
أتبع تكذيبهم فيما قالوا: إن الله فقير. وتبكيتهم
فيما فعلوه، وما وعدهم به من العذاب بما أنبأ
عن قدرته عز وجل وسعة ملكه.
وأن لا سبيل لهم إلى النجاة وإلى الخروج
عن ملكه وسلطانه، وهذا هو المعنى
الذي تحرّاه النابغة بقوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي...
لكن على الآية رونق الإِلهية وتعميم الملك والقدرة بلا مثنويّة.
وإضافة الفعل إلى موجد الليل والنهار.
قول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠)

نبه تعالى أن التفكر في ذلك يدل على وحدانية الله تعالى، وأن
جميع هذه الأشياء لا تنفك من ثلاثة أضرب:
إمّا موجود العين، قائم الجوهر، قابل للانتقال
وتبذل الأمكنة بأجزائه: كالسماء والنجوم.
وإمّا قابلٌ للاستحالة والتغير بجملته وأجزائه.
وذلك كالأرض وما عليها، وإما أن يكون مما لا بقاء له بحاله.
بل ينصرم، ويقابله نظيره كالليل والنهار، وقد ذكر ثلاثتها.
ونبه على حدوثها، لأن المتنقل لا ثبات له، والمستحيل لا بقاء له.
وما كان هذا حاله فغير منفك من دلالة الحدث، وما لم يخل من
محدِثٍ فمسخّر له، ومحال أن يكون المسخَّر المُحدَث أزليًّا واجب
الوجود، فإذن لابد له من موجد يوجده، وموجده واجب
الوجود، وذلك هو الباري تعالى، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

ونبّه بقوله: (لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أن من لم يكن ذا لُبٍّ قلَّ عناؤه في التفكُّر فيها، واللب هو اسم للعقل أزيل عنه الدرن، وذاك أن العقل وإن كان أشرف
مُدرك من الأشياء فهو في الأصل كسيف حديد لم يُطبع ولم يُصقل.
فإذا تُفُقِّد وتُعُهِّد بالحكمة صار كسيف طبع، فأُزيل خبثه، وشُحذ
حَدُّه، وكل موضع يذكر الله تعالى فيه أجلَّ مُدرَكٍ لا يمكن إدراكه
إلا بأجلِّ مُدرِك.
قال بعض الصوفية: هذه المنزلة وإن خُصَّ بها أولوا الألباب فمنزلة الأنبياء والأولياء أشرف منها، لأنهم ينظرون من خالق السموات والأرض إليها، ولهذا قال لنبيه - ﷺ -

(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، وهذا الذي قاله صحيح.
فإن الإِنسان يمكنه أن يعرف حكمة الصانع أولاً بتدبر
مصنوعه، ومتى عرف حكمة الصانع حينئذ عرف مصنوعاته
به، فيصير ما كان دالا مدلولاً، وما كان مدلولاً دالا، وبهذا
النظر قال من سُئل: بِمَ عرفت الله؟ فقال: به عرفت كل ما
سواه.