينقص. وقرأ عيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية وَهْناً عَلى وَهْنٍ بفتح الهاء فيهما فاحتمل أن يكون من باب تحريك العين إذا كانت حرف حلق كالشعر والشعر على القياس المطرد عند الكوفي كما ذهب إليه ابن جني، وأن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن بفتحها فإن مصدره جاء كذلك وهذا كما يقال تعب يتعب تعبا كما قيل، وكلام صاحب القاموس ظاهر في عدم اختصاص أحد المصدرين بأحد الفعلين قال:
الوهن الضعف في العمل ويحرك والفعل كوعد وورث وكرم.
وَفِصالُهُ أي فطامه وترك إرضاعه. وقرأ الحسن، وأبو رجاء وقتادة، والجحدري، ويعقوب «وفصله» وهو أعم من الفصال، والفصال هاهنا أوقع من الفصل لأنه موقع يختص بالرضاع وإن رجعنا إلى أصل واحد على ما قاله الطيبي فِي عامَيْنِ أي في انقضاء عامين أي في أول زمان انقضائهما، وظاهر الآية أن مدة الرضاع عامان وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي، والإمام أحمد، وأبو يوسف، ومحمد، وهو مختار الطحاوي. وروي عن مالك، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: ١٥]، ووجه الاستدلال به أنه سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال: أجلت الدين الذي لي على فلان والدين الذي لي على فلان سنة فإنه يفهم أن السنة بكمالها لكل، أو على شخص بأن قال لفلان على ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة فصدقه المقر له في الأجل فإذا مضت السنة يتم أجلهما جميعا إلا أنه قام النقص في أحدهما أعني مدة الحمل لقول عائشة الذي لا يقال مثله إلّا سماعا: الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل فتبقى مدة الفصال على ظاهرها، وما ذكر هنا أقل مدته وفيه بحث أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تفسير لوصينا كما اختاره النحاس فإن تفسيرية، وجوز أن تكون مصدرية بتقدير لام التعليل قبلها وهو متعلق بوصينا وبلا تقدير على أن يكون المصدر بدلا من- والديه- بدل الاشتمال، وعليه كأنه قيل: وصينا الإنسان بوالديه بشكرهما وذكر شكر الله تعالى لأن صحة شكرهما تتوقف على شكره عزّ وجلّ كما قيل في عكسه لا يشكر الله تعالى من لا يشكر الناس ولذا قرن بينهما في الوصية، وفي هذا من البعد ما فيه، وأما القول بأن الأمر يأبى التفسير والتعليل والبدلية فليس بشيء كما أشرنا إليه قريبا، وعلى الأوجه الثلاثة يكون قوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ- إلى- عامَيْنِ اعتراضا مؤكدا للتوصية في حق الأم خصوصا لذكر ما قاسته في تربيته وحمله، ولذا
قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في حديث صحيح رواه الترمذي، وأبو داود عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لمن سأله عمن يبره: أمك وأجابه عن سؤاله به ثلاث مرات،
وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه:
أحمل أمي وهي الحمالة. | ترضعني الدرة والعلالة |
لأمك حق لو علمت كبير | كثيرك يا هذا لديه يسير |
وتشرق بالقول الذي قد أذعته | كما شرقت صدر القناة من الدم |
وفي قوله تعالى: فِي السَّماواتِ لا يأبى ذلك لأنها ذكرت بحسب المكانية أو للمشاكلة أو هي بمعنى على، وعبر بها للدلالة على التمكن ومع هذا الظاهر ما تقدم، وفي البحر أنه بدأ بما يتعقله السامع أولا وهو كينونة الشيء في صخرة وهو ما صلب من الحجر وعسر الإخراج منه ثم أتبعه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض، وقيل: إن خفاء الشيء وصعوبة نيله بطرق بغاية صغره ويبعده عن الرائي وبكونه في ظلمة وباحتجاجه فمثقال حبة من خردل إشارة إلى غاية الصغر، وفِي صَخْرَةٍ إشارة إلى الحجاب وفِي السَّماواتِ صفحة رقم 87
إشارة إلى البعد وفِي الْأَرْضِ إشارة إلى الظلمة فإن جوف الأرض أشد الأماكن ظلمة أو يقال فليس المراد بصخرة صخرة معينة، وعن ابن عباس، والسدي أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن الأرض على نون والنون على البحر بحر على صخرة خضراء خضرة الماء منها والصخرة على قرن ثور وذلك الثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلّا الله تعالى.
وفسر بعضهم الصخرة بهذه الصخرة، وقيل: هي صخرة في الريح، قال ابن عطية: وكل ذلك ضعيف لا يثبت سنده وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم أي إن قدرته عزّ وجلّ تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وما يكون في الأرض اهـ، والأقوى عندي وضع هذه الأخبار ونحوها فليست الأرض إلّا في حجر الماء وليس الماء إلّا في جوف الهواء وينتهي الأمر إلى عرش الرحمن جلّ وعلا والكل في كف قدرة الله عزّ وجلّ.
وقرأ عبد الرحيم الجزري فَتَكُنْ بكسر الكاف وشد النون وفتحها، وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي «فتكن» بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة، وقرأ قتادة «فتكن» بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ورويت هذه القراءة عن الجزري أيضا، والفعل في جميع ما ذكر من وكن الطائر إذا استقر في وكنته أي عشه ففي الكلام استعارة أو مجاز مرسل كما في المشفر، والضمير للمحدث عنه فيما يسبق، وجوز أن يكون للابن والمعنى أن تختف أو تخف وقت الحساب يحضرك الله تعالى، ولا يخفى أنه غير ملائم للجواب أعني قوله تعالى: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يحضرها فيحاسب عليها، وهذا إما على ظاهره أو المراد يجعلها كالحاضر المشاهدة لذكرها والاعتراف بها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه تعالى إلى كل خفي خَبِيرٌ عالم بكنهه.
وعن قتادة لطيف باستخراجها خبير بمستقرها، وقيل: ذو لطف بعباده فيلطف بالإتيان بها بأحد الخصمين خبير عالم بخفايا الأشياء وهو كما ترى، والجملة علة مصححة للإتيان بها، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن رباح اللخمي إنه لما وعظ لقمان ابنه وقال: إِنَّها إِنْ تَكُ الآية أخذ حبة من خردل فأتى بها إلى اليرموك وهو واد في الشام فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء الله تعالى ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته والله تعالى أعلم، وبعد ما أمره بالتوحيد الذي هو أول ما يجب على المكلف في ضمن النهي عن الشرك ونبهه على كمال علمه تعالى وقدرته عزّ وجلّ أمره بالصلاة التي هي أكمل العبادات تكميلا من حيث العمل بعد تكميله من حيث الاعتقاد فقال مستميلا له: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك، ويروى أنه قال له: يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء صلها واسترح منها فإنها دين، وصل في جماعة ولو على رأس زج وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلا لغيرك والظاهر أنه ليس المراد معروفا ومنكرا معينين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: وأمر بالمعروف يعني التوحيد وانه عن المنكر يعني الشرك وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد والمحن لا سيما فيما أمرت به من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واحتياج الآخرين للصبر على ما ذكر ظاهر، والأول لأن إتمام الصلاة والمحافظة عليها قد يشق ولذا قال تعالى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة: ٤٥] وقال ابن جبير: واصبر على ما أصابك في أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول: إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر وأصابك في ذلك أذى وشدة فاصبر عليه إِنَّ ذلِكَ أي الصبر على ما أصابك عند ابن جبير، وهو يناسب إفراد اسم الإشارة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته في الفضل، أو الإشارة إلى الصبر وإلى سائر ما أمر به والأفراد للتأويل بما ذكر وأمر البعد على ما سمعت مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي مما عزمه الله تعالى وقطعه قطع إيجاب وروي ذلك عن ابن جريج، والعزم بهذا المعنى مما ينسب إلى الله تعالى ومنه ما
ورد من عزمات الله عزّ وجلّ
، والمراد به هنا المعزوم إطلاقا للمصدر على المفعول، والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور المعزومة.
وجوز أن يكون العزم بمعنى الفاعل أي عازم الأمور من عزم الأمر أي جد فعزم الأمور من باب الإسناد المجازي كمكر الليل لا من باب الإضافة على معنى في وإن صح، وقيل: يريد من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة، واستظهر أبو حيان إنه أراد من لازمات الأمور الواجبة، ونقل عن بعضهم أن العزم هو الحزم بلغة هذيل، والحزم والعزم أصلان، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء لاطراد تصاريف كل من اللفظين فليس أحدهما أصلا للآخر، والجملة تعليل لوجوب الامتثال بما سبق وفيه اعتناء بشأنه وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون قاله ابن عباس، وجماعة وأنشدوا:
وكنا إذا الجبار صعر خده | أقمنا له من ميله فتقوما |
نهى أن يذل نفسه من غير حاجة فيلوى عنقه، ورجح الأول بأنه أوفق بما بعد، ولام لِلنَّاسِ تعليلية والمراد ولا تصعر خدك لأجل الإعراض عن الناس أو صلة. وقرأ نافع وأبو عمرو. وحمزة، والكسائي «تصاعر» بألف بعد الصاد. وقرأ الجحدري تصعر مضارع أصعر والكل واحد مثل علاه وعالاه وأعلاه.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ التي هي أحط الأماكن منزلة مَرَحاً أي فرحا وبطرا، مصدر وقع موقع الحال للمبالغة أو لتأويله بالوصف أو تمرح مرحا على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة في موضع الحال أو لأجل المرح على أنه مفعول له، وقرىء مرحا بكسر الراء على أنه وصف في موضع الحال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تعليل للنهي أو موجبه والمختال من الخيلاء وهو التبختر في المشي كبرا، وقال الراغب: التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه، ومنه تؤول لفظ الخيل لما قيل إنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة، والفخور من الفخر وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لظهور أنه مباهاة بالمال، وعن مجاهد تفسير الفخور بمن يعدد ما أعطى ولا يشكر الله عزّ وجلّ، وفي الآية عند الزمخشري لف ونشر معكوس حيث قال: المختال مقابل للماشي مرحا وكذلك الفخور للمصعر خده كبرا وذلك لرعاية الفواصل على ما قيل، ولا يأبى ذلك كون الوصية لم تكن باللسان العربي كما لا يخفى.
وجوز أن يكون هناك لف ونشر مرتب فإن الاختيال يناسب الكبر والعجب وكذا الفخر يناسب المشي مرحا.
والكلام على رفع الإيجاب الكلي والمراد السلب الكلي، وجوز أن يبقى على ظاهره، وصيغة فَخُورٍ للفاصلة ولأن ما يكره من الفخر كثرته فإن القليل منه يكثر وقوعه فلطف الله تعالى بالعفو عنه وهذا كما لطف بإباحة اختيال المجاهد بين الصفين وإباحة الفخر بنحو المال لمقصد حسن وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ بعد الاجتناب عن المرح فيه أي توسط فيه بين الدبيب والإسراع من القصد وهو الاعتدال، وجاء في عدة روايات إلّا أن في أكثرها مقالا يخرجها عن صلاحية الاحتجاج بها كما لا يخفى على من راجع
شرح الجامع الصغير للمناوي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن»
أي هيبته وجماله أي تورثه حقارة في أعين الناس، وكأن ذلك لأنها تدل على الخفة وهذا أقرب من قول المناوي لأنها تتعب فتغير البدن والهيئة.
وقال ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشيا بين ذلك، وما في النهاية من أن عائشة نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء فقالت: كان عمر رضي الله تعالى عنه صفحة رقم 89
سيد القراء وكان إذا مشى أسرع وإذا قال أسمع وإذا ضرب أوجع. فالمراد بالإسراع فيه ما فوق دبيب المتماوت (١) وهو الذي يخفي صوته ويقل حركاته مما يتزيا بزي العباد كأنه يتكلف في اتصافه بما يقربه من صفات الأموات ليوهم أنه ضعف من كثرة العبادة فلا ينافي الآية، وكذا ما ورد في صفته صلى الله تعالى عليه وسلم إذا يمشي كأنما ينحط من صبب وكذا لا ينافيها قوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: ٦٣] إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه، وقال السخاوي: محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمر ديني، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مثلا مما قالوا أنه مما لا ينبغي فلا تغفل، وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه، وقيل: جعل البصر موضع القدم، والمعول عليه ما تقدم: وقرىء. «وأقصد» بقطع الهمزة ونسبها ابن خالويه للحجازي من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها أي سدد في مشيك والمراد أمش مشيا حسنا، وكأنه أريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء فتتوافق القراءتان وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي انقص منه واقصر من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به وضع منه وحط من درجته. وفي البحر الغض رد طموح الشيء كالصوت والنظر ويستعمل متعديا بنفسه كما في قوله: فغض الطرف إنك من نمير ومتعديا بمن كما هو ظاهر قول الجوهري غض من صوته. والظاهر إن ما في الآية من الثاني، وتكلف بعضهم جعل من فيها للتبعيض، وادعى آخر كونها زائدة في الإثبات، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به في الجاهلية ومنه، قول الشاعر:
جهير الكلام جهير العطاس | جهير الرواء جهير النعم |
ويخطو على العم خطو الظليم | ويعلو الرجال بخلق عمم |
المقام وأجيب بأنه لا يلتفت إلى مثل هذا التوهم وقيل: لم يجمع الصوت المضاف لأنه مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع ما لم تقصد الأنواع كما في أَنْكَرَ الْأَصْواتِ فتأمل، والظاهر أن قوله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ من كلام لقمان لابنه تنفيرا له عن رفع الصوت، وقيل: هو من كلام الله تعالى وانتهت وصية لقمان بقوله:
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ رد سبحانه به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ورفعه مع أن ذلك يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأذن وبين عزّ وجلّ أن مثلهم في رفع أصواتهم مثل الحمير وأن مثل أصواتهم التي يرفعونها مثل نهاقها في الشدة مع القبح الموحش وهذا الذي يليق أن يجعل وجه شبه لا الخلو عن ذكر الله تعالى كما يتوهم بناء على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري قال: صياح كل شيء تسبيحه إلّا الحمار لما أن وجه الشبه ينبغي أن يكون صفة ظاهرة وخلو صوت الحمار عن الذكر ليس كذلك، على أنا لا نسلم صحة هذا الخبر فإن فيه ما فيه. ومثله ما شاع بين الجهلة من أن نهيق الحمار لعن للشيعة الذين لا يزالون ينهقون بسبب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومثل هذا من الخرافات التي يمجها السمع ما عدا سمع طويل الأذنين، والظاهر أن المراد بالغض من الصوت الغض منه عند التكلم والمحاورة، وقيل: الغض من الصوت مطلقا فيشمل الغض منه عند العطاس فلا ينبغي أن يرفع صوته عنده أن أمكنه عدم الرفع، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يقتضيه ثم إن الغض ممدوح إن لم يدع داع شرعي إلى خلافه، وأردف الأمر بالقصد في المشي بالأمر بالغض من الصوت لما أنه كثيرا ما يتوصل إلى المطلوب بالصوت بعد العجز عن التوصل إليه بالمشي كذا قيل، هذا وأبعد بعضهم في الكلام على هذين الأمرين فقال: إن الأول إشارة إلى التوسط في الأفعال والثاني إشارة إلى الاحتراز من فضول الكلام والتوسط في الأقوال، وجعل قوله تعالى: إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إلخ إشارة إلى إصلاح الضمير وهو كما ترى.
وقرأ ابن أبي عبلة «أصوات الحمير» بالجمع بغير لام التأكيد أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصة لقمان من خطاب المشركين وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد، والتسخير على ما قال الراغب سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا، وفي إرشاد العقل السليم المراد به أما جعل المسخر بحيث ينفع المسخر له أعم من أن يكون منقادا له يتصرف فيه كيف يشاء ويستعمله كيف يريد كعامة ما في الأرض من الأشياء المسخرة للإنسان المستعملة له من الجماد والحيوان أو لا يكون كذلك بل يكون سببا لحصول مراده من غير أن يكون له دخل في استعماله كجميع ما في السماوات من الأشياء التي نيطت بها مصالح العباد معاشا أو معادا، وأما جعله منقادا للأمر مذللا على أن معنى لَكُمْ لأجلكم فإن جميع ما في السماوات والأرض من الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق وما يستعمله الإنسان حسبما يشاء وإن كان مسخرا له بحسب الظاهر فهو في الحقيقة مسخر لله عزّ وجلّ وَأَسْبَغَ أي أتم وأوسع عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ جمع نعمة وهي في الأصل الحالة المستلذة فإن بناء الفعلة كالجلسة والركبة للهيئة ثم استعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة إطلاقا للمسبب على السبب، وفي معنى ذلك قولهم: هي ما ينتفع به ويستلذ ومنهم من زاد ويحمد عاقبته، وقال بعضهم: لا حاجة إلى هذه الزيادة لأن اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته وعليه لا يكون لله عز وجلّ على كافر نعمة، ونقل الطيبي عن الإمام أنه قال: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا: وإنما زدنا قيد الحسنة لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر، والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة الشكر كونه إحسانا وجهة استحقاق الذم والعقاب الحظر فأي امتناع في
اجتماعهما، ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر لإنعامه والذم لمعصية الله تعالى فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك، أما قولنا: المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة، وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمه وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها اهـ، ويعمل منه حكم زيادة ويحمد عاقبته ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي محسوسة ومعقولة معروفة لكم وغير معروفة، وعن مجاهد النعمة الظاهرة وظهور الإسلام والنصرة على الأعداء والباطنة الإمداد من الملائكة عليهم السلام، وعن الضحاك الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة، وقيل: الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح والباطنة القلب والعقل والفهم، وقيل: الظاهرة نعم الدنيا والباطنة نعم الآخرة، وقيل: الظاهرة نحو إرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق لقبول الإسلام والإتيان به والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية والباطنة ما أصاب الأرواح في عالم الذر من رشاش نور النور وأول الغيث قطر ثم ينسكب.
ونقل بعض الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال: الظاهرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به من معرفة الله تعالى وتوحيده والباطنة ولا يتنا أهل البيت وعقد مودتنا
، والتعميم الذي أشرنا إليه أولا أولى، لكن
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عطاء قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً قال: هذه من كنوز علمي سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أما الظاهرة فما سوي من خلقك وأما الباطن فما ستر من عورتك ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم.
وفي رواية أخرى رواها ابن مردويه، والديلمي، والبيهقي، وابن النجار عن ابن عباس أنه قال: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى وَأَسْبَغَ إلخ قال: أما الظاهرة فالإسلام وما سوي من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه وأما الباطنة فما ستر من مساوئ عملك
فإن صح ما ذكر فلا يعدل عنه إلى التعميم إلا أن يقال: الغرض من تفسير الظاهرة والباطنة بما فسرنا به التمثيل وهو الظاهر لا التخصيص وإلا لتعارض الخبران.
ثم إن ظاهر هذين الخبرين يقتضي كون الذنب وهو المعبر عنه في الأول بما ستر من العورة وفي الثاني بما ستر من مساوئ العمل نعمة ولم نر في كلامهم التصريح بإطلاقها عليه ويلزمه أن من كثرت ذنوبه كثرت نعم الله تعالى عليه فكان المراد أن النعمة الباطنة هي ستر ما ستر من العورة ومساوئ العمل ولم يقل كذلك اعتمادا على وضوح الأمر، وجاء في بعض الآثار ما يقتضي ذلك، أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن مقاتل أنه قال في الآية: ظاهِرَةً الإسلام وَباطِنَةً ستره تعالى عليكم المعاصي، بل جاء في بعض روايات الخبر الثاني وأما ما بطن فستر مساوئ عملك.
وجوز أن يكون ما في ما ستر في الخبرين مصدرية ومن صلة ستر لا بيان لما وقرأ يحيى بن عمارة وأصبغ بالصاد وهي لغة بني كلب يبدلون من السين إذا اجتمعت مع أحد الحروف المستعلية الغين والخاء والقاف صادا فيقولون في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سائغ صائغ ولا فرق في ذلك بين أن يفصل بينهما فاصل وأن لا يفصل، وظاهر كلام بعضهم أنه لا فرق أيضا بين أن تتقدم السين على أحد تلك الأحرف وأن تتأخر، واشترط آخر تقدم السين، وذكر الخفاجي أنه ابدال مطرد.
وقرأ بعض السبعة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «نعمة» بالإفراد وقرىء «نعمته» بالإفراد والإضافة، ووجه الافراد بإرادة الجنس كما قيل ذلك في قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وقال الزجاج: من قرأ «نعمة» فعلى معنى ما أعطاهم من التوحيد ومن قرأ نعمه بالجمع فعلى جميع ما أنعم به عليهم والأول أولى، ونصب ظاهِرَةً
وَباطِنَةً
في قراءة التعريف على الحالية وفي قراءة التنكير على الوصفية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ من الجدال وهو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كان المتجادلين يفتل كل منهما صاحبه عن رأيه وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة وكأن الجملة في موضع الحال من ضميره تعالى فيما قيل أي ألم تروا إن الله سبحانه فعل ما فعل من الأمور الدالة على وحدته سبحانه وقدرته عزّ وجلّ والحال من الناس من ينازع ويخاصم كالنضر بن الحارث وأبي ابن خلف كانا يجادلان النبي صلّى الله عليه وسلم فِي اللَّهِ أي في توحيده عزّ وجلّ وصفاته جلّ شأنه كالمشركين المنكرين وحدته سبحانه وعموم قدرته جلت قدرته وشمولها للبعث ولم يقل فيه بدل في الله بإرجاع الضمير للاسم الجليل في قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ تهويلا لأمر الجدال بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل عقلي وَلا هُدىً راجع إلى رسول مأخوذ منه، وجوز جعل الهدى نفس الرسول مبالغة وفيه بعد وَلا كِتابٍ أنزله الله تعالى مُنِيرٍ أي ذي نور والمراد به واضح الدلالة على المقصود، وقيل: منقذ من ظلمة الجهل والضلال بل يجادلون بمجرد التقليد كما قال سبحانه وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمن يجادل والجمع باعتبار المعنى اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يريدون عبادة ما عبدوه من دون الله عزّ وجلّ، وهذا ظاهر في منع التقليد في أصول الدين والمسألة خلافية فالذي ذهب إليه الأكثرون ورجحه الإمام الرازي والآمدي أنه لا يجوز التقليد في الأصول بل يجب النظر والذي ذهب إليه عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة الجواز وربما قال بعضهم أنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام، وعلى كل يصح عقائد المقلد المحق وإن كان آثما بترك النظر على الأول، وعن الأشعري أنه لا يصح إيمانه، وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: هذا مكذوب عليه لما يلزمه تكفير العوام وهم غالب المؤمنين، والتحقيق أنه إن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك ووهم بأن لا يجزم المقلد فلا يكفي إيمانه قطعا لأنه لا إيمان مع أدنى تردد فيه وإن كان لكن جزما فيكفي عند الأشعري وغيره خلافا لأبي هاشم في قوله لا يكفي بل لا بد لصحة الإيمان من النظر، وذكر الخفاجي أنه لا خلاف في امتناع تقليد من لم يعلم أنه مستند الى دليل حق، وظاهر ذم المجادلين بغير علم ولا هدى ولا كتاب أنه يكفي في النظر الدليل النقلي الحق كما يكفي فيه الدليل العقلي.
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أي يدعو آباءهم لا أنفسهم كما قيل: فإن مدار إنكار الاستتباع كون المتبوعين تابعين للشياطين وينادي عليه قوله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: ١٧٠] بعد قوله سبحانه: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [البقرة: ١٧٠] ويعلم منه حال رجوع الضمير الى المجموع أي أولئك المجادلين وآباؤهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي إلى ما يؤول إليه أو يستبب منه من الإشراك وإنكار شمول قدرته عزّ وجلّ للبعث ونحو ذلك من الضلالات، وجوز بقاء عَذابِ السَّعِيرِ على حقيقته والاستفهام للإنكار ويفهم التعجيب من السياق أو للتعجيب ويفهم الإنكار من السياق والواو حالية والمعنى أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب، وجوز كون الواو عاطفة على مقدر أي أيتبعونهم لو لم يكن الشيطان يدعوهم الى العذاب ولو كان يدعوهم إليه، وهما قولان مشهوران في الواو الداخلة على لَوْ الوصلية ونحوها، وكذا في احتياجها إلى الجواب قولان قول بالاحتياج وقول بعدمه لانسلاخها عن معنى الشرط، ومن ذهب إلى الأول قدره هنا لا يتبعوهم وهم مما لا غبار عليه على تقدير كون الواو عاطفة، وأما على تقدير كونها حالية فزعم بعضهم أنه لا يتسنى وفيه نظر، وقد مرّ الكلام على نحو هذه الآية الكريمة فتذكر.
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن فوض إليه تعالى جميع أموره وأقبل عليه سبحانه بقلبه وقالبه، فالإسلام كالتسليم التفويض، والوجه الذات، والكلام كناية عما أشرنا إليه من تسلم الأمور جميعها إليه تعالى والإقبال التام عليه عزّ وجلّ وقد يعدى الإسلام باللام قصدا لمعنى الإخلاص.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، والسلمي، وعبد الله بن مسلم بن يسار «يسلّم» بتشديد اللام من التسليم وهو أشهر في معنى التفويض من الإسلام وَهُوَ مُحْسِنٌ أي في أعماله والجملة في موضع الحال.
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تعلق أتم تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وهذا تشبيه تمثيلي مركب حيث شبه حال المتوكل على الله عزّ وجلّ المفوض إليه أموره كلها المحسن في أعماله بمن ترقى في جبل شاهق أو تدلى منه فتمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه، وجوز أن يكون هناك استعارة في المفرد وهو العروة الوثقى بأن يشبه التوكل النافع المحمود عاقبته بها فتستعار له وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي هي صائرة إليه عزّ وجلّ لا إلى غيره جلّ جلاله فلا يكون لأحد سواه جلّ وعلا تصرف فيها بأمر ونهي وثواب وعقاب فيجازي سبحانه هذا المتوكل أحسن الجزاء، وقيل: فيجازي كلا من هذا المتوكل وذاك المجادل بما يليق به بمقتضى الحكمة، وأل في الأمور للإستغراق، وقيل: تحتمل العهد على أن المراد الأمور المذكورة من المجادلة وما بعدها، وتقديم إِلَى اللَّهِ للحصر ردا على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور.
واختار بعضهم كونه إجلالا للجلالة ورعاية للفاصلة ظنا منه أن الاستغراق مغن عن الحصر وهو ليس كذلك.
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي فلا يهمنك ذلك إِلَيْنا لا إلى غيرنا مَرْجِعُهُمْ رجوعهم بالبعث يوم القيامة فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي بعملهم أو بالذي عملوه في الدنيا من الكفر والمعاصي بالعذاب والعقاب، وقيل:
إلينا مرجعهم في الدارين فنجازيهم بالإهلاك والتعذيب والأول أظهر وأيا ما كان فالجملة في موضع التعليل كأنه قيل:
لا يهمنك كفر من كفر لأنا ننتقم منه ونعاقبه على عمله أو الذي عمله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الافراد في الأول باعتبار لفظها، وقرىء في السبع «ولا يحزنك» مضارع أحزن مزيد حزن اللام وقدر اللزوم ليكون للنقل فائدة وحزن وأحزن لغتان، قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرىء بهما، وذكر الزمخشري أن المستفيض في الاستعمال ماضي الأفعال ومضارع الثلاثي والعهدة في ذلك عليه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل للتنبئة المعبر بها عن المجازاة أي يجازيهم سبحانه لأنه عزّ وجلّ عليم بالضمائر فما ظنك بغيرها.
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ثقيل عليهم ثقل الإجرام الغلاظ، والمراد بالاضطرار أي الإلجاء إلزامهم ذلك العذاب الشديد إلزام المضطر الذي لا يقدر على الانفكاك مما ألجئ إليه، وفي الانتصاف تفسير هذا الاضطرار ما في الحديث من أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد فيرسل عليهم الزمهرير فيكون أشد عليهم من اللهب فيتمنون عود اللهب اضطرارا فهو اختيار عن اضطرار وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث قال:
يرون الموت قداما وخلفا | فيختارون والموت اضطرار |