
موالاة الكافرين والتحذير من الآخرة
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
الإعراب:
لا يَتَّخِذِ لا ناهية، فالفعل مجزوم، أو نافية، فالفعل مرفوع، وتكون الجملة خبرية في معنى النهي.
فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ أي ليس من دين الله أو ثواب الله في شيء، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. مِنَ اللَّهِ في موضع نصب على الحال لأن التقدير: فليس في شيء كائن من دين الله. فلما قدم صفة النكرة عليها انتصب على الحال. وفِي شَيْءٍ: في موضع نصب، خبر ليس. وتُقاةً منصوبة على المصدر. وأصلها وقية فأبدل الواو تاء ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصارت تقاة.
يَوْمَ تَجِدُ يوم: منصوب بفعل مقدر، وتقديره: اذكر يوم تجد كل نفس.
وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ما: إما بمعنى الذي، وهي معطوفة بالنصب على ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وجملة: تودّ منصوبة على الحال، أو هي مرفوعة مبتدأ وخبره: تَوَدُّ. وإما أن تكون ما شرطية مبتدأ، وعملت: فعل الشرط، وتَوَدُّ: جواب الشرط خبر المبتدأ.
البلاغة:
يوجد طباق في تُخْفُوا وتُبْدُوهُ، وفي مِنْ خَيْرٍ ومِنْ سُوءٍ، وفي مُحْضَراً وبَعِيداً.

المفردات اللغوية:
أَوْلِياءَ مفرده ولي وهو النصير والمعين. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي يواليهم. فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ أي ليس من دين الله في شيء. إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً مصدر تقية، أي تخافوا مخافة، فلكم موالاتهم باللسان دون القلب. وهذا في حال ضعف المسلم بأن يكون في بلد ليس قويا فيها. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يخوّفكم الله أن يغضب عليكم إن واليتموهم. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع، فيجازيكم. مُحْضَراً حاضرا لديها. أَمَداً بَعِيداً الأمد: المدة التي لها حدّ محدود، والمراد: غاية في نهاية البعد، فلا يصل إليها. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرر للتأكيد.
سبب النزول: نزول الآية (٢٨) :
أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد- وهؤلاء كانوا من اليهود- قد بطنوا (لازموا) بنفر من الأنصار، ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيتمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، واحذروا مباطنتهم (ملازمتهم)، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبوا، فأنزل الله فيهم: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ.. الآية.
أي أن هذه الآية نزلت في جماعة من المؤمنين كانوا يوالون رجالا من اليهود، فحذرهم جماعة من المؤمنين من تلك الموالاة أو المخالطة والمصاحبة، فأبوا النصيحة، وظلّوا على ملازمة اليهود ومباطنتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروي أيضا عن ابن عباس: نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري البدري النقيب، وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب، قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فأستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ الآية.

المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أن الأمر بيد الله، وأنه مالك الملك، المعزّ والمذلّ، المعطي والمانع، وأنه على كلّ شيء قدير، نبّه المؤمنين إلى أنه يجب الالتجاء إليه وحده والاستعانة بأوليائه دون أعدائه، وأنه لا ينبغي لهم أن يوالوا أعداءه، أو يستعينوا بهم لقرابة أو صداقة قديمة.
وقد جاء في هذا المعنى آيات كثيرة، منها: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران ٣/ ١١٨]، لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة ٥٨/ ٢٢]، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة ٥/ ٥١]، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [النساء ٤/ ١٤٤]، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ...
إلى قوله: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [الممتحنة ٦٠/ ١]، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ [الأنفال ٨/ ٧٣].
وفي مقابل ذلك قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة ٩/ ٧١].
التفسير والبيان:
نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، ثم توعّد على ذلك بقوله:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فلا يحلّ للمؤمنين اتّخاذ الكافرين أولياء لقرابة أو صداقة أو جوار ونحو ذلك، يطلعونهم على أسرارهم، ويودونهم، ويقدمون مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، وإن كان في ذلك مصلحة خاصة،

فالمصلحة العامة أولى وأحقّ بالمراعاة. فإن كانت الموالاة والمحالفة لمصلحة المسلمين، فلا مانع منها، فقد حالف النّبي صلّى الله عليه وسلّم خزاعة، وهم على شركهم.
وإنما الواجب موالاة المؤمنين بعضهم بعضها، والاعتماد عليهم في الشؤون العامة. قال ابن عباس: نهى الله أن يلاطفوا الكفار، فيتّخذوهم أولياء.
ومعنى الموالاة الممنوعة: الاستنصار بهم والتعاون معهم والاستعانة بهم لقرابة أو محبة، مع اعتقاد بطلان دينهم لأن الموالاة قد تجرّ إلى استحسان طريقتهم، والموالاة بمعنى الرّضا بكفرهم كفر، لأن الرّضا بالكفر كفر.
أما الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة في الدّنيا بحسب الظاهر، مع عدم الرّضا عن حالهم، فليس ممنوعا منه.
ومن يوالي الكافرين من غير المؤمنين أي يتجاوز المؤمنين إلى الكفار، كأن يكون جاسوسا للكفار، فليس من دين الله ولا من حزبه أو من ولاية الله في شيء، أي يكون بينه وبين الله غاية البعد، ويطرد من رحمته، ويكون منهم، ولا يكون مطيعا لدينه، كما قال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وقوله:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ: إشارة إلى اتّخاذهم أولياء، وهذا يدلّ على المبالغة في ترك الموالاة إذ نفى عن متوليهم أن يكون في شيء من الله.
ثم استثنى سبحانه حالة تجوز فيها موالاة الكفار، وهي حالة الخوف من شيء، يجب اتّقاؤه منهم، كالقتل مثلا أي حال اتّقاء الضّرر فتجوز موالاتهم حينئذ لأن «درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح». وإذا جازت موالاتهم لدفع الضّرر، فتجوز لنفع الإسلام والمسلمين. ويكون ذلك للضّرورة، مثل النّطق بالكفر حال الإكراه:
إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل ١٦/ ١٠٦].
ويحذركم الله عقابه، وفي ذكر نَفْسَهُ إشارة إلى أن الوعيد صادر منه

تعالى، وأنه القادر على إنفاذه، ولا يعجزه شيء عنه. وهذا تهديد شديد على المخالفة.
وإلى الله مرجع الخلق وجزاؤهم، فيحاسب كل امرئ بما عمل، ويجازيه بما فعل.
ثم بيّن تعالى سعة علمه بالمخلوقات، فإن تخفوا ما صدوركم وتكتموه، أو تبدوه وتظهروه، فالله يعلمه ويجازي عليه، وهو يعلم كل شيء في السّموات والأرض، ومنه الميل إلى الكفار أو البعد عنهم.
والله قدير على عقوبتكم، فلا تعصوا نواهيه، إذ ما من معصية ظاهرة أو خفية إلا يعلمها.
واحذروا يوم الآخرة الذي تجد فيه كل نفس ما عملت في الدّنيا من خير حاضرا لديها، فتسرّ وتنعم بما عملت، وتجد ما عملت من شرّ صغر أو كبر حاضرا أيضا، فتساء وتندم، وادّة أن يكون بينها وبين عملها بعد طويل ومسافة كبعد المشرقين.
ثم أكّد تعالى تحذيره، فيحذركم الله عقابه وسخطه من ارتكاب المخالفات، وعليكم ترجيح جانب الخير على الشّر. والله بهذا التحذير والتهديد رؤف بعباده، إذ أنذرهم عاقبة أمرهم، وعرّفهم جزاءهم ومصيرهم. قال الحسن البصري:
ومن رأفته أن حذّرهم نفسه، وعرّفهم كمال علمه وقدرته لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة، دعاهم ذلك إلى طلب رضاه، واجتناب سخطه.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- دلّت الآية على تحريم الاطمئنان إلى الكفار أو الثقة بهم والرّكون إليهم في أمر عام، والتّجسس لهم، واطّلاعهم على أسرار المسلمين الخاصة بمصلحة

الدّين، واتّخاذهم أولياء وأنصارا في شيء تقدّم فيه مصلحتهم على مصلحة المؤمنين، كما فعل حاطب بن أبي بلتعة لأن فيه إعانة للكفر على الإيمان.
وقصة حاطب المسندة في الصحيحين وغيرهما ملخصها: «أن حاطبا كتب كتابا لقريش يخبرهم فيه باستعداد النّبي صلّى الله عليه وسلّم للزّحف على مكة، إذ كان يتجهّز لفتحها، وكان يكتم ذلك، ليبغت قريشا على غير استعداد منها، فتضطر إلى قبول الصلح- وما كان يريد حربا- وأرسل حاطب كتابه مع جارية وضعته في عقاص شعرها، فأعلم الله نبيّه بذلك، فأرسل في أثرها عليّا والزّبير والمقداد، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها، فلما أتي به، قال:
يا حاطب ما هذا؟ فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ! إنّي كنت حليفا لقريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاني ذلك من النّسب فيهم أن أتّخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما إنه قد صدقكم»، واستأذن عمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قتله فلم يأذن له، قالوا: وفي ذلك نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة ٦٠/ ١].
أي أن آية: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ.. لم تنزل في قصة حاطب، وإنما هذه الآية وما نزل في قصة حاطب يشتركان في النهي عن موالاة الكافرين.
ولا تمنع هاتان الآيتان وأمثالهما التّحالف أو الاتّفاق بين المسلمين وغيرهم، وإن كان التّحالف أو الاتّفاق لمصلحة غير المسلمين لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان محالفا خزاعة، وهم على شركهم.

كما لا تمنع الآيات في هذا الموضوع موادّة ومجاملة غير الحربيين من غير المسلمين في الظاهر مع عدم الرّضا بكفرهم في الحقيقة والباطن، ولا تمنع معاملة غير المسلم أو معاشرته أو الثقة به في أمر خاص من الأمور، لا يمسّ مصلحة المسلمين العامة، بدليل آيات: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة ٦٠/ ٧- ٩].
فالكفار الحربيون الذين آذوا المسلمين أو ظاهروا على إخراجهم من بلادهم أو اغتصبوا بعض بلادنا كفلسطين، لا تحلّ موالاتهم بل تجب معاداتهم، للآية المتقدّمة.
٢- وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الحرب، وإليه ذهب بعض المالكية،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم عن عائشة- لرجل تبعه يوم بدر: «ارجع فلن أستعين بمشرك»
، ولأنه لا يؤمن غدرهم، إذ العداوة الدينية تحملهم على الغدر إلا عند الاضطرار.
وأجاز الأكثرون من أتباع المذاهب الأربعة الاستعانة بالكافر على الكفار، إذا كان الكافر حسن الرأي بالمسلمين، وقيّد الشافعية ذلك أيضا بالحاجة لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه مسلم- استعان بصفوان بن أمية يوم حنين لحرب هوازن، وتعاونت خزاعة مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم عام فتح مكة، وخرج قزمان- وهو من المنافقين- مع الصحابة يوم أحد، وهو مشرك. وأما حديث «ارجع فلن أستعين بمشرك» فهو منسوخ بدليل استعانته صلّى الله عليه وسلّم بيهود قينقاع وقسمه لهم من الغنيمة.
٣- وفي الآية أيضا دليل على مشروعية التّقية: وهي المحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء.

والواقع أن التّقية نوعان بحسب نوع العدوّ: عدو في الدّين، وعدوّ في الأغراض الدّنيوية كالمال والمتاع والإمارة.
أما النوع الأول: فكل مؤمن وجد في مكان لا يقدر فيه على إظهار دينه، وهذا يجب عليه الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع إظهار دينه فيه. أما إن كان من المستضعفين وهم الصبيان والنساء والعجزة فيجوز له البقاء في ديار الكفر وموافقة الكافرين في الظاهر بقدر الضرورة، مع السّعي في حيلة للخروج والفرار بدينه، لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَساءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً [النساء ٤/ ٩٧- ٩٩].
والموافقة حينئذ للكفار رخصة، وإظهار ما في قلبه عزيمة، فلو مات فهو شهيد، بدليل
ما روي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، ثم قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فتركه ثم دعا الثاني وقال: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، قالها ثلاثا، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أما هذا المقتول، فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة فهنيئا له، وأما الآخر، فقبل رخصة الله، فلا تبعة عليه» «١».
وأما النوع الثاني- وهو من كانت عداوته بسبب المال ونحوه، فقد اختلف