آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ

وَقَوْلُهُ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً جَعَلَ اللَّهُ حُبْسَةَ لِسَانِهِ عَنِ الْكَلَامِ آيَةً عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي تَحْمِلُ فِيهِ زَوْجَتُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ صَرَفَ مَا لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ فِي أَعْصَابِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلَةِ بِالدِّمَاغِ إِلَى أَعْصَابِ التَّنَاسُلِ بِحِكْمَةٍ عَجِيبَةٍ يَقْرُبُ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ مِنْ سُقُوطِ بَعْضِ الْإِحْسَاسِ لِمَنْ يَأْكُلُ الْبَلَاذِرَ لِقُوَّةِ الْفِكْرِ. أَوْ أَمَرَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنَ الْكَلَامِ مَعَ النَّاسِ إِعَانَةً عَلَى انْصِرَافِ الْقُوَّةِ مِنَ الْمَنْطِقِ إِلَى التَّنَاسُلِ، أَيْ مَتَى تَمَّتْ ثَلَاثَةُ الْأَيَّامِ كَانَ ذَلِكَ أَمَارَةَ ابْتِدَاءِ الْحَمْلِ. قَالَ الرَّبِيعُ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَهُ عُقُوبَةً لِتَرَدُّدِهِ فِي صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ الْمَلَكُ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ فِي إِنْجِيلِ لُوقَا، فَيَكُونُ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ قَبِيلِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّهُ سَأَلَ آيَةً فَأُعْطِيَ غَيْرَهَا.
وَقَوْلُهُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أَمْرٌ بِالشُّكْرِ. وَالذِّكْرُ الْمُرَادُ بِهِ:
الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ وَالصَّلَاةِ إِنْ كَانَ قَدْ سُلِبَ قُوَّةَ النُّطْقِ، أَوِ الذِّكْرُ اللِّسَانِيُّ إِنْ كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهَا فَقَطْ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا رَمْزًا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع.
[٤٢- ٤٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٤٢ إِلَى ٤٤]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ. انْتِقَالٌ مِنْ ذِكْرِ أُمِّ مَرْيَمَ إِلَى ذِكْرِ مَرْيَمَ.
وَمَرْيَمُ عَلَمٌ عِبْرَانِيٌّ، وَهُوَ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ اسْمٌ قَدِيمٌ سُمِّيَتْ بِهِ أُخْتُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ فِي كُتُبِ النَّصَارَى ذِكْرٌ لِاسْمِ أَبِي مَرْيَمَ أُمِّ عِيسَى وَلَا لِمَوْلِدِهَا
وَلَكِنَّهَا تَبْتَدِئُ فَجْأَةً بِأَنَّ عَذْرَاءَ فِي بَلَدِ النَّاصِرَةِ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ النَّجَّارِ، قَدْ حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ.

صفحة رقم 243

وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ اسْمَ مَرْيَمَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُتَرَجِّلَةِ الَّتِي تُكْثِرُ مُجَالَسَةَ الرِّجَالِ كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ: قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهُ.
(وَالزِّيرُ بِكَسْرِ الزَّايِ الَّذِي يُكْثِرُ زِيَارَةَ النِّسَاءِ) وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : مَرْيَمُ فِي لُغَتِهِمْ- أَيْ لُغَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ- بِمَعْنَى الْعَابِدَةِ.
وَتَكَرَّرَ فِعْلُ اصْطَفاكِ لِأَنَّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذَاتِيٌّ، وَهُوَ جَعْلُهَا مُنَزَّهَةً زَكِيَّةً، وَالثَّانِي بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ عَلَى الْغَيْرِ. فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْأَوَّلُ إِلَى مُتَعَلِّقٍ. وَعُدِّيَ الثَّانِي.
وَنِسَاءُ الْعَالَمِينَ نِسَاءُ زَمَانِهَا، أَوْ نِسَاءُ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ. وَتَكْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ وَالِاصْطِفَاءُ يَدُلَّانِ عَلَى نُبُوءَتِهَا وَالنُّبُوءَةُ تَكُونُ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّسَالَةِ.
وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِقَصْدِ الْإِعْجَابِ بِحَالِهَا، لِأَنَّ النِّدَاءَ الْأَوَّلَ كَفَى فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِقْبَالِهَا لِسَمَاعِ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، فَكَانَ النِّدَاءُ الثَّانِي مُسْتَعْمَلًا فِي مُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ الَّذِي يُنْتَقَلُ مِنْهُ إِلَى لَازِمِهِ وَهُوَ التَّنْوِيهُ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَالْإِعْجَابُ بِهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

تَقُولُ وَقَدْ مَال الغبيط بنامعا عَقَرْتَ بِعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
(فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ الْمُنْتَقَلِ مِنْهُ إِلَى التَّوْبِيخِ).
وَالْقُنُوتُ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٣٨].
وَقدم السُّجُود، لأنّ أَدْخَلُ فِي الشُّكْرِ وَالْمَقَامُ هُنَا مَقَامُ شُكْرٍ.
وَقَوْلُهُ: مَعَ الرَّاكِعِينَ إِذْنٌ لَهَا بِالصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لَهَا مِنْ بَيْنِ نسَاء إِسْرَائِيل إِظْهَارًا لِمَعْنَى ارْتِفَاعِهَا عَنْ بَقِيَّةِ النِّسَاءِ، وَلِذَلِكَ جِيءَ فِي الرَّاكِعِينَ بِعَلَامَةِ جَمْعِ التَّذْكِيرِ.
وَهَذَا الْخِطَابُ مُقَدِّمَةٌ لِلْخِطَابِ الَّذِي بَعْدَهُ وَهُوَ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ [آل عمرَان: ٤٥] لِقَصْدِ تَأْنِيسِهَا بِالْخَبَرِ الْمُوَالِي لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَاصِلُهُ يَجْلِبُ لَهَا حُزْنًا وَسُوءَ قَالَةٍ بَيْنَ النَّاسِ، مَهَّدَ لَهُ بِمَا يَجْلِبُ إِلَيْهَا مَسَرَّةً، وَيُوقِنُهَا بِأَنَّهَا بِمَحَلِّ عِنَايَةِ اللَّهِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ
تَعْلَمَ بِأَنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَهَا مَخْرَجًا وَأَنَّهُ لَا يُخْزِيهَا.

صفحة رقم 244
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية