
قوله جل ذكره: مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ.
بركاته اتصال الألطاف والكشوفات، فمن قصده بهمته، ونزل عليه بقصده هداه إلى طريق رشده.
قوله جل ذكره:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٧]
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
ولكن لا تدرك تلك الآيات بأبصار الرءوس ولكن ببصائر القلوب، ومقام إبراهيم- فى الظاهر- ما تأثر بقدمه، وفى الإشارة: ما وقف الخليل عليه السّلام بهممه.
ويقال إن شرف مقام إبراهيم لأنه أثر الخليل، ولأثر الخليل خطر عظيم.
قوله جل ذكره: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً.
يقال من دخل مقام إبراهيم كان آمنا، ومقام إبراهيم التسليم، ومن كان مسلما أموره إلى الله لم يبق له اختيار، وكان آمنا فالأمن ضده الخوف، والخوف إنما يكون على ألا يحصل مرادك على ما تريد، فإذا لم تكن للعبد إرادة واختيار فأىّ مساغ للخوف فى وصفه؟
ويقال إن الكناية «١» بقوله (دخله) راجعة إلى البيت، فمن دخل بيته- على الحقيقة- كان آمنا، وذلك بأن يكون دخوله على وصف الأدب، ولا محالة أدب دخول البيت تسليم الأمور إلى رب البيت، فإنّ من لم يكن صاحب تسليم فهو معارض للتقدير. ودخول البيت إنما الأدب فيه أن يكون دخولا على التسليم دون المعارضة والنزاع فيؤول إلى المعنى المتقدم.
وإن جعلت الإشارة من البيت إلى القلب فمن دخل قلبه سلطان الحقيقة أمن من نوازع البشرية وهواجس غاغة النفس، فإنّ من التجأ إلى ظل الملك لم يمتط إليه محذورا.
ويقال لا يكون دخول البيت- على الحقيقة- إلا بخروجك عنك، فإذا خرجت عنك صحّ دخولك فى البيت، وإذا خرجت عنك أمنت.
ويقال دخول بيته لا يصحّ مع تعريجك فى أوطانك ومعاهدك، فإن الشخص الواحد

لا يكون فى حالة واحدة فى مكانين فمن دخل بيت ربّه فبالحرىّ أن يخرج عن معاهد «١» نفسه.
قوله جل ذكره: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
شرط الغنىّ ألا يدّخر عن البيت شيئا من ماله، وشرط الفقير ألا يدخر عن الوصول إلى بيته نفسا من روحه.
ويقال الاستطاعة فنون فمستطيع بنفسه وماله وهو الصحيح السليم، ومستطيع بغيره وهو الزّمن المعصوب، وثالث غفل الكثيرون عنه وهو مستطيع بربه وهذا نعت كل مخلص مستحق فإن بلاياه لا تحملها إلا مطايانا.
ويقال حج البيت فرض على أصحاب الأموال، وربّ البيت فرض على الفقراء فرض حتم فقد ينسدّ الطريق إلى البيت ولكن لا ينسدّ الطريق إلى رب البيت، ولا يمنع الفقير عن ربّ البيت.
ويقال الحج هو القصد إلى من تعظّمه: فقاصد بنفسه إلى زيارة البيت، وقاصد بقلبه إلى شهود رب البيت، فشتان بين حج وحج، هؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند قضاء منسكهم وأداء فرضهم، وهؤلاء تحللهم عن إحرامهم عند «٢» شهود ربهم، فأمّا القاصدون بنفوسهم فأحرموا عن المعهودات من محرمات الإحرام، وأمّا القاصدون بقلوبهم فإنهم أحرموا عن المساكنات وشهود الغير وجميع الأنام.
قوله جل ذكره: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ضرب رقم الكفر على من ترك حج البيت، ووقعت بسبب هذا القول قلوب العلماء فى كدّ التأويل، ثم قال: «فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» وهذا زيادة تهديد تدل على زيادة تخصيص.
ويقال إن سبيل من حج البيت أن يقوم بآداب الحج، فإذا عقد بقلبه الإحرام يجب أن
(٢) وردت (عن) والصحيح (عند).

يفسخ كلّ عقد يصدّه عن هذا الطريق، وينقض كل عزم يرده عن هذا التحقيق، وإذا طهّر تطهّر عن كل دنس من آثار الأغيار بماء الخجل ثم بماء الحياء ثم بماء الوفاء ثم بماء الصفاء، فإذا تجرّد عن ثيابه تجرد عن كل ملبوس له من الأخلاق الذميمة، وإذا لبّي بلسانه وجب ألا تبقى شعرة من بدنه إلا وقد استجابت لله. فإذا بلغ الموقف وقف بقلبه وسرّه حيث وقفه الحق بلا اختيار مقام، ولا تعرض لتخصيص فإذا وقف بعرفات عرف الحق سبحانه، وعرف له تعالى حقّه على نفسه، ويتعرّف إلى الله تعالى بتبرّيه عن منّته «١» وحوله، والحقّ سبحانه يتعرّف إليه بمنّته وطوله، فإذا بلغ المشعر الحرام يذكر مولاه بنسيان نفسه، ولا يصحّ ذكره لربّه مع ذكره لنفسه، فإذا بلغ منّي نفى عن قلبه كل طلب ومنى، وكلّ شهوة وهوى.
وإذا رمى الجمار رمى عن قلبه وقذف عن سره كل علاقة فى الدنيا والعقبى.
وإذا ذبح ذبح هواه بالكلية، وتقرّب به إلى الحق سبحانه، فإذا دخل الحرم عزم على التباعد عن كل محرّم على لسان الشريعة وإشارة الحقيقة.
وإذا وقع طرفه على البيت شهد بقلبه ربّ البيت، فإذا طاف بالبيت أخذ سرّه بالجولان فى الملكوت.
فإذا سعى بين الصفا والمروة صفّى عنه كل كدورة بشرية وكل آفة إنسانية.
فإذا حلق قطع كلّ علاقة بقيت له.
وإذا تحلل من إحرام نفسه وقصده إلى بيت ربّه استأنف إحراما جديدا بقلبه، فكما خرج من بيت نفسه إلى بيت ربه يخرج من بيت ربه إلى ربه تعالى.
فمن أكمل نسكه فإنما عمل لنفسه، ومن تكاسل فإنّ الله غنى عن العالمين وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الحاج أشعث أغبر»، فمن لم يتحقق بكمال الخضوع والذوبان عن كليته فليس بأشعث ولا أغبر.