
وَإِلَّا لَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِكِتَابِهِ، وَآثَرُوا عَلَيْهِ مَا يَسْتَفِيدُونَهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِوَعْدِهِ - تَعَالَى - وَالْخَوْفِ مِنْ وَعِيدِهِ، وَالْيَقِينِ بِقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ وَجْهِ اتِّصَالِ الْآيَةِ الْأُولَى بِمَا قَبْلَهَا: إِنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ أَفَاعِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَغَيْرِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُجَاهِدِينَ لَوْ كَانُوا يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَكَفُّوا مِنْ غُرُورِهِمْ، وَلَعَلِمُوا أَنَّهُ يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ - تَعَالَى -
أَنْ يُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْآيَةَ مُطْلَقَةً مُوَجَّهَةً إِلَى أُولِي الْأَلْبَابِ لِيُطْلِقَ النَّظَرَ

وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ جَذْبُ الْقُلُوبِ، وَالْأَرْوَاحِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْخَلْقِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَلَمَّا طَالَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ الْأَحْكَامِ، وَالْجَوَابِ عَنْ شُبَهَاتِ الْمُبْطِلِينَ عَادَ إِلَى إِنَارَةِ الْقُلُوبِ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالْإِلَهِيَّةِ، وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْجَلَالِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ. اهـ.
أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي وَجْهِ اتِّصَالِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَا قَبْلَهَا عِنْدَ الِابْتِدَاءِ بِتَفْسِيرِهَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُفْتَتَحَةٌ بِذِكْرِ الْكِتَابِ وَشُئُونِ النَّاسِ فِيهِ، وَمُخْتَتَمَةٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَدُعَائِهِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى عَدَمِ تَعَلُّقِهَا بِالْحَوَادِثِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَتَتْ قُرَيْشٌ الْيَهُودَ، فَقَالُوا: بِمَ جَاءَكُمْ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ؟ فَقَالُوا: عَصَاهُ، وَيَدُهُ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ، وَأَتَوُا النَّصَارَى، فَقَالُوا: كَيْفَ كَانَ عِيسَى؟ قَالُوا: كَانَ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، فَأَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يَجْعَلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا، فَدَعَا رَبَّهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَلْيَتَفَكَّرُوا فِيهَا. انْتَهَى مِنْ لُبَابِ النُّقُولِ. وَأَنْتَ لَا تَرَى الْمُنَاسَبَةَ قَوِيَّةً بَيْنَ الِاقْتِرَاحِ وَبَيْنَ الْآيَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُرَادَ الْقُرْآنِ الِاسْتِدْلَالُ بِآيَاتِ اللهِ فِي الْكَائِنَاتِ عَلَى حَقِيقَةِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ دُونَ الْخَوَارِقِ، وَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَقَدْ وَرَدَ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُقْتَرِحِينَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ - تَعَالَى -.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ - تَعَالَى - بِوَحْدَةِ النِّظَامِ فِي ذَلِكَ، وَعَلَى رَحْمَتِهِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَرَافِقِ لِلْعِبَادِ، فَلْيُرَاجَعْ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ [٢: ١٦٤] إلخ [ص٤ ج ٢ ط الْهَيْئَةِ الْعَامَّةِ لِلْكِتَابِ].
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هُنَا: السَّمَاوَاتُ: مَاعَلَاكَ مِمَّا تَرَاهُ فَوْقَكَ، وَالْأَرْضُ: مَا تَعِيشُ عَلَيْهِ، وَالْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ وَالتَّرْتِيبُ لَا الْإِيجَادُ مِنَ الْعَدَمِ، كَمَا اصْطُلِحَ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى النِّظَامِ وَالْإِتْقَانِ وَهُوَ مَا هِيَ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ، وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَبَعْدَ مَا ذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَفَتَ الْعُقُولَ إِلَى أَمْرٍ مِمَّا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ; فَإِنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ قَائِمٌ بِنِظَامٍ فِي طُولِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَقَصَرِهِمَا، وَتَعَاقُبِهِمَا، وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهُ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَنَّهُ حَادِثٌ مِنْ حَرَكَةِ الشَّمْسِ، أَوْ مَا يَعْتَقِدُونَ الْآنَ مِنْ أَنَّ سَبَبَهُ حَرَكَةُ الْأَرْضِ تَحْتَ الشَّمْسِ، وَمِنَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ مَا نَرَاهُ فِي أَجْسَامِنَا وَعُقُولِنَا مِنْ تَأْثِيرِ حَرَارَةِ الشَّمْسِ، وَرُطُوبَةِ اللَّيْلِ، وَكَذَا فِي تَرْبِيَةِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ اللَّيْلُ سَرْمَدًا وَالنَّهَارُ سَرْمَدًا لَفَاتَتْ.
وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَفَهْمِهِ وَجَوْدَةِ فِكْرِهِ، فَأَمَّا عُلَمَاءُ الْهَيْئَةِ