
عَلِيمٌ
مُؤَكِّدٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ كَوْنَهُ وَاسِعًا، يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنَهُ عَلِيمًا عَلَى كَمَالِ الْعِلْمِ، فَيَصِحُّ مِنْهُ لِمَكَانِ الْقُدْرَةِ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى أَيِّ عَبْدٍ شَاءَ بِأَيِّ تَفَضُّلٍ شَاءَ، وَيَصِحُّ مِنْهُ لِمَكَانِ كَمَالِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ وَالصَّوَابِ.
ثُمَّ قَالَ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَهَذَا كَالتَّأْكِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا أَنَّ الْفَضْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، ثُمَّ إِنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، فَبَيَّنَ بِقَوْلِهِ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُؤْتِيَ بَعْضَ عِبَادِهِ مِثْلَ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْمَنَاصِبِ الْعَالِيَةِ وَيَزِيدَ عَلَيْهَا مِنْ جِنْسِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَالرَّحْمَةُ الْمُضَافَةُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَمْرٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ، فَإِنَّ هَذِهِ الرَّحْمَةَ رُبَّمَا بَلَغَتْ فِي الشَّرَفِ وَعُلُوِّ الرُّتْبَةِ إِلَى أَنْ لَا تَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا آتَاهُمْ، بَلْ تَكُونُ أَعْلَى وَأَجَلَّ مِنْ أَنْ تُقَاسَ إِلَى مَا آتَاهُمْ، وَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ أَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِمَرَاتِبِ إِعْزَازِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ لِعِبَادِهِ، وَأَنَّ قَصْرَ إِنْعَامِهِ وَإِكْرَامِهِ عَلَى مَرَاتِبَ مُعَيَّنَةٍ، وَعَلَى أَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ جَهْلٌ بِكَمَالِ الله في القدرة والحكمة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٦]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ] اعْلَمْ أَنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ أُوتُوا مِنَ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ مِثْلَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْخِيَانَةَ مُسْتَقْبَحَةٌ عِنْدَ جَمِيعِ أَرْبَابِ الْأَدْيَانِ، وَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَيْهَا، فَدَلَّ هَذَا عَلَى كَذِبِهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَبَائِحَ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَدْيَانِ وَهُوَ أنهم قالوا لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ٧٣] حَكَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضَ قَبَائِحِ أَحْوَالِهِمْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَامَلَةِ النَّاسِ، وَهُوَ إِصْرَارُهُمْ عَلَى الْخِيَانَةِ وَالظُّلْمِ وَأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الْقَلِيلِ.
وَالْكَثِيرِ وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى انْقِسَامِهِمْ إِلَى قِسْمَيْنِ: بَعْضُهُمْ أَهْلُ الْأَمَانَةِ، وَبَعْضُهُمْ أَهْلُ الْخِيَانَةِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ الْأَمَانَةِ مِنْهُمْ هُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا، أَمَّا الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ فَهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الخيانة لأن مذهبهم أنه يَحِلَّ لَهُمْ قَتْلُ كُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْذُ أَمْوَالِهِمْ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٣] مَعَ قَوْلِهِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْأَمَانَةِ هُمُ النَّصَارَى، وَأَهْلَ الْخِيَانَةِ هُمُ الْيَهُودُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّ مَذْهَبَ الْيَهُودِ أَنَّهُ يُحِلُّ قَتْلَ الْمُخَالِفِ وَيُحِلُّ أَخْذَ مَالِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْدَعَ رَجُلٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَأَدَّى إِلَيْهِ، وَأَوْدَعَ آخَرُ فِنْحَاصَ بْنَ عَازُورَاءَ دِينَارًا فَخَانَهُ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَالُ أَمِنْتُهُ بِكَذَا وَعَلَى كَذَا، كَمَا يُقَالُ مَرَرْتُ بِهِ وَعَلَيْهِ، فَمَعْنَى الْبَاءِ إِلْصَاقُ الْأَمَانَةِ، وَمَعْنَى:
عَلَى اسْتِعْلَاءُ الْأَمَانَةِ، فَمَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي مَعْنَى الْمُلْتَصِقِ بِهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَاتِّصَالِهِ بِحِفْظِهِ وَحِيَاطَتِهِ، وَأَيْضًا صَارَ الْمُودَعُ كَالْمُسْتَعْلِي عَلَى تِلْكَ الْأَمَانَةِ وَالْمُسْتَوْلِي عَلَيْهَا، فَلِهَذَا حَسُنَ التَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى

بِكِلْتَا الْعِبَارَتَيْنِ، وَقِيلَ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِكَ أَمِنْتُكَ بِدِينَارٍ أَيْ وَثِقْتُ بِكَ فِيهِ، وَقَوْلُكَ أَمِنْتُكَ عَلَيْهِ، أَيْ جَعَلْتُكَ أَمِينًا عَلَيْهِ وَحَافِظًا لَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ ذِكْرِ الْقِنْطَارِ وَالدِّينَارِ هَاهُنَا الْعَدَدُ الْكَثِيرُ وَالْعَدَدُ الْقَلِيلُ، يَعْنِي أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْأَمَانَةِ حَتَّى لَوِ اؤْتُمِنَ عَلَى الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ أَدَّى الْأَمَانَةَ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الْخِيَانَةِ حَتَّى لَوِ اؤْتُمِنَ عَلَى الشَّيْءِ الْقَلِيلِ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ فِيهِ الْخِيَانَةَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النِّسَاءِ: ٢٠] وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ، / فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى ذِكْرِ مِقْدَارِ الْقِنْطَارِ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِنْطَارَ أَلْفٌ وَمِائَتَا أُوقِيَّةٍ قَالُوا: لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ حِينَ اسْتَوْدَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَلْفًا وَمِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ مِنَ الذَّهَبِ فَرَدَّهُ وَلَمْ يَخُنْ فِيهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقِنْطَارِ هُوَ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مِلْءُ جِلْدِ ثَوْرٍ مِنَ الْمَالِ الثَّالِثُ: قِيلَ الْقِنْطَارُ هُوَ أَلْفُ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَلْفُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْقِنْطَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ يُؤَدِّهْ بِسُكُونِ الْهَاءِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا غَلَطٌ مِنَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي عَمْرٍو كَمَا غَلِطَ فِي بارِئِكُمْ بِإِسْكَانِ الْهَمْزَةِ وَإِنَّمَا كَانَ أَبُو عَمْرٍو يَخْتَلِسُ الْحَرَكَةَ، وَاحْتَجَّ الزَّجَّاجُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِأَنْ قَالَ: الْجَزَاءُ لَيْسَ فِي الْهَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا قَبْلَ الْهَاءِ وَالْهَاءُ اسْمُ الْمُكَنَّى وَالْأَسْمَاءُ لَا تُجْزَمُ فِي الْوَصْلِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْزِمُ الْهَاءَ إِذَا تَحَرَّكَ مَا قَبْلَهَا.
فَيَقُولُ: ضَرَبْتُهْ ضَرْبًا شَدِيدًا كَمَا يُسَكِّنُونَ (مِيمَ) أَنْتُمْ وَقُمْتُمْ وَأَصْلُهَا الرَّفْعُ، وَأَنْشَدَ:
لَمَّا رَأَى أَنْ لَا دَعَهْ وَلَا شِبَعُ
وَقُرِئَ أَيْضًا بِاخْتِلَاسِ حَرَكَةِ الْهَاءِ اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ مِنَ الْيَاءِ، وَقُرِئَ بِإِشْبَاعِ الْكَسْرَةِ فِي الْهَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي لَفْظِ (الْقَائِمِ) وَجْهَانِ: مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي إِلَّا مَا دُمْتَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ بِالِاجْتِمَاعِ مَعَهُ وَالْمُلَازَمَةِ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ مُعْتَرِفًا بِمَا دَفَعْتَ إِلَيْهِ مَا دُمْتَ قَائِمًا عَلَى رَأْسِهِ، فَإِنْ أَنْظَرْتَ وَأَخَّرْتَ أَنْكَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ لَفْظَ (الْقَائِمِ) عَلَى مَجَازِهِ ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقِيَامِ الْإِلْحَاحُ وَالْخُصُومَةُ وَالتَّقَاضِي وَالْمُطَالَبَةُ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَصْلُهُ أَنَّ الْمُطَالِبَ لِلشَّيْءِ يَقُومُ فِيهِ وَالتَّارِكَ لَهُ يَقْعُدُ عنه، دليل قوله تعالى: أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمران: ١١٣] أَيْ عَامِلَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ غَيْرُ تَارِكَةٍ، ثُمَّ قِيلَ: لِكُلِّ مَنْ وَاظَبَ عَلَى مُطَالَبَةِ أَمْرٍ أَنَّهُ قَامَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ قِيَامٌ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْقِيَامُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ، وَذَكَرْنَا ذَلِكَ في قوله تعالى: يُقِيمُونَ الصَّلاةَ [البقرة: ٣] ومنه قوله دِيناً قِيَماً [الأنعام: ١٦١] أَيْ دَائِمًا ثَابِتًا لَا يُنْسَخُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً أَيْ دَائِمًا ثَابِتًا فِي مُطَالَبَتِكَ إِيَّاهُ بِذَلِكَ الْمَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ وبِدِينارٍ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْتَمِنُ غَيْرَهُ عَلَى الْوَدِيعَةِ وَعَلَى الْمُبَايَعَةِ وَعَلَى الْمُقَارَضَةِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْيِينِ وَالْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى الْمُبَايَعَةِ، فَقَالَ مِنْهُمْ مَنْ تُبَايِعُهُ بِثَمَنِ الْقِنْطَارِ فَيُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ تُبَايِعُهُ بِثَمَنِ الدِّينَارِ فَلَا

يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَنَقَلْنَا أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَنَّ رَجُلًا أَوْدَعَ مَالًا كَثِيرًا/ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَمَالًا قَلِيلًا عِنْدَ فِنْحَاصِ بْنِ عَازُورَاءَ، فَخَانَ هَذَا الْيَهُودِيُّ فِي الْقَلِيلِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَدَّى الْأَمَانَةَ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ الْأَقْسَامِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ الِاسْتِحْلَالَ وَالْخِيَانَةَ هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا أَصَبْنَا مِنْ أَمْوَالِ الْعَرَبِ سَبِيلٌ. وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ اعْتَقَدَ الْيَهُودُ هَذَا الِاسْتِحْلَالَ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ مُبَالِغُونَ فِي التَّعَصُّبِ لِدِينِهِمْ، فَلَا جَرَمَ يَقُولُونَ: يَحِلُّ قَتْلُ الْمُخَالِفِ وَيَحِلُّ أَخْذُ مَالِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ
وَرُوِيَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «كَذَبَ أَعْدَاءُ اللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيَّ، إِلَّا الْأَمَانَةَ فَإِنَّهَا مُؤَدَّاةٌ إِلَى الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ»
الثَّانِي: أن الْيَهُودُ قَالُوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [الْمَائِدَةِ: ١٨] وَالْخَلْقُ لَنَا عَبِيدٌ فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْنَا إِذَا أَكَلْنَا أَمْوَالَ عَبِيدِنَا الثَّالِثُ: أَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا ذَكَرُوا هَذَا الْكَلَامَ لَا مُطْلَقًا لِكُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ، بَلْ لِلْعَرَبِ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
رُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ بَايَعُوا رِجَالًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا أَسْلَمُوا طَالَبُوهُمْ بِالْأَمْوَالِ فَقَالُوا: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيْنَا حَقٌّ لِأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ دِينَكُمْ،
وَأَقُولُ: مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ الْيَهُودِ أَنَّ مَنِ انْتَقَلَ مِنْ دِينٍ بَاطِلٍ إِلَى دِينٍ آخَرَ بَاطِلٍ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّ، فَهُمْ وَإِنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْعَرَبَ كُفَّارٌ إِلَّا أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي الْإِسْلَامِ أَنَّهُ كُفْرٌ حَكَمُوا عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بِالرِّدَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَفْيُ السَّبِيلِ الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُطَالَبَةِ وَالْإِلْزَامِ. قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَةِ: ٩١] وَقَالَ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النِّسَاءِ: ١٤١] وَقَالَ: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ [الشُّورَى: ٤١، ٤٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: (الْأُمِّيُّ) مَنْسُوبٌ إِلَى الْأُمِّ، وَسُمِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا قِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يَكْتُبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّ أَصْلُ الشَّيْءِ فَمَنْ لَا يَكْتُبُ فَقَدْ بَقِيَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنْ لَا يَكْتُبَ، وَقِيلَ: نُسِبَ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ أُمُّ الْقُرَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَفِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ جَوَازَ الْخِيَانَةِ مَعَ الْمُخَالِفِ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ وَكَانُوا كَاذِبِينَ فِي ذَلِكَ وَعَالِمِينَ بِكَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ فِيهِ وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَتْ خِيَانَتُهُ أَعْظَمَ وَجُرْمُهُ أَفْحَشَ الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كَوْنَ الْخِيَانَةِ مُحَرَّمَةً الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَا عَلَى الْخَائِنِ مِنَ الْإِثْمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ.
اعْلَمْ أَنَّ فِي بَلى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِمُجَرَّدِ نَفْيِ مَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ بَلى عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ فِي ذَلِكَ وَهَذَا اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ، قَالَ: وَعِنْدِي وَقْفُ التَّمَامِ عَلَى (بَلَى) وَبَعْدَهُ اسْتِئْنَافٌ وَالثَّانِي: أَنَّ كَلِمَةَ (بَلَى) كَلِمَةٌ تُذْكَرُ ابْتِدَاءً لِكَلَامٍ آخَرَ/ يُذْكَرُ بَعْدَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ:
لَيْسَ عَلَيْنَا فِيمَا نَفْعَلُ جُنَاحٌ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ أَحِبَّاءُ اللَّهِ تَعَالَى، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالتُّقَى هُمُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَا غَيْرَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى (بَلَى) وَقَوْلُهُ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالضَّمِيرُ فِي بِعَهْدِهِ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى اسْمِ اللَّهَ فِي قَوْلِهِ