
قال ع «١» : ولم يختلفُ فيما علمتُ أنَّ سبَبَ تحريمِ يَعْقُوبَ ما حرَّمه على نَفْسِهِ هو بمَرَضٍ أصابه، فَجَعَلَ تحريمَ ذلِكَ شُكْراً للَّه، إنْ شُفِيَ، وقيل: هو وَجَعُ عِرْقِ النّسا، وفي حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ عِصَابَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ، قَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، مَا الَّذِي حَرَّمَ إسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أُنْشِدُكُمْ بِاللَّه! هَلْ تَعْلَمُونَ أنَّ يَعْقُوبَ مَرِضَ مَرَضاً شَدِيداً، فَطَالَ سَقَمُهُ مِنْهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْراً، إنْ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ سَقَمِهِ، لَيُحْرِّمَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ إلَيْهِ لُحُومَ الإبِلِ، وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إلَيْهِ أَلْبَانَهَا؟ قَالُوا:
اللَّهُمَّ، نَعَمْ» «٢».
قال ع «٣» : وظاهرُ الأحاديثِ والتفاسيرِ في هذا الأمْرِ أنَّ يعقوبَ- عليه السلام- حَرَّم لُحوم الإبلِ وألْبَانَهَا، وهو يحبُّها تقرُّباً بذلك إذْ ترك الترفُّه والتنعُّم من القُرَبِ، وهذا هو الزهْدُ في الدُّنْيا، وإليه نَحَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ (رضي اللَّه عنه) بقوله: «إيَّاكُمْ وهذه المَجَازِرَ فإنَّ لها ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الخَمْرِ» ومِنْ ذلك قولُ أبِي حَازِمٍ الزاهِدِ، وقدْ مَرَّ بسُوقِ الفَاكِهَةِ، / فرأى مَحَاسِنَهَا، فقَالَ: مَوْعِدُكَ الجَنَّةُ، إنْ شاء الله.
وقوله عز وجلّ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ... الآية: قال الزَّجَّاج «٤» : وفي هذا تعجيز لهم، وإقامة للحجة عليهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
وقوله سبحانه: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
، أي: مِنْ بعد ما تبيَّن له الحَقُّ، وقيامُ الحُجَّة، فهو الظَّالِمُ.
وقوله: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ، أي: الأمر كما وصَفَ سبحانه، لا كما تَكْذُبونَ، فإن كنتم تَعْتزونَ إلى إبراهيم، فاتبعوا ملَّته على ما ذكر الله.
(٢) رواه الطبري (٧٤٠٢) عن ابن عباس، وزاد السيوطي في «الدر» (٢/ ٩٢) فعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وأخرجه الطبري (٧٤٠٠) عن الضحّاك.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٧٣).
(٤) ينظر: «معاني القرآن» (١/ ٤٤٤).

وقوله سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...... الآية: لا مِرْيَة أنَّ إبراهيم- عليه السلام- وضع بيْتَ مكة، وإنما الخلافُ، هَلْ هو وضع بَدْأَةً أوْ وُضِعَ تجديداً؟ وقال الفَخْر «١» : يحتمل أولاً في الوضْعِ والبناءِ، ويحتملُ أنْ يريد أولاً في كونه مباركاً، وهذا تحصيلُ المفسِّرين في الآية. اهـ.
قال ابن العربيِّ في «أحكامِهِ» «٢» وكونُ البَيْتِ الحَرَامِ مُبَارَكاً، قيل: بركَتُهُ ثوابُ الأعمال هناك، وقيل: ثوابُ قاصِدِيهِ، وقيل: أمْنُ الوَحْش فيه، وقيل: عُزُوفُ النفْسِ عن الدنيا عِنْدَ رؤيته، قال ابنُ العربيِّ «٣» : والصحيحُ عِنْدَي أنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كلِّ وجْهٍ مِنْ وجوه الدنْيَا والآخرة وذلك بجميعه موجودٌ فيه. اهـ.
قال مالكٌ في سماعِ ابن القاسِمِ من «العتبية» : بَكَّة موضعُ البَيْت، ومَكَّة غيره مِنَ المواضعِ، قال ابن القاسِمِ: يريد القَرْيَةَ «٤»، قلتُ: قال ابنُ رُشْدٍ في «البيان» «٥» : أرى مالكاً أخَذَ ذلك مِنْ قول اللَّه عزَّ وَجَلَّ لأنه قال تعالى في بَكَّة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً، وهو إنما وضع بموضعه الَّذي وُضِعَ فيه لا فيما سواه من القرية، وقال في «مَكَّة» وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الفتح: ٢٤] وذلك إنما كان في القرية، لا في موضع البَيْتَ. اهـ.
وقوله سبحانه: فِيهِ، أي: في البيت آياتٌ بَيِّناتٌ، قال ع «٦» : والمترجِّح عندي أنَّ المَقَامَ وأَمْنَ الدَّاخِلِ جُعِلاَ مثالاً ممَّا في حَرَمِ الله من الآيات وخصّا بالذكر لعظمهما، ومَقامُ إِبْراهِيمَ: هو الحَجَرُ المعروفُ قاله الجمهور، وقال قوم: البيتُ كلُّه مقامُ إبراهيم، وقال قومٌ: الحَرَمُ كلُّه مقامُ إبراهيم، والضميرُ في قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ عائدٌ على البَيْت في قول الجمهور، وعائد على الحرم
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ٢٨٣٠).
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ٢٨٣- ٢٨٤).
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٧٤).
(٥) صاحب «البيان» هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي. وكتاب «البيان» هو كتاب «البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل»، وهي مستخرجة العتبي المسماة «العتبية»، وهو كتاب عظيم نيف على عشرين مجلدا.
ينظر: «شجرة النور» (١/ ١٢٩)، و «هدية العارفين» (٢/ ٨٥)، و «الديباج المذهب» (٢/ ٢٤٨).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٧٥).

في قول مَنْ قَالَ: مقامُ إبراهيم هو الحرم.
وقوله: كانَ آمِناً قال الحَسَنُ وغيره: هذه وصْفُ حالٍ كانَتْ في الجاهلية، إذا دخَلَ أحدٌ الحَرَمَ، أَمِنَ، فلا يُعْرَضُ له، فأما في الإسلام، فإن الحرم لا يَمْنَعُ مِنْ حَدٍّ مِنْ حدودِ اللَّه، وقال يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ: معنى الآية: ومَنْ دخل البيتَ، كان آمناً من النَّار، وحكى النقَّاش عن بَعْض العُبَّاد، قال: كُنْتُ أطوفُ حوْلَ الكعبةِ لَيْلاً، فقلْتُ: يا رَبِّ، إنّك قلت: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، فمماذا هو آمنٌ؟ فسمعتُ مكلِّماً يكلِّمني، وهو يقولُ: مِنَ النَّارِ، فنظَرْتُ، وتأمَّلت، فما كان في المكان أحد، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «١» : وقول بعضهم: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمناً من النار- لا يصحُّ حمله على عمومه، ولكنه ثَبَتَ أنَّ مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ «٢»، والحَجُّ المَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجنّة «٣». قال ذلك كلّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اهـ.
(٢) أخرجه البخاري (٣/ ٣٨٢)، كتاب «الحج»، باب فضل الحج المبرور، حديث (١٥٢١)، (٤/ ٢٥)، كتاب «المحصر»، باب قوله الله تعالى: فَلا رَفَثَ، حديث (١٨١٩)، وباب قول الله (عز وجل) :
وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ، حديث (١٨٢٠). ومسلم (٢/ ٩٨٣)، كتاب «الحج»، باب في فضل الحج والعمرة، حديث (٤٣٨/ ١٣٥٠). والنسائي (٥/ ١٤)، كتاب «الحج»، باب فضل الحج.
والترمذي (٣/ ١٧٦)، كتاب «الحج»، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة، حديث (٨١). وابن ماجة (٢/ ٩٦٤- ٩٦٥)، كتاب «المناسك»، باب فضل الحج والعمرة، حديث (٢٨٨٩). وأحمد (٢/ ٢٤٨، ٤١٠، ٤٨٤)، والطيالسي (١/ ٢٠٢- منحة) رقم (٩٧٥). والدارمي (٢/ ٣١)، كتاب «المناسك»، باب في فضل الحج والعمرة، وأبو يعلى (١١/ ٦١) رقم (٦١٩٨). وأبو نعيم في «الحلية» (٨/ ٣١٦). وابن خزيمة (٤/ ١٣١) رقم (٢٥١٤)، وابن حبان رقم (٣٧٠٢- الإحسان). والبيهقي (٥/ ٦٧)، كتاب «الحج»، باب لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، والخطيب في «تاريخ بغداد» (١١/ ٢٢٢)، والحميدي (٢/ ٤٤٠) رقم (١٠٠٤)، والبغوي في «شرح السنة» (٤/ ٤- بتحقيقنا). كلهم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
(٣) أخرجه البخاري (٣/ ٦٩٨) في العمرة: باب العمرة، وجوب العمرة وفضلها (١٧٧٣)، ومسلم (٢/ ٩٨٣) في الحج: باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (٤٣٧- ١٣٤٩)، والنسائي (٥/ ١١٥) في الحج: باب فضل العمرة. والترمذي (٣/ ٢٧٢) في الحج، باب ما ذكر في فضل العمرة (٩٣٣). وابن ماجة (١/ ٩٦٤) في المناسك: باب فضل الحج والعمرة (٢٨٨٨). وأحمد (٢/ ٢٤٦، ٢٦١، ٢٦٢)، والدارمي (٢/ ٣١) في المناسك: باب في فضل الحج والعمرة، من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرّحمن، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة مرفوعا: «العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ... الآية: هو فرضُ الحجِّ في كتابِ اللَّه بإجماع، وقرأ حمزةُ، والكِسَائيُّ، وحَفْص عن عاصِمٍ: «حَجُّ الَبْيتِ» بكَسْر الحاء، وقرأ الباقُونَ بفتحها «١»، / فَبِكَسْر الحاء: يريدُون عَمَلَ سَنَةٍ واحدةٍ، وقال الطبريُّ «٢» : هما لُغَتَانِ الكَسْر: لُغَةُ نَجْدٍ، والفتْحُ لغة أهل العَالِيَةِ.
وقوله سبحانه: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «مَنْ» : في موضعِ خَفْضٍ بدلٍ من «النَّاس»، وهو بدلُ البَعْض من الكلِّ، وقال الكسائيُّ وغيره: هي شَرْطٌ في موضع رفعٍ بالابتداء، والجوابُ محذوفٌ، تقديره: فَعَلَيْهِ الحِجُّ ويدلُّ عليه عطْفُ الشرطِ الآخَرِ بعده في قوله:
وَمَنْ كَفَرَ، وأسند الطبريُّ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً، فَلَمْ يَحُجَّ، فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا «٣»، وذهب جماعةٌ من العلماءِ إلى أنَّ قوله سبحانه:
مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا كلامٌ عامٌّ لا يتفسَّر بزادٍ ولا راحلةٍ، ولا غَيْرِ ذلك، بل إذا كان مستطيعاً غَيْرَ شاقٍّ على نفسه، فقد وجَبَ علَيْه الحَجُّ، وإليه نحا مَالِكٌ في سماع أَشْهَبَ، وقال: لا صِفَةَ في هذا أبْيَنُ ممَّا قال الله تعالى. هذا أنْبَلُ الأقوال، وهذه مِنَ الأمور التي يتصرَّف فيها فِقْهُ الحال، والضميرُ في «إِلَيْهِ» عائدٌ على البيت، ويحتملُ عَلَى الحِجِّ.
وقوله سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ، قال ابن عبَّاس وغيره:
المعنى: مَنْ زعم أنَّ الحَجَّ ليس بفَرْضٍ عليه «٤»، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأَ هذه الآيةَ، فقَالَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ تَرَكَهُ، كَفَرَ، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من تركه، لا
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٣٦٦).
(٣) أخرجه الدارمي (٢/ ٢٩)، كتاب «الحج»، باب من مات ولم يحج. وأبو نعيم في «الحلية» (٩/ ٢٥١)، من طريق شريك، عن ليث، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة مرفوعا.
ومن هذا الوجه أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢/ ٢١٠- بتحقيقنا)، وقال: لا يصح. وأعله بالمغيرة بن عبد الرّحمن، قال يحيى: ليس بشيء. وفيه ليث، وقد ضعفه ابن عيينة، وتركه يحيى القطان، ويحيى بن معين، وابن مهدي، وأحمد.
قلت: ولا وجه لإعلاله بالمغيرة لأنه توبع على هذا الحديث، تابعه الدارمي، ومحمد بن أسلم، عن أبي نعيم في «الحلية».
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٦٧)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤١١)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣٣٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٠١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.