
الطَّبْعِ، وَذَلِكَ مَا يَسْتَخِفُّهُ الطَّبْعُ، وَمَا يَسْتَثْقِلُهُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ [٧: ١٣١] وَقَوْلُهُ: ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ [٧: ٩٥] اهـ. وَكَأَنَّ الْأُسْتَاذَ الْإِمَامَ حَمَلَ السَّيِّئَاتِ عَلَى مَا يَسُوءُ مِنْ مُعَامَلَةِ النَّاسِ أَخْذًا مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [٤٢: ٤٠ - ٤٣] فَالْآيَاتُ صَرِيحَةٌ فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَيُمْكِنُ
ادِّعَاءُ أَنَّ مَا وَرَدَ مِنْ ذِكْرِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فِي مَقَامِ الْجَزَاءِ فِي الدَّارَيْنِ، وَكَذَا فِي الْآخِرَةِ فَقَطْ يُحْمَلُ عَلَى هَذَا. وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ مِنَ السَّيِّئَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ.
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ أَيْ أَعْطِنَا مَا وَعَدْتَنَا مِنَ الْجَزَاءِ الْحَسَنِ كَالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ - وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِالدُّنْيَا، وَبَعْضُهُمْ بِالْآخِرَةِ - جَزَاءً عَلَى تَصْدِيقِ رُسُلِكَ، وَاتِّبَاعِهِمْ، إِذِ اسْتَجَبْنَا لَهُمْ وَآمَنَّا بِمَا جَاءُوا بِهِ، أَوْ مَا وَعَدْتَنَا بِهِ مُنْزَلًا عَلَى رُسُلِكَ، أَوْ مَا وَعَدْتَنَا بِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَعْطِنَا ذَلِكَ بِتَوْفِيقِنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا نَسْتَحِقُّهُ بِهِ إِلَى أَنْ تَتَوَفَّانَا مَعَ الْأَبْرَارِ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَزَاءِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ هَضْمٌ لِنُفُوسِهِمْ، وَاسْتِشْعَارُ تَقْصِيرِهَا، وَعَدَمُ الثِّقَةِ بِثَبَاتِهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِهِ وَعِنَايَتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَقِيلَ إِنَّ الدُّعَاءَ لِإِظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ فَقَطْ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَلَىْ رُسُلِكَ مَعْنَاهُ لِأَجْلِ رُسُلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ رُسُلِكَ، أَيْ لِأَجْلِ اتِّبَاعِهِمْ، وَالْإِيمَانِ بِهِمْ. فَجَعَلَ " عَلَى " لِلتَّعْلِيلِ، وَلَا أَذْكُرُ هَذَا لِغَيْرِهِ هُنَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا قِيلَ مِنَ اسْتِشْكَالِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْهُمْ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِأَنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَاخْتَارَ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ هَدَاهُمُ النَّظَرُ وَالْفِكْرُ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ - تَعَالَى - وَاسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِلَى ضَعْفِ أَنْفُسِهِمْ عَنِ الْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، فَطَلَبُوا الْمَغْفِرَةَ، وَالتَّكْفِيرَ، وَالْعِنَايَةَ الْإِلَهِيَّةَ الَّتِي تُبَلِّغُهُمْ مَا وَعَدَ اللهُ مَنِ اسْتَجَابُوا لِلرُّسُلِ، وَنَصَرُوهُمْ، وَأَحْسَنُوا اتِّبَاعَهُمْ ; وَهُوَ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا ; وَلِذَلِكَ قَالُوا: وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْ لَا تَفْضَحْنَا وَتَهْتِكْ سِتْرَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِإِدْخَالِنَا النَّارَ الَّتِي يَخْزَى مَنْ دَخَلَهَا - كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ - وَنَقَلَ الرَّازِيُّ عَنْ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِزْيِ هُنَا الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ ; لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْوِقَايَةَ مِنَ النَّارِ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْجُسْمَانِيُّ، وَاسْتَنْبَطَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِطَلَبِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ، وَجَعَلَ طَلَبَ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ آخِرًا، وَخِتَامًا، إِذِ الْعَذَابُ الرُّوحَانِيُّ أَشَدُّ، وَيَعْنُونَ بِالْعَذَابِ الرُّوحَانِيِّ الْحِرْمَانَ مِنَ الرِّضْوَانِ الْأَكْبَرِ بِكَمَالِ الْعِرْفَانِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [٩: ٧٢] وَلَكِنَّ طَلَبَ النَّجَاةِ مِنَ
الْخِزْيِ

لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَأَمَّا كَلِمَةُ: إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَهِيَ ثَنَاءٌ خَتَمَ بِهِ الدُّعَاءَ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَعْدَ يُصِيبُهُمْ إِذَا قَامُوا بِمَا تَرَتَّبَ هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَإِنَّ الْوَعْدَ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ: " لَا يَتَنَاوَلُ آحَادَ الْأُمَّةِ بِأَعْيَانِهِمْ بَلْ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُمْ بِحَسَبِ أَوْصَافِهِمْ "، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - فِي الْوَعْدِ بِسِيَادَةِ الدُّنْيَا: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [٢٤: ٥٥] الْآيَةَ، وَقَالَ فِيهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ [٤٧: ٧] وَقَالَ فِي الْوَعْدِ بِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ: وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ [٩: ٧٢] الْآيَةَ، وَقَدْ ذُكِرَتْ كُلُّهَا آنِفًا. وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَكُلٌّ مِنَ الْوَعْدَيْنِ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَلَكِنَّ الْمُحَرِّفِينَ لِدِينِ اللهِ يَجْعَلُونَ كُلَّ جَزَاءٍ حَسَنٍ لِلْأَفْرَادِ بِحَسَبِ ذَوَاتِهِمْ، أَوْ ذَوَاتِ غَيْرِهِمْ مِنَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ.
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَطَفَ اسْتِجَابَتَهُ لَهُمْ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ هُوَ الَّذِي أَهَّلَهُمْ لِقَبُولِ دُعَائِهِمْ، قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ: اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ لِصِدْقِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَالذِّكْرِ، وَالْفِكْرِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَالتَّنْزِيهِ، وَالْوُصُولِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَصِدْقِ الرُّسُلِ، وَإِيمَانِهِمْ بِهِمْ، وَشُعُورِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ مُقَصِّرُونَ فِي الشُّكْرِ لِلَّهِ، مُحْتَاجُونَ مَغْفِرَتَهُ لَهُمْ، وَفَضْلَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ بِهِمْ بِإِيتَائِهِمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الِاسْتِجَابَةَ لَمْ تَكُنْ بِعَيْنِ مَا طَلَبُوا كَمَا طَلَبُوا ; وَلِذَلِكَ صَوَّرَهَا وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا، وَهَذَا التَّصْوِيرُ لِحِكْمَةٍ عَالِيَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ لَيْسَتْ إِلَّا تَوْفِيَةَ كُلِّ عَامِلٍ جَزَاءَ عَمَلِهِ لِيُنَبِّهَهُمْ بِذِكْرِ الْعَمَلِ، وَالْعَامِلِ إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْفَوْزِ بِحُسْنِ الثَّوَابِ إِنَّمَا هِيَ بِإِحْسَانِ الْعَمَلِ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ تَغُشُّهُ نَفْسُهُ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُحْسِنٍ، وَأَنَّهُ مُخْلِصٌ، وَمَا هُوَ بِمُخْلِصٍ، وَأَنَّ حَوْلَهُ وَقُوَّتَهُ قَدْ فَنِيَا فِي حَوْلِ اللهِ وَقُوَّتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ إِلَّا وَجْهَهُ - تَعَالَى - فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، وَيَكُونُ فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ مَغْرُورًا مُرَائِيًا. وَذَكَرَ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مُتَسَاوِيَانِ عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْجَزَاءِ مَتَى تَسَاوَيَا فِي الْعَمَلِ حَتَّى لَا يَغْتَرَّ الرَّجُلُ بِقُوَّتِهِ، وَرِيَاسَتِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ، فَيَظُنَّ أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى اللهِ مِنْهَا، وَلَا تُسِيءَ
الْمَرْأَةُ الظَّنَّ بِنَفْسِهَا فَتَتَوَهَّمَ أَنَّ جَعْلَ الرَّجُلِ رَئِيسًا عَلَيْهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَرْفَعَ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ - تَعَالَى - مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ - تَعَالَى - عِلَّةَ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ بِقَوْلِهِ: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالرَّجُلُ مَوْلُودٌ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ مَوْلُودَةٌ مِنَ الرَّجُلِ، فَلَا فَرْقَ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْأَعْمَالِ، أَيْ وَمَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ، وَيَتَرَتَّبُ هُوَ عَلَيْهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ.
أَقُولُ: وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صِنْوٌ وَزَوْجٌ وَشَقِيقٌ لِلْآخَرِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ حَدِيثُ النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ قَالُوا: أَيْ مِثْلُهُمْ فِي الطِّبَاعِ، وَالْأَخْلَاقِ كَأَنَّهُنَّ مُشْتَقَّاتٌ مِنْهُمْ، أَوْ لِأَنَّهُنَّ مَعَهُمْ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ بِمَعْنَى حَدِيثِ سَلْمَانُ مِنَّا وَحَدِيثِ