
القول في تأويل قوله: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا﴾
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل: أنّ من أهل الكتاب - وهم اليهود من بني إسرائيل - أهلَ أمانة يؤدُّونها ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجرُ في يمينه المستحِلُّ. (١)
* * *
فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها؟
قيل: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم، (٢) وتخويفهم الاغترارَ بهم، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين.
* * *
فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه، يا محمد، على عظيم من المال كثير، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.
* * *
(٢) في المخطوطة: "أن نهوهم على أموالهم" غير منقوطة، والذي قرأه الناشر الأول جيد وهو الصواب.

و"الباء" في قوله:"بدينار" و"على" يتعاقبان في هذا الموضع، كما يقال:"مررت به، ومررت عليه". (١)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا".
فقال بعضهم:"إلا ما دمت له متقاضيًا".
ذكر من قال ذلك:
٧٢٦١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، إلا ما طلبته واتبعته.
٧٢٦٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، قال: تقتضيه إياه.
٧٢٦٣ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، قال: مواظبًا.
٧٢٦٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه". (٢)
ذكر من قال ذلك:
٧٢٦٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، يقول: يعترف
(٢) في المطبوعة: "إلا ما دمت عليه قائمًا" بزيادة"عليه"، وهي فساد، والصواب من المخطوطة.

بأمانته ما دمت قائمًا على رأسه، فإذا قمتَ ثم جئت تطلبهُ كافرك = (١) الذي يؤدِّي، والذي يجحد. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال:"معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء". من قولهم:"قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي"، أي عمل في تخليصه، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين، وأنّ منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس الذي عليه الدين، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهابَ بما عليه لربّ الحقّ - إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة. (٣) فذلك الاقتضاء، هو قيام ربِّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ من استحلّ الخيانةَ من اليهود، وجحودَ حقوق العربيّ التي هي له عليه، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربيُّ عليه إلا ما دامَ له متقاضيًا مطالبًا = من أجل أنه يقول: لا حرَج علينا فيما أصبنا من أموال العرب
(٢) قوله: "الذي يؤدي، والذي يجحد" بيان عن ذكر الفريقين اللذين ذكرا في الآية، أي: هذا الذي يؤدي، وهذا الذي يجحد.
(٣) سياق العبارة: "قد يكون... إلى استخراجه السبيل بالاقتضاء... "، وما بينهما فصل.

ولا إثم، لأنهم على غير الحق، وأنهم مشركون. (١)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو قولنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
٧٢٦٦ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" الآية، قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيلٌ.
٧٢٦٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: ليس علينا في المشركين سبيل = يعنون من ليس من أهل الكتاب.
٧٢٦٨ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: يقال له: ما بالك لا تؤدِّي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلَّها الله لنا! !
٧٢٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: لما نزلت"ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبَ أعداءُ الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ إلى البر والفاجر. (٢)
(٢) الأثر: ٧٢٦٩-"يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي"، و"جعفر" هو: "جعفر ابن أبي المغيرة الخزاعي القمي"، مضيا في رقم: ٦١٧. قال أخي السيد أحمد في مثل هذا الإسناد سالفًا: "هو حديث مرفوع، ولكنه مرسل، لأن سعيد بن جبير تابعي، وإسناده إليه إسناد جيد". وخرجه ابن كثير في تفسيره ٢: ١٦٩، ١٧٠ من تفسير ابن أبي حاتم، وخرجه في الدر المنثور ٢: ٤٤، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد، وابن المنذر.

٧٢٧٠- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عبيد الله، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما قالت اليهود:"ليس علينا في الأميين سبيل"، يعنون أخذَ أموالهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه = إلا أنه قال: إلا وهو تحت قدميّ هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ = ولم يزد على ذلك.
٧٢٧١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أمِّيُّون. فذلك قوله: (ليس علينا في الأميين سبيل)، إلى آخر الآية.
* * *
وقال آخرون في ذلك، ما:-
٧٢٧٢ - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: بايع اليهودَ رجالٌ من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم ثمنَ بُيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانةٌ، ولا قضاءَ لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! قال: وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، (١) فقال الله عز وجل:"ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون".
٧٢٧٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو أهلَ الكتاب فنصيبُ من ثمارهم؟ قال: وتقولون كما قال أهلُ الكتاب:"ليس علينا في الأميين سبيل!! (٢)
(٢) الأثر: ٧٢٧٣-"أبو إسحاق الهمداني" كما بين في الأثر التالي. و"صعصعة بن يزيد"، ويقال"صعصعة بن زيد"، وذكر البخاري الاختلاف في اسمه، وأشار إلى رواية هذا الخبر. في الكبير ٢ / ٢ / ٣٢١، ٣٢٢، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٤٤٦. وانظر التعليق على الأثر التالي.

٧٢٧٤ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة: أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزْو = أو: [العذق]، الشك من الحسن = من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس! قال: هذا كما قال أهل الكتاب:"ليس علينا في الأميين سبيل"! إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيِب أنفسهم. (١)
* * *
وكان في أصل المخطوطة والمطبوعة من الطبري: "إنا نصيب في العرف، أو العذق، الشك من الحسن"، ولم أجد ذلك في مكان، وهو لا معنى له أيضًا. وقد أطبق كل من ذكرنا ممن نقل من تفسير عبد الرزاق بهذا الإسناد نفسه، على عبارة واحدة هي"إنا نصيب في الغزو"، فأثبتها كذلك، أما ما شك فيه الحسن بن يحيى فقد وضعته بين قوسين، وهو لا معنى له. وأرجح الظن عندي أنها"أو: الغزوة -الشك من الحسن"، أو تكون: "أو: القرية- الشك من الحسن".

القول في تأويل قوله: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) ﴾
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن القائلين منهم:"ليس علينا في أموال الأميين من العرب حَرَجٌ أن نختانهم إياه"، يقولون = بقيلهم إنّ الله أحل لنا ذلك، فلا حرجَ علينا في خيانتهم إياه، وترك قضائهم = (١) الكذبَ على الله عامدين الإثمَ بقيل الكذب على الله، إنه أحلّ ذلك لهم. وذلك قوله عز وجل:"وهم يعلمون"، كما:-
٧٢٧٥ - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فيقول على الله الكذب وهو يعلم = يعني الذي يقول منهم - إذا قيل له: ما لك لا تؤدي أمانتك؟ -: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا!
٧٢٧٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني: ادّعاءهم أنهم وجدُوا في كتابهم قولهم:"ليس علينا في الأميين سبيل".
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله عز وجل عمَّا لمنْ أدَّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبتَه، عنده. (٢) فقال جل ثناؤه: ليس الأمر كما يقول
(٢) في المطبوعة: "هذا إخبار من الله عز وجل عمن أدى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاء الله ومراقبته وعيده"، والذي أثبت هو نص المخطوطة، وهو الصواب المحض. والسياق: "وهذا إخبار من الله... عما لمن أدى أمانته... عنده". وقوله: "واتقاء الله ومراقبته" على النصب فيهما، مفعول لأجله.

هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود، من أنه ليس عليهم في أموَال الأميين حرج ولا إثم، ثمّ قال: بلى، ولكن من أوفى بعهده واتقى - يعني: ولكن الذي أوفى بعهده، وذلك وصيته إياهم التي أوصاهم بها في التوراة، من الإيمان بمحمد ﷺ وما جاءهم به. (١)
* * *
و"الهاء" في قوله:"من أوفى بعهده"، عائدة على اسم"الله" في قوله:"ويقولون على الله الكذب".
* * *
يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه، فآمن بمحمد ﷺ وصَدّق به وبما جاء به من الله، من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وغير ذلك من أمر الله ونهيه ="واتقى"، يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به، وسائر معاصيه التي حرّمها عليه، فاجتنبَ ذلك مراقبةَ وعيد الله وخوفَ عقابه ="فإنّ الله يحبّ المتقين"، يعني: فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرّمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به.
* * *
وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك.
٧٢٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"بلى من أوفى بعهده واتقى" يقول: اتقى الشرك ="فإنّ الله يحب المتقين"، يقول: الذين يتقون الشرك.
* * *