
﴿إن في خلق السماوات﴾ جملةٌ مستأنفة سيقت لتقرير ما سبق من اختصاصه تعالى بالسلطان القاهرِ والقُدرة التامةِ صُدِّرت بكلمة التأكيدِ اعتناءً بتحقيق مضمونِها أي في إنشائها على ما هي عليه في ذواتها وصفاتِها من الأمور التي يَحار في فهم أجلاها العقولُ
﴿والارض﴾ على ما هي عليه ذاتاً وصفةً
﴿واختلاف الليل والنهار﴾ أي في تعاقُبهما في وجه الأرضِ وكونِ كلَ منهما خِلْفةً للآخر بحسَب طلوعِ الشمسِ وغروبِها التابعين لحركات لسموات وسكونِ الأرضِ أو في تفاوتهما بازدياد كلَ منهما بانتقاص الآخرِ وانتقاصِه بازدياده باختلاف حالِ الشمسِ بالنسبة إلينا قُرباً وبُعداً بحسب الأزمنةِ أو في اختلافهما وتفاوتِهما بحسب الأمكنةِ إما في الطول والقِصَر فإن البلادَ القريبةَ من القُطب الشماليِّ أيامُها الصيفيةُ أطولُ ولياليها الصيفيةُ أقصرُ من أيام البلادِ البعيدةِ منه ولياليها وإما في أنفسها فإن كرية الأرض تقتقض أن يكون بعض الوقات في بعضُ الأماكنِ ليلاً وفي مقابله نهاراً وفي بعضها صباحاً وفي بعضها ظهراً أو عصراً أو غيرَ ذلك والليلُ قيل إنه اسمُ جنسٍ يُفرَّق بين واحدِه وجمعِه بالتاء كتمْر وتمرةٍ والليالي جمعُ جمعٍ والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحفظ له جمعٌ والليالي جمعُ ليلةٍ وهو جمعٌ غريبٌ كأنهم توهموا أنها ليلاةٌ كما في كَيْكة وكياكي كأنها جمعُ كيكاة والنهارُ اسمٌ لما بين طلوعِ الفجرِ وغروبِ الشمسِ قاله الراغب وقال ابن فارس هو ضياءُ ما بينهما وتقديمُ الليلِ على النهار إما لأنه الأصل فإن غُررَ الشهورِ تظهر في الليالي وإما لتقدمه في الخلفية حسبما ينبئ عنه قوله تعالى وآية لهم الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار أي نزيلُه منه فيخلُفه
﴿لاَيَاتٍ﴾ اسمُ إن دخلته اللامُ لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كماً وكيفاً أي لآياتٍ كثيرةً عظيمةٌ لا يُقادر قدرُها دالةٌ على تعاجيب شعونه التي من جملتها ما مر من اختصاص المُلكِ العظيمِ والقدرةُ التامةُ به سبحانه وعدم

١٩١ - آل عمران التعرضِ لما ذُكر في سورةِ البقرةِ من الفُلك والمطرِ وتصريفِ الرياحِ والسحابِ لما أن المقصود ههنا بيانُ استبدادِه تعالى بما ذُكر من المُلك والقدرةِ فاكتُفي بمعظم الشواهدِ الدالةِ على ذلك وأما هناك فقد قُصِد في ضمن بيانِ اختصاصِه تعالى بالألوهية بيانُ اتصافِه تعالى بالرحمة الواسعةِ فنُظمت دلائلُ الفضلِ والرحمةِ في سلك دلائلِ التوحيدِ فإن ما فصل هناك من آيات رحمتِه تعالى كما أنه آيات ألوهيتِه ووحدتِه
﴿لاِوْلِى الالباب﴾ أي لذوي العقول المجلُوَّة الخالصةِ عن شوائب الحسِّ والوهمِ المتجرِّدَين عن العلائق النفسانيةِ المتخلّصين من العوائق الظُلمانيةِ المتأملين في أحوال الحقائقِ وأحكامِ النعوتِ المراقبين في أطوار الملكِ وأسرارِ الملكوتِ المتفكرين في بدائع صنائعِ الملِكِ الخلاق المتدبرين في روائع حُكمِه المودَعةِ في الأنفس والآفاق الناظرين إلى العالم بعين الاعتبارِ والشهودِ المتفحّصين عن حقيقة سرِّ الحقِّ في كل موجود المثابرين على مراقبته وذِكراه غيرَ ملتفتين إلى شئ مما سواه إلا من حيث إنه مرآةٌ لمشاهدة جمالِه وآلةٌ لملاحظة صفاتِ كماله فإن كل كا ظهر في مظاهر الإبداعِ وحضر محاضِرَ التكوينِ والاختراع سبيلٌ سوِيّ إلى عالم التوحيد ودليلٌ قوي على الصانع المجيدِ ناطقٌ بآيات قدرتِه فهل من سامع واعٍ ومخبِرٍ بأنباء علمِه وحكمتِه فهل له من داعٍ يكلم الناسَ على قدر عقولِهم ويرُدّ جوابَهم بحسب مقولِهم يحاور تارة بأوضح عبارةٍ ويلوّح أخرى بألطفِ إشارةٍ مراعياً في الحوار وإبهامهم وتصريحهم وإن من شئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاتفقهون تَسْبِيحَهُمْ فتأمل في هذه الشئون والأسرارِ إن في ذلك لعبرة لأولى البصار عن عائشةَ رضيَ الله عنها أن رسول الله ﷺ قال هل لك يا عائشةُ أن تأذني لي الليلةَ في عبادة ربي فقلت يا رسولَ الله إني لأُحِبُّ قُربَك وأحِبُّ هواك قد أذِنت لك فقام إلى قِربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يُكثر من صب الماءِ ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموعُ حِقْوَيه ثم جلس فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه يبكي حتى رأيت دموعَه قد بلت الأرضَ فأتاه بلالٌ يؤْذِنه بصلاة الغداةِ فرآه يبكي فقالَ له يا رسولَ الله أتبكي وقد غفَر الله لك مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكونُ عبداً شكورا ثم قال وما لى لا أبكي وقد أنزل الله تعالى على في هذه الليلةِ ﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾ الخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي ويلٌ لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأملْها وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كان إذا قام من الليل يتسول ثم ينظر إلى السماء ثم يقول ﴿إن في خلق السماوات والأرض﴾