
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا آيَةٌ ثَانِيَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يَمْتَرِي فِيهَا أَحَدٌ، وَهِيَ اتِّفَاقُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كُلِّهَا عَلَى احْتِرَامِ هَذَا الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ لِنِسْبَتِهِ إِلَى اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ دَخَلَهُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ لَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَإِيذَائِهِ فَقَطْ بَلْ يَأْمَنُ أَنْ يَثْأَرَ مِنْهُ مَنْ سَفَكَ هُوَ دِمَاءَهُمْ وَاسْتَبَاحَ حُرُمَاتِهِمْ مَا دَامَ فِيهِ. مَضَى عَلَى هَذَا عَمَلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْمَنَازِعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَعْبُودَاتِ، وَكَثْرَةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْقَادِ وَالْأَضْغَانِ، وَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ.
وَيُرَدُّ عَلَى إِقْرَارِ الْإِسْلَامِ لِحُرْمَةِ الْبَيْتِ فَتْحُ مَكَّةَ بِالسَّيْفِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهَا حَلَّتْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ لِضَرُورَةِ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَخْصِيصِهِ لِمَا وُضِعَ لَهُ. وَأَقُولُ: إِنَّ حُرْمَةَ مَكَّةَ كُلِّهَا وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ ضَوَاحِيهَا وَحِلَّهَا لِلنَّبِيِّ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ أَمْنُ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ سَاعَةً وَلَا بَعْضَ سَاعَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مُنَادِيهِ يُنَادِي بِأَمْرِهِ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ وَلَمَّا أَخْبَرَ أَبُو سُفْيَانَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حَامِلِ لِوَاءِ الْأَنْصَارِ لَهُ فِي الطَّرِيقِ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ (رَاجِعِ السِّيَرَ).
وَأَمَّا فِعْلُ الْحَجَّاجِ - أَخْزَاهُ اللهُ - فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الشُّذُوذِ الَّذِي لَا يُنَافِي الِاتِّفَاقَ عَلَى احْتِرَامِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَأْمِينِ مَنْ دَخَلَهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَمْنَ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَشَرَ يَعْجِزُونَ عَنِ الْإِيقَاعِ بِهِ عَجْزًا طَبِيعِيًّا عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - أَلْهَمَهُمُ احْتِرَامَهُ لِاعْتِقَادِهِمْ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَحَرَّمَ الْإِلْحَادَ وَالِاعْتِدَاءَ فِيهِ. وَلَمْ يَكُنِ الْحَجَّاجُ وَجُنْدُهُ يَعْتَقِدُونَ
حِلَّ مَا فَعَلُوا مِنْ رَمْيِ الْكَعْبَةِ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَلَكِنَّهَا السِّيَاسَةُ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى مُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ، وَتُوقِعُهُ فِي الظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِنَّ مَا يُفْعَلُ الْآنَ فِي الْحَرَمِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ الْمُسْتَمِرِّ لَمْ يُسْبَقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ. وَلَا ضَرُورَةَ مُلْجِئَةٌ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ السِّيَاسَةُ السَّوْءَى قَضَتْ بِتَنْفِيرِ النَّاسِ مِنْ أُمَرَاءِ مَكَّةَ وَشُرَفَائِهَا وَإِبْعَادِ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا قُوَّةٌ فِي الدِّينِ، وَلَا فِي الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ! ! وَمَاذَا يَكُونُ مِنْ ضَرَرِ هَذِهِ الْقُوَّةِ؟ يُوَسْوِسُ لَهُمْ شَيْطَانُ السِّيَاسَةِ أَنَّ عُمْرَانَ الْحِجَازِ وَثِقَةَ النَّاسِ بِأُمَرَائِهِ وَشُرَفَائِهِ، وَأَمْنَ الْعُقَلَاءِ وَالسَّرَوَاتِ فِيهِ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي إِنْشَاءِ خِلَافَةٍ عَرَبِيَّةٍ فِيهِ. إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَنَابِغِيهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ دُونَ أَدَائِهِمْ لِفَرِيضَةِ الْحَجِّ عَقَبَاتٍ سِيَاسِيَّةً لَا يَسْهُلُ اقْتِحَامُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي صُحُفِ الْأَخْبَارِ أَنَّ أَمِيرَ مِصْرَ اسْتَأْذَنَ السُّلْطَانَ فِي حَجِّ وَالِدَتِهِ وَبَعْضِ أُمَرَاءِ أُسْرَتِهِ فَلَمْ يَأْذَنْ. وَقَدْ كَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا فِيهِ أَنَّهُ إِذَا حَجَّ

يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُ فِي الْحَرَمِ الَّذِي كَانَ يَرَى الْجَاهِلِيُّ فِيهِ قَاتِلَ أَبِيهِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ بِسُوءٍ. وَإِنَّ كَاتِبَ هَذِهِ السُّطُورِ يَعْتَقِدُ مِثْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ، فَنَسْأَلُ اللهَ - تَعَالَى - أَنْ يُحَقِّقَ لَنَا ثَانِيَةً مَضْمُونَ قَوْلِهِ: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا لِنَمْتَثِلَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا مِنْ حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ - كَمَا يَأْتِي فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ - فَلَا نَلْجَأُ إِلَى تَأْوِيلِ الْأَمَانِ بِمِثْلِ مَا أَوَّلَهُ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَمْنُ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ رَدَّ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ هَدْمٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ هُنَاكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، الَّذِينَ أَقَامُوا الدِّينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَمَرَ اللهُ - تَعَالَى -، وَمَا دُخُولُ الْبَيْتِ إِلَّا بَعْضُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ، إِذَا أَخْلَصَ صَاحِبُهُ فِيهِ. أَقُولُ: وَلَا تَنْسَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِثْلَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [٦: ٨٢] وَمَا رَوَوْهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ لَا يُنَافِي الْمُتَبَادِرَ الْمُخْتَارَ.
وَمَا أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ كَمَا قِيلَ.
أَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا فَهُوَ بَيَانُ آيَةٍ ثَالِثَةٍ مِنْ آيَاتِ هَذَا الْبَيْتِ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْفَرْضِيَّةِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ مَزَايَاهُ وَدَلَائِلِ كَوْنِهِ أَوَّلَ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلْمُعْتَرِضِينَ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى اسْتِقْبَالِهِ
فِي الصَّلَاةِ، فَهُوَ يُفِيدُ بِمُقْتَضَى السِّيَاقِ مَعْنًى خَبَرِيًّا وَبِمُقْتَضَى الصِّيغَةِ مَعْنًى إِنْشَائِيًّا وَهُوَ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: هَذِهِ الْجُمْلَةُ - وَإِنْ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ - هِيَ وَارِدَةٌ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ. وَأَيُّ تَعْظِيمٍ أَكْبَرُ مِنِ افْتِرَاضِ حَجِّ النَّاسِ إِلَيْهِ؟ وَمَا زَالُوا يَحُجُّونَهُ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَمْنَعِ الْعَرَبَ عَنْ ذَلِكَ شِرْكُهَا وَإِنَّمَا كَانُوا يَحُجُّونَ عَمَلًا بِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ عَمَلٌ عَامٌّ جَرَوْا عَلَيْهِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذِهِ آيَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى نِسْبَةِ هَذَا الْبَيْتِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَهِيَ أَصَحُّ مِنْ نُقُولِ الْمُؤَرِّخِينَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَبِهَذَا وَبِمَا سَبَقَهُ بَطَلَ اعْتِرَاضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ دُونَهُمْ.
أَمَّا الْحِجُّ فَمَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقَصْدُ - وَهُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ - وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ - وَفَتْحِهَا - وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ وَالْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ أَعْمَالِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي بُعْدِهِمْ عَنِ الْبَيْتِ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَكُلُّ مُكَلَّفٍ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ - وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا - مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا نِحْرِيرًا، وَمَا زَادَ النَّاسَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ إِلَّا بُعْدًا عَنْ حَقِيقَتِهَا الْوَاضِحَةِ مِنَ الْآيَةِ أَتَمَّ الْوُضُوحِ ; إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَشْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَاشْتَرَطُوا فِيهَا أَمْنَ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْأَمْنَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ

آمِنَةً قَطْعًا، وَأَمَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَأْمَنُ فِيهَا وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِالِاشْتِغَالِ بِالسِّيَاسَةِ.
وَكَيْفَ وَقَدْ أُلْقِيَ بَعْضُ عُلَمَائِهَا فِي ظُلْمَةِ السِّجْنِ مُكَبَّلًا بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَلَا ذَنْبَ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ أَلَّفَ كِتَابًا أَيَّدَ فِيهِ التَّوْحِيدَ وَبَيَّنَ فَسَادَ مَا طَرَأَ عَلَى النَّاسِ مِنْ نَزَعَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالتَّوَسُّلِ بِالْأَوْلِيَاءِ؟
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي لَوْ كَانَ مِثْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ الَّذِي كَانَ يُنْكِرُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ حَيًّا، أَكَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ، وَهُوَ الْمَعْدُودُ فِي عَصْرِ الْعِلْمِ مِنْ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ؟ وَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِي الْأَرْوَاحِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا الْيَوْمَ مِنْ مَادِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، دَعِ الْفِرَقَ الَّتِي وُسِمَتْ بِالِابْتِدَاعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ السُّنَّةِ يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ فِي بَعْضِ الْآرَاءِ أَيَّامَ كَانَ قُرْبُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ كَبُعْدِهِمْ عَنْهُ الْيَوْمَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا إِنَّهُ بَيَانٌ لِمَوْقِعِ الْإِيجَابِ وَمَحَلِّهِ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ مُوَجَّهَةٌ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَالِاسْتِطَاعَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ وَوَعِيدٌ عَلَى جُحُودِهِ، وَبَيَانٌ لِتَنْزِيهِ اللهِ - تَعَالَى - بِإِزَالَةِ مَا عَسَاهُ يَسْبِقُ إِلَى أَوْهَامِ الضُّعَفَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ نِسْبَةِ الْبَيْتِ إِلَى اللهِ، وَالْعِلْمِ بِفَرْضِهِ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَحُجُّوهُ مِنْ كَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ. فَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ: جُحُودُ كَوْنِ هَذَا الْبَيْتِ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ لِلْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لِمَا فَرَضَ اللهُ مِنْ حَجِّهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ لَا مُتَمِّمَ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَبَعْضُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا وَإِنْ دَعَّمُوهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ: مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ بِاخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ. وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ إِلَّا مَا قِيلَ فِي رِوَايَةٍ مَوْقُوفَةٍ، بَلْ عَدَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَأَمْثَلُ طُرُقِهِ الْمَرْفُوعَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ - بِلَفْظِ: مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ
نَصْرَانِيًّا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَالَ فِي كِتَابِهِ:

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا الْآيَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ. وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرَّاوِي لَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَجْهُولٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَعَدُّدَ طُرُقِ الْحَدِيثِ تَرْتَقِي بِهِ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ كَمَا يَقُولُونَ فِي مِثْلِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْعَقِيلِيِّ والدَّارَقُطْنِيِّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ ; إِذْ لَا نَدَّعِي أَنَّ هُنَا شَيْئًا صَحِيحًا، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَثَرُ عُمَرَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ قَالَ: " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ " وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ، وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي. وَالِاحْتِيَاطُ أَلَّا يُؤَخِّرَ الْمُسْتَطِيعُ الْحَجَّ بِغَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ لِئَلَّا يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ.
أَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَزَايَا وَآيَاتٍ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ. فَالْمَزَايَا كَوْنُهُ أَوَّلَ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَكَوْنُهُ مُبَارَكًا، وَكَوْنُهُ هُدًى لِلْعَالَمِينَ. وَالْآيَاتُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنُ دَاخِلِهِ، وَالْحَجُّ إِلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَيَذْكُرُ لَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا خَصَائِصَ وَمَزَايَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ " مِنْهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ " وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ الْآيَاتُ وَإِنَّ قَوْلَهُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ. قَالَ الرَّازِيُّ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَقَرُّهُ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اخْتَارَهُ وَعَبَدَ اللهَ فِيهِ. اهـ. وَلَعَلَّ الدَّافِعَ لَهُمْ إِلَى هَذَا فَهْمُهُمْ أَنَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ تَفْسِيرٌ لِلْآيَاتِ وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَا بَعْدَهُ تَابِعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مُحَاوَلَةُ الْآخَرِينَ أَنْ يَجْعَلُوا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِمَنْزِلَةِ عِدَّةِ آيَاتٍ. قَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ اشْتَمَلَ عَلَى الْآيَاتِ ; لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ، وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرَةِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ ; لِأَنَّهُ لَانَ مِنَ الصَّخْرَةِ مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ، وَإِبْقَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - آيَةٌ خَاصَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَحِفْظُهُ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ أُلُوفَ السِّنِينَ آيَةٌ. فَثَبَتَ أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. اهـ.
أَقُولُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [٢: ١٢٥] أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ مَقَامَهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْقِفِهِ حَيْثُ ذَلِكَ الْأَثَرِ لِلْقَدَمَيْنِ وَإِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ. وَالْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَثَرِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْأَثَرُ نَفْسُهُ فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَدَمَيْ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي لَامِيَّتِهِ:
وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ | عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ |