آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ

قصة يحيى عليه السلام:
ذكر يحيى في مواضع أربعة من القرآن الكريم: في آل عمران، وفي الأنعام، وفي مريم، وفي الأنبياء.
وحملت زوجة زكريا، واسمها «اليصابات» في الزمن الذي حملت فيه مريم بعيسى، وولد يحيى ثم شب ونشأ بارعا في الشريعة الموسوية ومرجعا مهما لكل من يستفتي في أحكامها.
وكان «هيرودس» أحد حكام فلسطين، وله بنت أخ تسمى «هيروديا» بارعة الجمال، أراد أن يتزوج منها، وأرادت البنت وأمها ذلك، فلم يرض يحيى عن هذا الزواج لأنه حرام. فانتهزت الأم ليلة الزفاف بين العم وابنة أخيه، فرقصت العروس في زينتها أمامه، فسر منها، وطلب منها أن تقول ما تتمناه، ليعمله لها، فطلبت منه- عملا بمشورة أمها- رأس يحيى بن زكريا في هذا الطبق، فوفى لها عمها الحاكم بذلك وقتل يحيى.
وامتاز يحيى منذ صباه بأكمل أوصاف الصلاح والتقوى، وأوتي النبوة وهو صبي قبل بلوغ الثلاثين، كما قال تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم ١٩/ ١٢] وكان يدعو الناس إلى التوبة من الذنوب، وكان يعمّدهم أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا، وقد عمّد المسيح، ويسميه المسيحيون «يوحنا المعمدان».
ولما قتل يحيى، جهر المسيح بدعوته، وبدأ في وعظ الناس.
قصة مريم
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)

صفحة رقم 222

الإعراب:
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ مبتدأ وخبر، والجملة منصوبة بفعل مقدر، تقديره: ينظرون أيهم يكفل مريم.
البلاغة:
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ المراد جبريل، على سبيل المجاز المرسل من إطلاق الكل، وإرادة البعض.
اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ تكرار لفظ اصْطَفاكِ ولفظ مَرْيَمَ من باب الإطناب.
المفردات اللغوية:
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي جبريل يا مَرْيَمُ مريم في لغتهم: العابدة، وسميت بذلك تفاؤلا لها بالخير. اصْطَفاكِ اختارك. وَطَهَّرَكِ من الحيض والنفاس، ومن مسيس الرجال، ومن سفساك الأخلاق. وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ أي أهل زمانك. والاصطفاء الأول: قبولها محررة لخدمة بيت المقدس، وكان ذلك خاصا بالرجال. والاصطفاء الثاني:
الاختصاص بولادة نبي من غير أن يمسها رجل، وذلك بمعنى أنها مهيأة ومعدة له، وفيه شهادة ببراءتها مما قذفها به اليهود.
اقْنُتِي أطيعي، والقنوت: الطاعة مع الخضوع. وَاسْجُدِي تذللي. وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ صلي مع المصلين، والمراد من السجود والركوع لازمه وهو التواضع والخشوع في العبادة.
نُوحِيهِ الوحي: تعريف الموحى إليه بأمر خفي، وقد جاء الوحي في القرآن لمعان:
لكلام جبريل للأنبياء كما هنا، ومثل: نُوحِي إِلَيْهِمْ، وللإلهام مثل: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص ٢٨/ ٧] ولإلقاء المعنى المراد مثل: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة ٩٩/ ٥] وللإشارة مثل: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم ١٩/ ١١].
أَنْباءِ الْغَيْبِ أخبار ما غاب عنك. أَقْلامَهُمْ قداحهم المبرية التي يقترعون بها،

صفحة رقم 223

وتسمى السهام. أما الأزلام: فهي التي يضربون بها القرعة ويقامرون بها.
إِذْ يَخْتَصِمُونَ يتنازعون في كفالتها.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة ولادة يحيى من أب كبير وأم عاقر، وذلك شيء خارق للعادة، أعقبه بذكر قصة ولادة عيسى من غير أب، وهو شيء أغرب من الأول. وغاية القصة: الرد على النصارى الذين ادعوا ألوهية عيسى، فذكر ولادته من مريم ليدل على بشريته.
التفسير والبيان:
أخبرت الملائكة مريم عليها السلام أن الله اختارها لكثرة عبادتها وزهدها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس ومن سفساف الأخلاق وذميم الصفات (وهو التطهير المعنوي) ثم اصطفاها ثانيا بالتطهير الحسي كعدم الحيض والنفاس والولادة من غير جماع، وفضلها على نساء عالمي زمانها، فهي طاهرة من الأدناس والأرجاس من الحيض والنفاس وغيرهما، ومن العيوب والنقائص البشرية الحسية والمعنوية. ومثلها السيدة فاطمة الزهراء التي ما كانت تحيض، ولذلك لقبت بالزهراء.
يا مريم الزمي الطاعة مع الخضوع لله، واسجدي له مع الخشوع، وصلي جماعة مع المصلين، لا وحدك. فالقنوت: الطاعة في خشوع، كما قال تعالى:
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [الروم ٣٠/ ٢٦]. والسجود:
التذلل، والركوع: الانحناء، والمراد: ما يلزمه وهو التواضع والخشوع في العبادة.
تلك القصص التي أخبرناك عنها من أخبار زكريا ويحيى ومريم، هي من أخبار الغيب التي لم تطلع عليها أنت ولا أحد من قومك، وإنما هي بالوحي

صفحة رقم 224

الذي نوحيه إليك على يد جبريل الروح الأمين، لتكون دليلا على صحة نبوتك، وإلزام المعاندين لك. فهذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى، والمعلم به قصتان: قصة مريم، وقصة زكريا.
وما كنت حاضرا معهم حينما جاءت امرأة عمران، وألقت مريم في بيت المقدس، وتنافس الأحبار في رعايتها وخدمتها، فهي بنت سيدهم وكبيرهم، وأخذوا يستهمون (يقترعون) في ذلك، فجاءت القرعة لزكريا، فكان كافلها.
وما كنت شاهدا عليهم إذ يتنازعون ويتخاصمون في كفالتها، ولم يتفقوا عليها إلا بعد القرعة. وإذ لم تعلم بهذه القصة ولا قومك لأنك أمي مثلهم، فلم يبق لك طريق للعلم إلا الوحي من الله تعالى. أما المشاهدة للخصومة فقد نفاها الله تعالى على سبيل التهكم. وهي كما قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود ١١/ ٤٩].
وأما تعليم البشر- كما زعموا- فرده الله تعالى بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل ١٦/ ١٠٣] وهو النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب.
وهذه الآية مثل المذكور عقب قصة نوح عليه السلام: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا [هود ١١/ ٤٩] والمذكور بعد قصة موسى وشعيب: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص ٢٨/ ٤٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى تفضيل السيدة مريم عليها السلام على نساء العالمين أجمع في قول الزجاج وغيره، وعلى عالمي زمانها في قول أكثر المفسرين. وكرر الاصطفاء لأن معنى الأول: الاصطفاء لعبادته، ومعنى الثاني لولادة عيسى.

صفحة رقم 225

روى مسلم والجماعة إلا أبا داود عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
والكمال: هو التناهي والتمام، وكمال كل شيء بحسبه، والكمال المطلق إنما هو لله تعالى خاصة. ولا شك أن أكمل نوع الإنسان: الأنبياء ثم يليهم الأولياء من الصديقين والشهداء والصالحين.
وروي من طرق صحيحة أنه عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة وأنس بن مالك: «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد»
وفي رواية أخرى: «سيدة نساء أهل الجنة بعد مريم: فاطمة وخديجة».
فهذه الأحاديث تدل على فضيلة مريم وأن روح القدس كلمها، وظهر لها، ونفخ في درعها، ودنا منها للنفخة، وصدقت بكلمات ربها، ولذلك سماها الله في تنزيله صدّيقة فقال: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ وقال: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم ٦٦/ ١٢].
ودلت الآية على أن مريم كانت كثيرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل، مما هيأها لمحنة لها ورفعة في الدارين.
ودل قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حيث أخبره الله عن قصة زكريا ومريم، ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر الناس عن ذلك، وصدّقه أهل الكتاب بذلك. والإيحاء هنا: الإرسال إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
واستدل بعض علماء المالكية بهذه الآية وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ...
على إثبات القرعة، وهي في أصل شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي

صفحة رقم 226

سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة ليعدل بينهم، وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظّنّة عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحد منهم على صاحبه إذا كان المقسوم من جنس واحد اتباعا للكتاب والسنة. وردّ العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه، وردوا الأحاديث الواردة فيها، وأنها تشبه الأزلام التي نهى الله عنها.
وأجيبوا بالآثار والسنة، قال أبو عبيد: وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء:
يونس وزكريا ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» «١»
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه.
ودلت الآية أيضا على أن الخالة أحق بالحضانة من سائر القرابات ما عدا الجدّة،
وقد قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم في ابنة حمزة- واسمها أمة الله- لجعفر، وكانت عنده خالتها، وقال فيما رواه الترمذي والشيخان عن البراء: «الخالة بمنزلة الأم»
وكان زكريا قد قال لأحبار بيت المقدس: ادفعوها لي فإن خالتها تحتي، فأبوا واقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكريا، فكفلها.
وكيف تمت القرعة؟ لما نذرت امرأة عمران والدة مريم ما في بطنها لخدمة الهيكل، جاءت بها إلى خدام الهيكل، فكل واحد منهم أراد أن يكفلها وألقوا قرعة على ذلك، فكانت مريم نصيب زكريا، فقام بأمرها كما قال تعالى:
وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا.
قال بعض العلماء: الحكمة في أنّ الله لم يذكر في القرآن امرأة باسمها إلا (مريم) :
هي الإشارة من طرف خفي إلى رد ما قاله النصارى من أنها زوجته، فإن العظيم يأنف من ذكر اسم زوجته بين الناس، ولينسب إليها عيسى باعتبار عدم وجود أب له، ولهذا قال في الآية التالية: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.

(١) حديث صحيح رواه أحمد والشيخان والنسائي.

صفحة رقم 227
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية