آيات من القرآن الكريم

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ
ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﲿ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وقال ابن عباس: «سألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، ثم خرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه».
وذكر بعض العلماء أن هذه الآية نزلت في شأن المنافقين، فقد روى البخاري عن أبى سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فإذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الغزو، اعتذروا إليه وحلفوا وأحبو أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت، لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ «١».
قال العلماء: ولا منافاة بين الروايتين، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر. وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد حدثتنا عن جملة من رذائل أهل الكتاب، فقد حكت قولهم إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وحكت قولهم أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ووصفتهم بكتمان الحق ونبذه وراء ظهورهم، كما وصفتهم بأنهم يفرحون بما أتوا وييحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وردت على أكاذيبهم بما يدحضها وأنذرتهم بسوء مصيرهم، وساقت للمؤمنين من ألوان التسلية ما يخفف عنهم مصابهم، ويجعلهم يسيرون في هذه الحياة بعزم ثابت، وهمة عالية، ونفس مطمئنة.
ثم ختم- سبحانه- سورة آل عمران بالحديث عن مظاهر قدرته، وأدلة وحدانيته، وبشر أصحاب العقول السليمة- الذين يعتبرون ويتعظون ويتفكرون ويكثرون من ذكره- برضوانه وجنته، وأمر عباده بألا يغتروا بما عليه الكافرون من سلطان وجاه فإنه- سبحانه- قد جعل العاقبة للمتقين، كما أمرهم بالصبر والمصابرة والمرابطة ومداومة خشيته فقال- تعالى-:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٩ الى ٢٠٠]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣)
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)

(١) أخرجه البخاري في كتاب التفسير ج ٦ ص ٥١ باب لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا.

صفحة رقم 368

قوله- تعالى- وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أى له وحده- سبحانه- ملك السموات والأرض بما فيهما، فهو وحده صاحب السلطان القاهر في هذا العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار: إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة، وتعذيبا وإثابة، وهو- سبحانه- على كل شيء قدير، لا يعجزه أمر، ولا يدفع عقابه دافع، ولا يمنع عقابه مانع، فعليكم أيها الناس أن تطيعوه وأن تحذروا غضبه ونقمته.
وبعد أن بين- سبحانه- أن ملك السموات والأرض بقبضته، أشار- سبحانه- إلى ما فيهما من عبر وعظات فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.
أى: إن في إيجاد السموات والأرض على هذا النحو البديع، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب وبحار وزروع وأشجار... وفي إيجاد الليل والنهار على تلك الحالة المتعاقبة، وفي اختلافهما طولا وقصرا.. وفي كل ذلك لأمارات واضحة، وأدلة ساطعة، لأصحاب العقول السليمة على وحدانية الله- تعالى- وعظيم قدرته، وباهر حكمته.
وصدرت الجملة الكريمة بحرف «إن» للاهتمام بالخبر، وللاعتناء بتحقيق مضمون الجملة.
أى إن في إيجاد السموات والأرض وإنشائهما على ما هما عليه من العجائب، وما اشتملتا عليه من البدائع، وفي اختلاف الليل والنهار... إن في كل ذلك من العبر والعظات ما يحمل كل عاقل على الاعتراف بوحدانية الله، وكمال قدرته وحكمته.
والمراد بأولى الألباب: أصحاب العقول السليمة، والأفكار المستقيمة، لأن لب الشيء هو خلاصته وصفوته.
ولقد قال الزمخشري في صفة أولى الألباب: «هم الذين يفتحون بصائرهم للنظر والاستدلال والاعتبار، ولا ينظرون إليها نظر البهائم غافلين عما فيها من عجائب الفطرة. وفي الحكم: املأ عينيك من زينة هذه الكواكب، وأجلهما في جملة هذه العجائب متفكرا في قدرة مقدرها، متدبرا في حكمة مدبرها قبل أن يسافر بك القدر، ويحال بينك وبين النظر» «١».

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٣٤٨.

صفحة رقم 370

هذا، وقد أورد المفسرون كثيرا من الآثار في فضل هذه الآيات العشر التي اختتمت بها سورة آل عمران، ومن ذلك قول ابن كثير- رحمه الله-:
وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقد روى البخاري- رحمه الله- عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: بت عند خالتي ميمونة، فتحدث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أهله ساعة ثم رقد: فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... الآيات. ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إحدى عشرة ركعة. ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج ذات ليلة بعد ما مضى شطر من الليل فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السورة.
ثم قال: «اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصرى نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، ومن بين يدي نورا، ومن خلفي نورا، ومن فوقى نورا، ومن تحتي نورا. وأعظم لي نورا يوم القيامة».
وروى ابن مردويه عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة- رضى الله عنها- فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب فقال لها ابن عمر: أخبرينا بأعجب ما رأيته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فبكت وقالت: كل أمره كان عجبا!! أتانى في ليلتي حتى مسّ جلده جلدي ثم قال: يا عائشة: ذريني أتعبد لربي- عز وجل- قالت: فقلت والله إنى لأحب قربك وإنى أحب أن تعبد ربك.
فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلى فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى. حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال:
ويحك يا بلال!! وما يمنعني أن أبكى وقد أنزل الله على هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ الآيات.
ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» «١».
ثم وصف- سبحانه- أولى الألباب بصفات كريمة فقال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ.

(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٣٩.

صفحة رقم 371

فقوله الَّذِينَ يَذْكُرُونَ إلخ. في موضع جر على أنه نعت لأولى الألباب. ويجوز أن يكون في موضع رفع أو نصب على المدح.
أى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لآيات واضحات على وحدانية الله وقدرته، لأصحاب العقول السليمة، الذين من صفاتهم أنهم يَذْكُرُونَ اللَّهَ أى يستحضرون عظمته في قلوبهم، ويكثرون من تسبيحه وتمجيده بألسنتهم، ويداومون على ذلك في جميع أحوالهم. فهم يذكرونه قائمين، ويذكرونه قاعدين. ويذكرونه وهم على جنوبهم فالمراد بقوله قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ أن ذكرهم لله- تعالى- بقلوبهم وألسنتهم يستغرق عامة أحوالهم».
وقوله قِياماً وَقُعُوداً منصوبان على الحالية من ضمير الفاعلي في قوله: يَذْكُرُونَ.
وقوله وَعَلى جُنُوبِهِمْ متعلق بمحذوف معطوف على الحال أى: وكائنين على جنوبهم أى مضطجعين.
ثم وصفهم سبحانه وتعالى بوصف آخر فقال: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
أى أن من صفات هؤلاء العباد أصحاب العقول السليمة أنهم يكثرون من ذكر الله- تعالى-، ولا يكتفون بذلك، بل يضيفون إلى هذا الذكر التدبر والتفكر في هذا الكون وما فيه من جمال الصنعة، وبديع المخلوقات، ليصلوا من وراء ذلك إلى الإيمان العميق، والإذعان التام، والاعتراف الكامل بوحدانية الله. وعظيم قدرته...
فإن من شأن الأخيار من الناس أنهم يتفكرون في مخلوقات الله وما فيها من عجائب المصنوعات، وغرائب المبتدعات، ليدلهم ذلك على كمال قدرة الصانع- سبحانه-، فيعلموا أن لهذا الكون قادرا مدبرا حكيما، لأن عظم آثاره وأفعاله، تدل على عظم خالقها.
ولقد ذكر العلماء كثيرا من الأقوال التي تحض على التفكير السليم، وعلى التدبر في عجائب صنع الله، ومن ذلك قول سليمان الداراني: «إنى أخرج من بيتي فما يقع بصرى على شيء إلا رأيت لله على فيه نعمة، ولى فيه عبرة»، وقال الحسن البصري: «تفكر ساعة خير من قيام ليلة».
وقال الفخر الرازي: دلائل التوحيد محصورة في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس.
ولا شك أن دلائل الآفاق أجل وأعظم، كما قال- تعالى-: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.
ولما كان الأمر كذلك لا جرم أنه أمر في هذه الآية بالفكر في خلق السموات والأرض، لأن

صفحة رقم 372

دلالتها أعجب. وشواهدها أعظم» «١».
وقد وبخ- سبحانه- الذين يرون العبر فلا يعتبرون، وتمر أمامهم العظات فلا يتعظون ولا يتفكرون فقال- تعالى-: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ.
ثم حكى- سبحانه- ثمرات ذكرهم لله وتفكرهم في خلقه فقال: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ.
أى أنهم بعد أن أذعنت قلوبهم للحق، ونطقت ألسنتهم بالقول الحسن، وتفكرت عقولهم في بدائع صنع الله تفكيرا سليما، استشعروا عظمة الله استشعارا ملك عليهم جوارحهم، فرفعوا أكف الضراعة إلى الله بقولهم:
يا ربنا إنك ما خلقت هذا الخلق البديع العظيم الشأن عبثا، أو عاريا عن الحكمة. أو خاليا من المصلحة، سُبْحانَكَ أى ننزهك تنزيها تاما عن كل مالا يليق بك فَقِنا عَذابَ النَّارِ أى فوفقنا للعمل بما يرضيك، وأبعدنا عن عذاب النار.
وقوله رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا إلخ جملة واقعة موقع الحال على تقدير قوله أى يتفكرون قائلين ربنا. لأن هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء.
وقوله: باطلا صفة لمصدر محذوف أى خلقا باطلا، أو حال من المفعول والمعنى يا ربنا ما خلقت هذا المخلوق العظيم الشأن عاريا عن الحكمة، خاليا من المصلحة، بل خلقته مشتملا على حكم جليلة، منتظما لمصالح عظيمة.
وكان نداؤهم لخالقهم- عز وجل- بلفظ رَبَّنا اعترافا منهم بأنه هو مربيهم وخالقهم فمن حقه عليهم أن يفردوه بالعبادة والخضوع.
وسبحان اسم مصدر بمعنى التسبيح أى التنزيه، وهو مفعول بفعل مضمر لا يكاد يستعمل معه أى، تنزهت ذاتك وتقدست عن كل ما لا يليق، وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم فَقِنا عَذابَ النَّارِ لأنه ترتب على اعتقادهم بأنه سبحانه- لم يخلق هذا عبثا- أن هناك ثوابا وعقابا، فسألوا الله- تعالى- أن يجعلهم من أهل الجنة لا من أهل النار.
وقوله- تعالى- حكاية عنهم رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ في مقام التعليل لضراعتهم بأن يبعدهم عن النار.
أى: أبعدنا يا ربنا عن عذاب النار، فإنك من تدخله النار تكون قد أخزيته أى أهنته وفضحته على رءوس الأشهاد.

(١) تفسير الفخر الرازي ج ٩ ص ١١٠.

صفحة رقم 373

والخزي: مصدر خزي يخزى بمعنى ذل وهان بمرأى من الناس. وفي هذا التعليل مبالغة في تعظيم أمر العقاب بالنار، وإلحاح في طلب النجاة منها، لأن من سأل ربه حاجة، إذا شرح عظمها وقوتها، كان رجاؤه في القبول أشد، وإخلاصه أتم، وشعوره بالعطاء أقوى.
وقوله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أى ليس لهم ناصر ينصرهم من عقاب الله- تعالى- أو يخلصهم مما وقعوا فيه من بلاء.
و «من» للدلالة على استغراق النفي، أى لا ناصر لهم أيا كان هذا الناصر، وفي ذلك إشارة إلى انفراد الله- تعالى- بالسلطان ونفاذ الإرادة.
ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من ألوان ضراعتهم يدل على قوة إيمانهم فقال- تعالى- رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا...
أى أنهم يقولون على سبيل الضراعة والخضوع لله رب العالمين: يا ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى أى داعيا يدعو إلى الإيمان وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، فاستجبنا لدعوته، وآمنا بما دعانا إليه بدون تردد أو تسويف.
وفي وصفه صلّى الله عليه وسلّم بالمنادي، دلالة على كمال اعتنائه بشأن دعوته التي يدعو إليها، وأنه حريص على تبليغها للناس تبليغا تاما.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فأى فائدة في الجميع بين «المنادى» ويُنادِي؟ قلت:
ذكر النداء مطلقا، ثم مقيدا بالإيمان، تفخيما لشأن المنادى لأنه لا منادى أعظم من مناد ينادى للإيمان. ونحوه قولك: مررت بهاد يهدى للإسلام. وذلك أن المنادى إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب، أو لإغاثة المكروب، أو لكفاية بعض النوازل، أو لبعض المنافع. وكذلك الهادي قد يطلق على من يهدى للطريق ويهدى لسداد الرأى وغير ذلك.
فإذا قلت: ينادى للإيمان. ويهدى للإسلام، فقد رفعت من شأن المنادى والهادي وفخمته «١».
و «أن» في قوله أَنْ آمِنُوا تفسيرية لما في فعل يُنادِي من معنى القول دون حروفه، وجيء بفاء التعقيب في قوله- تعالى- حكاية عنهم فَآمَنَّا للدلالة على المبادرة والسبق، إلى الإيمان، وأنهم قد أقبلوا على الداعي إلى الله بسرعة وامتثال، وفي ذلك دلالة على سلامة فطرتهم، وبعدهم عن المكابرة والعناد.

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٣٥٠. [.....]

صفحة رقم 374

ثم حكى- سبحانه- مطلبهم فقال: رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ.
أى نسألك يا ربنا بعد أن آمنا بنبيك، واستجبنا للحق الذي جاء به، أن تغفر لنا ذنوبنا بأن تسترها وتعفو عنها، وأن تكفر عنا سيئاتنا بأن تزيلها وتمحوها وتحولها إلى حسنات أو بأن تحشرنا مع الأبرار أى مع عبادك الصالحين المستقيمين الأخيار. إذ الأبرار جمع بار وهو الشخص الكثير الطاعة لخالقه- تعالى-.
فأنت تراهم قد طلبوا من خالقهم ثلاثة أمور، غفران الذنوب، وتكفير السيئات، والوفاة مع الأبرار الأخيار، وهي مطالب تدل على قوة إيمانهم، وصفاء نفوسهم، وزهدهم في متع الحياة الدنيا.
وقد جمعوا في طلبهم بين غفران الذنوب وتكفير السيئات، لأن السيئة عصيان فيه إساءة، والذنب عصيان فيه تقصير وتباطؤ عن فعل الخير، والغفران والتكفير كلاهما فيه معنى الستر والتغطية، إلا أن الغفران يتضمن معنى عدم العقاب، والتكفير يتضمن ذهاب أثر السيئة.
ومعنى وفاتهم مع الأبرار: أن يموتوا على حالة البر والطاعة وأن تلازمهم تلك الحالة إلى الممات، وألا يحصل منهم ارتداد على أدبارهم، بل يستمروا على الطاعة استمرارا تاما.
وبذلك يكونون في صحبة الأبرار وفي جملتهم.
ثم حكى القرآن أنهم ترقوا فانتقلوا من طلب الغفران إلى طلب الثواب الجزيل، والعطاء الحسن فقال- تعالى- حكاية عنهم رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ.
أى نسألك يا ربنا أن تعطينا وتمنحنا بعد وفاتنا، وحين قيامنا من قبورنا يوم القيامة، ما وعدتنا به من ثواب في مقابل تصديقنا لرسلك، وطاعتنا لهم، واستجابتنا لأوامرهم ونواهيهم وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أى ولا تذلنا ولا تفضحنا يوم المحشر على رءوس الأشهاد إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ أى إنك- سبحانك- لا تخلف وعدك الذي وعدته لعبادك الصالحين.
فهم قد جعلوا هذا الدعاء وهو طلب الثواب الجزيل يوم القيامة، ختاما لدعواتهم، لشعورهم بهفواتهم وبتقصيرهم أمام فضل الله ونعمه.
والمراد بقولهم ما وَعَدْتَنا الثواب والعطاء الكائن منه- سبحانه- و «ما» موصولة أى آتنا الذي وعدتنا به أو وعدتنا إياه.
وقوله عَلى رُسُلِكَ فيه مضاف محذوف أى آتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من ثواب.

صفحة رقم 375

أو آتنا ما وعدتنا على تصديق رسلك والإيمان بهم من جزاء حسن قال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف دعوا الله بإنجاز ما وعد والله لا يخلف الميعاد؟
قلت: معناه طلب التوفيق فيما يحفظ عليهم أسباب إنجاز الميعاد، أو هو من باب الملجأ إلى الله والخضوع له، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، «يستغفرون مع علمهم بأنهم مغفور لهم، يقصدون بذلك التذلل لربهم، والتضرع إليه، والملجأ الذي هو سيما العبودية» «١».
تلك هي الدعوات الخاشعات التي حكاها- سبحانه- عن أصحاب العقول السليمة، وهم ينضرعون بها إلى خالقهم- عز وجل-فماذا كانت نتيجتها؟
لقد كانت نتيجة دعواتهم، أن أجاب الله لهم سؤالهم وحقق لهم مطلوبهم فقال- تعالى- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ!!.
قال الحسن البصري: «ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم».
وقال جعفر الصادق: «من حزبه أمر فقال خمس مرات رَبَّنا أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل: وكيف ذلك؟ قال:

اقرءوا إن شئتم قوله- تعالى- الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً إلخ فإن هؤلاء الأخيار قد نادوا ربهم خمس مرات فأجاب الله لهم دعاءهم.
ودلت الفاء في قوله فَاسْتَجابَ على سرعة الإجابة، لأن الفاء للتعقيب، فهم لأنهم دعوا الله بقلب سليم، أجاب الله لهم دعاءهم بدون إبطاء.
واستجاب هنا بمعنى أجاب عند جمهور العلماء، إذ السين والتاء للتأكيد، مثل استوقد واستخلص.
وقال بعضهم: إن استجاب أخص من أجاب، لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعى إليه، وأجاب أعم فيقال لمن أجاب بالقبول وبالرد.
والمعنى: أن الله- تعالى- قد بشر هؤلاء الأخيار برضاه عنهم، بأن أخبرهم بأنه قد أجاب لهم دعاءهم، وأنه- سبحانه- لا يضيع عمل عامل منهم، بل سيجازيهم بالجزاء الأوفى، وسيمنحهم من الثواب. فوق ما عملوا لأنه هو الكريم الوهاب، ولن يفرق في عطائه بين ذكر وأنثى، لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر وقد خلقهم جميعا من نفس واحدة.
وفي التعبير باللفظ السامي رَبُّهُمْ إشارة إلى أن الذي سيجزيهم هو خالقهم ومربيهم والمنعم عليهم، والرحيم بهم.
(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٥٥.

صفحة رقم 376

ومعنى لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ لا أزيل ثواب عمل أى عامل منكم، بل أكافئه عليه بما يستحقه، وأعطيه من ثوابي ورحمتي ما يشرح صدره، ويدخل البهجة والسرور على نفسه.
وقوله مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان لعامل، وتأكيد عمومه، أى لا أضيع عمل أى شخص عامل سواء أكان هذا العامل ذكرا أم أنثى.
ومعنى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، كلكم بنو آدم وهذه جملة معترضة مبينة لسبب شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده من أجر جزاء أعمالهم الصالحة.
روى الترمذي عن أم سلمة قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله- تعالى- ذكر النساء في الهجرة، فأنزل الله- تعالى- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.
ثم بين- سبحانه- الأعمال الصالحة التي استحق بها هؤلاء الأبرار حسن الثواب منه- سبحانه- فقال: فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي، وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا، لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
أى: فالذين هاجروا بأن تركوا أوطانهم التي أحبوها إلى أماكن أخرى من أجل إعلاء كلمة الله، وأخرجوا من ديارهم، فرارا بدينهم من ظلم الظالمين، واعتداء المعتدين، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أى تحملوا الأذى والاضطهاد في سبيل الحق الذي آمنوا به وَقاتَلُوا أعداء الله وَقُتِلُوا وهم يجاهدون من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.
هؤلاء الذين فعلوا كل ذلك، وعدهم الله- تعالى- بالأجر العظيم فقال: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أى لأمحون عنهم ما ارتكبوه من سيئات، ولأسترنها عليهم حتى تعتبر نسيا منسيا وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أى تجرى من تحت قصورها الأنهار التي فيها العسل المصفى، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
وقوله ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ أى لأثيبنهم ثوابا عظيما من عندي، والله- تعالى- عنده حسن الجزاء لمن آمن وعمل صالحا.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد منح هؤلاء الأخيار ذلك الأجر الجزيل لأنهم قد هاجروا من الأرض التي أحبوها إلى غيرها من أجل إعلاء كلمة الله، وأخرجوا منها مضطرين لا مختارين فرارا بدينهم، ولقد ذكر المؤرخون أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عند ما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال: «يا مكة والله لأنت أحب بلاد الله إلى ولولا أن قومك أخرجونى ما خرجت».

صفحة رقم 377

ولأنهم قد تحملوا من الأذى في سبيل الله، ولأنهم قد جاهدوا أعداء الله وأعداءهم حتى استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله.
وقوله فَالَّذِينَ هاجَرُوا مبتدأ، وهو تفصيل لعمل العامل منهم على سبيل التعظيم له، والتفخيم لشأنه. وخبره قوله لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
وقوله وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ معطوف على هاجَرُوا. وجمع بينهما للإشعار بأنهم قد تركوا أوطانهم تارة باختيارهم ليبحثوا عن مكان أصلح لنماء دعوتهم، وانتشار الحق الذي اعتنقوه، وتارة بغير اختيارهم بل تركوها مجبرين ومضطرين بعد أن ألجأهم أعداؤهم إلى الخروج منها بسبب ما نالهم منهم من ظلم واعتداء.
وقوله وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي معطوف على ما قبله. والمراد من الإيذاء ما هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من جهة المشركين.
وجمع- سبحانه- بين قوله وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا للإشارة إلى أن للقسمين ثوابا وأنهم لن يصيبهم إلا إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وقوله: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ جواب قسم محذوف، أى والله لأكفرن عنهم سيئاتهم.
وقدّم- سبحانه- تكفير سيئاتهم على إدخالهم الجنة، لأن التخلية- كما يقولون- مقدمة على التحلية، فهو أولا طهرهم من الذنوب والآثام ونقاهم منها، ثم أدخلهم بعد ذلك جنته وأعطاهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقوله ثَواباً مصدر مؤكد لما قبله، لأن المعنى لأثيبنهم على ما عملوه ثوابا عظيما.
وقوله مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صفة لقوله ثَواباً وهو وصف مؤكد لأن الثواب لا يكون إلا من عنده- تعالى-، لكنه صرح به- سبحانه- تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه.
وقوله وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
وقد ختم- سبحانه- الآية بهذه الجملة الكريمة لبيان اختصاصه بالثواب الحسن كأن كل جزاء للأعمال في الدنيا لا يعد حسنا بجوار ما أعده- سبحانه- في الآخرة لعباده المتقين.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد دعت المؤمنين إلى الإكثار من ذكر الله وإلى التفكر السليم في عجائب صنعه، وساقت لنا ألوانا من الدعوات الطيبات الخاشعات التي تضرع بها الأخيار إلى خالقهم، وبينت لنا الثواب الجزيل والعطاء العظيم الذي منحه الله لهم في مقابل إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح، فقد جرت سنته- سبحانه- أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأنه لا يرد دعاء الأبرار من عباده.

صفحة رقم 378

وبعد أن بشر- سبحانه- عباده المؤمنين الصادقين بهذا الثواب الحسن، نهاهم عن الاغترار بما عليه الكافرون من قوة وسطوة ومتاع دنيوى فقال- تعالى- لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ.
يغرنك: من الغرور وهو الأطماع في أمر محبوب على نية عدم وقوعه، أو إظهار الأمر المضر في صورة الأمر النافع، وهو مشتق من الغرة بكسر الغين- وهي الغفلة- ويقال: رجل غر إذا كان ينخدع لمن خادعه.
والتقلب في البلاد: التصرف فيها على جهة السيطرة والغلبة ونفوذ الإرادة.
والمتاع: الشيء الذي يتمتع الإنسان به لمدة معينة، والمعنى: لا يصح أن يخدع أحد بما عليه الكافرون من تقلب في البلاد ومن تصرفهم فيها تصرف الحاكم المسيطر عليها، المستغل لثرواتها وخيراتها، فإن تصرفهم هذا لن يستمر طويلا، بل سيبقى مدة قليلة يتمتعون فيها بما بين أيديهم ثم يزول عنهم كل شيء وسوف يعودون إلى خالقهم فيعذبهم العذاب الأكبر على ظلمهم وبغيهم وكفرهم.
والخطاب في قوله لا يَغُرَّنَّكَ للرسول صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى له الخطاب، وهو نهى للمؤمنين عن أن يغتروا بما عليه الكافرون من جاه ونفوذ وسلطان وغنى.
وليس من مقتضى النهى أن يكون قد وقع المنهي عنه فإن الإنسان قد ينهى عن شيء لم يقع منه لتحذيره من الوقوع فيه في الحال أو المآل.
ولذا روى عن قتادة أنه قال: «والله ما غروا نبي الله حتى قبضه الله إليه».
ولقد قال صاحب الكشاف في الجواب على أن النهى موجه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن قلت: كيف جاز أن يغتر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك حتى ينهى عن الاغترار به؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن عظيم القوم ومتقدمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعا فكأنه قيل: لا يغرنكم.
والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان غير مغرور بحالهم فأكد ما كان عليه وثبت ما كان على التزامه كقوله وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «١».
وقوله مَتاعٌ خبر لمبتدأ محذوف أى هو متاع وقوله قَلِيلٌ صفة لمتاع. ووصف بأنه قليل لقصر مدته، ولكونه متعة فانية زائلة بخلاف ما أعده الله للمتقين من نعيم في الآخرة فإنه دائم لا يزول.

(١) تفسير الكشف ج ١ ص ٤٥٨.

صفحة رقم 379

وجاء العطف بثم في قوله ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ للإشعار بالتفاوت الكبير بين حالهم في الدنيا وما هم فيه من متاع زائل وبين ما سينالهم في الآخرة من عذاب دائم لا ينقطع.
أى أنهم يتمتعون بهذه المتع العاجلة لفترة قليلة ثُمَّ مَأْواهُمْ أى مكانهم الذي يأوون إليه ويستقرون فيه جَهَنَّمُ التي لا يحيط الوصف بشدة عذابها وَبِئْسَ الْمِهادُ أى بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم.
وفيه إشارة إلى أن مصيرهم إلى جهنم هم الذين كانوا سببا فيه بكفرهم واستحبابهم العمى على الهدى.
وفي هذا تعزية للمؤمنين وتسلية لهم عما يرونه من غنى وجاه وسلطان للمشركين وتحريض للأخبار على أن يجعلوا همهم الأكبر في العمل الصالح الذي يوصلهم إلى رضوان الله الباقي، ففي الحديث الشريف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم. فلينظر بم يرجع».
ثم بين- سبحانه- حسن عاقبة المؤمنين إثر بيانه لسوء عاقبة الكافرين فقال: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها.
وافتتحت الآية الكريمة بحرف «لكن» الذي معناه الاستدراك، لأن مضمونها ضد الكلام الذي قبلها. ولكي تكون هناك مقابلة بين عاقبة المشركين الفجار وبين عاقبة المؤمنين الأخيار.
والمعنى: هذا هو شأن الكافرين يتقلبون في البلاد لفترة قصيرة من الزمان هي مدة حياتهم في هذه الدنيا الفانية ثم يتركون كل شيء عند موتهم ليلاقوا مصيرهم المحتوم وهو عذاب جهنم الذي لا ينقطع.. لكن الذين اتقوا ربهم وخافوا مقامه ونهوا أنفسهم عن الهوى ليسوا كذلك فقد أعد الله لهم جنات تجرى من تحت قصورها وأشجارها الأنهار المليئة بأنواع المشارب الطيبة اللذيذة، وهم خالدون في تلك الجنات خلودا أبديا لا انقطاع له ولا زوال.. فأين مصير أولئك.
الأشرار من مصير هؤلاء الأخيار؟
فالآية الكريمة بيان لكمال حسن حال المؤمنين، إثر بيان سوء عاقبة الكافرين.
ثم قال- تعالى- نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ.
والنزل: ما يعد للنزيل والضيف لإكرامه والحفاوة به من طعام وشراب وغيرهما. وهو منصوب على أنه حال من «جنات» لتخصيصها بالوصف، والعامل فيه ما في الظرف من معنى الاستقرار.

صفحة رقم 380

أى لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها حالة كون هذه الجنات منزلا مهيئا لهم من عند الله- تعالى- على سبيل الإكرام لهم، والتشريف لمنزلتهم.
وقوله وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ أى ما عند الله من نعيم مقيم لعباده المتقين خير مما يتقلب فيه الكافرون من المتاع القليل الزائل.
ثم بين- سبحانه- أن أهل الكتاب ليسوا سواء. بل منهم الأشرار ومنهم الأخيار، وقد بين- سبحانه- هنا صفات الأخيار منهم فقال: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا.
أى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم اليهود والنصارى لفريقا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إيمانا حقا منزها عن الإشراك بكل مظاهره ويؤمن بما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن الكريم على لسان نبيكم محمد صلّى الله عليه وسلّم ويؤمن بحقيقة «ما أنزل إليهم» من التوراة والإنجيل ولا يزالون مع هذا الإيمان العميق خاشِعِينَ لِلَّهِ أى خاضعين له- سبحانه- خائفين من عقابه، طالبين لرضاه لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أى لا يبيعون آيات الله أو حقيقة من حقائق دينهم في نظير ثمن هو عرض من أعراض الدنيا الفانية، لأن هذا الثمن المأخوذ قليل حتى ولو بلغ القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.
فأنت ترى أنه- سبحانه- قد وصفهم بخمس صفات كريمة تدل على صفاء نفوسهم وطهارة قلوبهم، وفي هذا إنصاف من القرآن الكريم للمهتدين من أهل الكتاب.
وقد ذكر القرآن ما يشبه هذه الآية في كثير من سوره ومن ذلك قوله- تعالى- لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ.
وقوله- تعالى- مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ.
وقدم- سبحانه- إيمانهم بالقرآن على إيمانهم بما أنزل عليهم لأن القرآن هو المهيمن على الكتب السماوية والأمين عليها، فما وافقه منها فهو حق وما خالفه فهو باطل وقوله خاشِعِينَ لِلَّهِ حال من فاعل يُؤْمِنُ وجمع حملا على المعنى:
ثم بين- سبحانه- جزاءهم الطيب بعد بيان صفاتهم الكريمة فقال: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
أى أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة لهم أجرهم الجزيل في مقابل أعمالهم الصالحة وأفعالهم الحميدة.
وقوله إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ كناية عن كمال علمه بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق

صفحة رقم 381

وأنه يوفيها لكل عامل على ما ينبغي وقدر ما ينبغي.
ويجوز أن يكون كناية عن قرب إنجاز ما وعد من الأجر فإن سرعة الحساب تستدعى سرعة الجزاء فكأنه قيل: لهم أجرهم عند ربهم عن قريب، لأن الله- تعالى- سريع الحساب والجزاء.
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بنداء جامع للمؤمنين، دعاهم فيه إلى الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا، وَرابِطُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
والصبر معناه: حبس النفس عن أهوائها وشهواتها وترويضها على تحمل المكاره وتعويدها على أداء الطاعات.
والمصابرة: هي المغالبة بالصبر: بأن يكون المؤمن أشد صبرا من عدوه.
ورابطوا: من المرابطة وهي القيام على الثغور الإسلامية لحمايتها من الأعداء، فهي استعداد ودفاع وحماية لديار الإسلام من مهاجمة الأعداء.
والمعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على طاعة الله وعلى تحمل المكاره والآلام برضا لا سخط معه فإن الصبر جماع الفضائل وأساس النجاح والظفر.
وَصابِرُوا أى قابلوا صبر أعدائكم بصبر أشد منه وأقوى في كل موطن من المواطن التي تستلزم الصبر وتقتضيه.
قال صاحب الكشاف: وَصابِرُوا أعداء الله في الجهاد، أى غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب، ولا تكونوا أقل منهم صبرا وثباتا فالمصابرة باب من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تخصيصا لشدته وصعوبته» «١».
وَرابِطُوا أى أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدو بالترصد له، والاستعداد لمحاربته وكونوا دائما على حذر منه حتى لا يفاجئكم بما تكرهون.
ولقد كان كثير من السلف الصالح يرابطون في سبيل الله نصف العام، ويطلبون قوتهم بالعمل في النصف الآخر.
ولقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الأحاديث التي وردت في فضل المرابطة من أجل حماية ديار الإسلام، ومن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول

(١) تفسير الكشاف ج ١ ص ٤٦١.

صفحة رقم 382

الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها».
وروى مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتان» «١».
وبعضهم جعل المراد بالمرابطة انتظار الصلاة بعد الصلاة مستدلا بالحديث الذي رواه مسلم والنسائي عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة. فذلكم الرباط».
قال القرطبي: بعد أن ساق هذا الحديث-: «والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله- وأصلها من ربط الخيل، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور المسلمين مرابطا فارسا كان أو راجلا. واللفظ مأخوذ من الربط. وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «فذلكم الرباط» إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله» «٢».
ومما يدل على أن المرابطة في سبيل الله من أجل الديار الإسلامية من أفضل الأعمال وأن الصالحين الأخيار من المسلمين كانوا لا ينقطعون عنها، مما يدل على ذلك ما كتبه عبد الله بن المبارك- وهو يرابط بطرسوس- إلى صديقه الفضيل بن عياض- وكان الفضيل معتكفا بالمسجد الحرام- كتب إليه عبد الله يقول:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأ الفضيل هذه الأبيات بكى وقال: صدق عبد الله.
وقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أى اتقوا الله بأن تصونوا أنفسكم عن محارمه وعن مخالفة أمره، ورجاء أن يكتب لكم الفوز بالنصر في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة.
(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٤٤.
(٢) تفسير القرطبي ج ٤ ص ٣٢٣.

صفحة رقم 383

وبعد: فهذه سورة آل عمران، وهذا تفسير مفصل لما اشتملت عليه من توجيهات نافعة وعظات بليغة، وآداب عالية وتشريعات سامية وتربية رشيدة وعبادات قويمة وحجج تثبت الحق وتدحض الباطل.
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ونافعا لعباده.
والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أ. د. محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر

صفحة رقم 384

فهرس إجمالى لتفسير سورة «آل عمران»
رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة تعريف بسورة آل عمران/ ٥ ١/ ألم/ ١٦ ٢/ الله لا إله إلا هو/ ١٨ ٣/ نزل عليك الكتاب/ ١٩ ٤/ من قبل هدى للناس/ ٢١ ٥/ إن الله لا يخفى عليه شيء/ ٢٤ ٦/ هو الذي يصوركم/ ٢٥ ٧/ هو الذي أنزل عليك الكتاب/ ٢٦ ٨/ ربنا لا تزغ قلوبنا/ ٣٥ ٩/ ربنا إنك جامع الناس/ ٣٦ ١٠/ إن الذين كفروا/ ٣٧ ١١/ كدأب آل فرعون/ ٤٠ ١٢/ قل للذين كفروا/ ٤١ ١٣/ قد كان لكم آية في فئتين/ ٤٢ ١٤/ زين للناس حب الشهوات/ ٤٥ ١٥/ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم/ ٥١ ١٦/ الذين يقولون ربنا/ ٥٢ ١٧/ الصابرين والصادقين/ ٥٣ ١٨/ شهد الله أنه لا إله إلا هو/ ٥٤ ١٩/ إن الدين عن الله الإسلام/ ٥٧ ٢٠/ فإن حاجوك فقل/ ٥٩ ٢١/ إن الذين يكفرون/ ٦٢ ٢٢/ أولئك الذين حبطت/ ٦٤ ٢٣/ ألم تر إلى الذين أوتوا/ ٦٥

صفحة رقم 385

رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٢٤/ ذلك بأنهم قالوا/ ٦٧ ٢٥/ فكيف إذا جمعناهم/ ٦٩ ٢٦/ قل اللهم مالك الملك/ ٦٩ ٢٧ تولج الليل في النهار/ ٧٢ ٢٨/ لا يتخذ المؤمنون الكافرين/ ٧٤ ٢٩/ قل إن تخفوا ما في صدوركم/ ٧٨ ٣٠/ يوم تجد كل نفس/ ٨٠ ٣١/ قل إن كنتم تحبون الله/ ٨١ ٣٢/ قل أطيعوا الله والرسول/ ٨٢ ٣٣/ إن الله اصطفى آدم/ ٨٣ ٣٤/ ذرية بعضها من بعض/ ٨٥ ٣٥/ إذ قالت امرأة عمران/ ٨٥ ٣٦/ فلما وضعتها قالت/ ٨٧ ٣٧/ فتقبلها ربها بقبول/ ٨٩ ٣٨/ هنالك دعا زكريا/ ٩٢ ٣٩/ فنادته الملائكة/ ٩٤ ٤٠/ قال رب أنى يكون لي/ ٩٧ ٤١/ قال رب اجعل لي آية/ ٩٩ ٤٢/ وإذ قالت الملائكة يا مريم/ ١٠١ ٤٣/ يا مريم اقنتى لربك/ ١٠٣ ٤٤/ ذلك من أنباء الغيب/ ١٠٤ ٤٥/ إذ قالت الملائكة يا مريم/ ١٠٥ ٤٦/ ويكلم الناس في المهد/ ١٠٧ ٤٧/ قالت رب أنى يكون/ ١٠٩ ٤٨/ ويعلمه الكتاب/ ١١٠ ٤٩/ ورسولا إلى بنى إسرائيل/ ١١٢ ٥٠/ ومصدقا لما بين يدي/ ١١٦ ٥١/ إن الله ربي وربكم/ ١١٧ ٥٢/ فلما أحس عيسى/ ١١٧

صفحة رقم 386

رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٥٣/ ربنا آمنا بما أنزلت/ ١٢٠ ٥٤/ ومكروا ومكر الله/ ١٢١ ٥٥/ إذ قال الله يا عيسى/ ١٢١ ٥٦/ فأما الذين كفروا/ ١٢٤ ٥٧/ وأما الذين آمنوا وعملوا/ ١٢٤ ٥٨/ ذلك نتلوه عليك/ ١٢٥ ٥٩/ إن مثل عيسى عند الله/ ١٢٦ ٦٠/ الحق من ربك فلا/ ١٢٧ ٦١/ فمن حاجك فيه من بعد/ ١٢٨ ٦٢/ إن هذا لهو القصص/ ١٣١ ٦٣/ فإن تولوا فإن الله/ ١٣١ ٦٤/ قل يا أهل الكتاب تعالوا/ ١٣٢ ٦٥/ يا أهل الكتاب لم تحاجون/ ١٣٥ ٦٦/ ها أنتم هؤلاء حاججتم/ ١٣٦ ٦٧/ ما كان إبراهيم يهوديا/ ١٣٧ ٦٨/ إن أولى الناس بإبراهيم/ ١٣٧ ٦٩/ ودت طائفة من أهل الكتاب/ ١٣٨ ٧٠/ يا أهل الكتاب لم تكفرون/ ١٣٩ ٧١/ يا أهل الكتاب لم تلبسون/ ١٣٩ ٧٢/ وقالت طائفة من أهل الكتاب/ ١٤١ ٧٣/ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع/ ١٤٣ ٧٤/ يختص برحمته من يشاء/ ١٤٧ ٧٥/ ومن أهل الكتاب/ ١٤٧ ٧٦/ بلى من أوفى بعهده/ ١٥١ ٧٧/ إن الذين يشترون/ ١٥٢ ٧٨/ وإن منهم لفريقا/ ١٥٥ ٧٩/ ما كان لبشر أن/ ١٥٨ ٨٠/ ولا يأمركم أن تتخذوا/ ١٦٠ ٨١/ وإذ أخذ الله ميثاق/ ١٦٢

صفحة رقم 387

رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ٨٢/ فمن تولى بعد ذلك/ ١٦٦ ٨٣/ أفغير دين الله يبغون/ ١٦٧ ٨٤/ قل آمنا بالله وما أنزل إلينا/ ١٦٨ ٨٥/ ومن يبتغ غير الإسلام/ ١٧٠ ٨٦/ كيف يهدى الله قوما/ ١٧١ ٨٧/ أولئك جزاؤهم أن عليهم/ ١٧٣ ٨٨/ خالدين فيها لا يخفف/ ١٧٤ ٨٩/ إلا الذين تابوا/ ١٧٤ ٩٠/ إن الذين كفروا بعد/ ١٧٥ ٩١/ إن الذين كفروا وماتوا/ ١٧٧ ٩٢/ لن تنالوا البر حتى/ ١٨٠ ٩٣/ كل الطعام كان حلا/ ١٨١ ٩٤/ فمن افترى على الله/ ١٨٤ ٩٥/ قل صدق الله فاتبعوا/ ١٨٤ ٩٦/ إن أول بيت وضع للناس/ ١٨٥ ٩٧/ فيه آيات بينات/ ١٨٨ ٩٨/ قل يا أهل الكتاب لم تكفرون/ ١٩٢ ٩٩/ قل يا أهل الكتاب لم تصدون/ ١٩٤ ١٠٠/ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا/ ١٩٦ ١٠١/ وكيف تكفرون وأنتم/ ١٩٧ ١٠٢/ يا أيها الذين آمنوا اتقوا/ ١٩٨ ١٠٣/ واعتصموا بحبل الله/ ١٩٨ ١٠٤/ ولتكن منكم أمة/ ٢٠١ ١٠٥/ ولا تكونوا كالذين/ ٢٠٤ ١٠٦/ يوم تبيض وجوه/ ٢٠٦ ١٠٧/ وأما الذين ابيضت/ ٢٠٩ ١٠٨/ تلك آيات الله/ ٢١٠ ١٠٩/ والله ما في السموات وما في الأرض/ ٢١١ ١١٠/ كنتم خير أمة أخرجت/ ٢١٢

صفحة رقم 388

رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ١١١/ لن يضروكم إلا أذى/ ٢١٦ ١١٢/ ضربت عليهم الذلة/ ٢٢٢ ١١٣/ ليسوا سواء/ ٢٢٥ ١١٤/ يؤمنون بالله واليوم الآخر/ ٢٢٧ ١١٥/ وما يفعلوا من خير/ ٢٢٩ ١١٦/ إن الذين كفروا/ ٢٣٠ ١١٧/ مثل ما ينفقون في/ ٢٣٢ ١١٨/ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا/ ٢٣٣ ١١٩/ هأنتم أولاء تحبونهم/ ٢٣٧ ١٢٠/ إن تمسسكم حسنة/ ٢٣٩ ١٢١/ وإذ غدوت من أهلك/ ٢٤٤ ١٢٢/ إذ همت طائفتان/ ٢٤٦ ١٢٣/ ولقد نصركم الله ببدر/ ٢٤٨ ١٢٤/ إذ تقول للمؤمنين/ ٢٤٩ ١٢٥/ بلى إن تصبروا/ ٢٤٩ ١٢٦/ وما جعله الله إلا بشرى لكم/ ٢٥٣ ١٢٧/ ليقطع طرفا من/ ٢٥٤ ١٢٨/ ليس لك من الأمر شيء/ ٢٥٥ ١٢٩/ والله ما في السموات وما في الأرض/ ٢٥٧ ١٣٠/ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا/ ٢٥٧ ١٣١/ واتقوا النار التي/ ٢٦٠ ١٣٢/ وأطيعوا الله والرسول/ ٢٦٠ ١٣٣/ وسارعوا إلى مغفرة/ ٢٦١ ١٣٤/ الذين ينفقون/ ٢٦٣ ١٣٥/ والذين إذا فعلوا/ ٢٦٥ ١٣٦/ أولئك جزاؤهم مغفرة/ ٢٦٧ ١٣٧/ قد خلت من قبلكم/ ٢٦٩ ١٣٨/ هذا بيان للناس/ ٢٧٠ ١٣٩/ ولا تهنوا ولا تحزنوا/ ٢٧٢

صفحة رقم 389

رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ١٤٠/ إن يمسسكم قرح/ ٢٧٣ ١٤١/ وليمحص الله الذين آمنوا/ ٢٧٧ ١٤٢/ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة/ ٢٧٧ ١٤٣/ ولقد كنتم تمنون الموت/ ٢٧٩ ١٤٤/ وما محمد إلا رسول/ ٢٨١ ١٤٥/ وما كان لنفس أن تموت/ ٢٨٥ ١٤٦/ وكأين من نبي قاتل معه/ ٢٨٦ ١٤٧/ وما كان قولهم/ ٢٨٨ ١٤٨/ فآتاهم الله ثواب الدنيا/ ٢٨٩ ١٤٩/ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا/ ٢٩٠ ١٥٠/ بل الله مولاكم/ ٢٩١ ١٥١/ سنلقى في قلوب الذين كفروا/ ٢٩٢ ١٥٢/ ولقد صدقكم الله وعده/ ٢٩٤ ١٥٣/ إذ تصعدون
ولا تلوون/ ٣٠٠ ١٥٤/ ثم أنزل عليكم من بعد الغم/ ٣٠٢ ١٥٥/ إن الذين تولوا منكم/ ٣٠٧ ١٥٦/ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا/ ٣١٠ ١٥٧/ ولئن قتلتم في سبيل الله/ ٣١٣ ١٥٨/ ولئن متم أو قتلتم/ ٣١٤ ١٥٩/ فبما رحمة من الله/ ٣١٥ ١٦٠/ إن ينصركم الله فلا غالب/ ٣٢٠ ١٦١/ وما كان لنبي أن يغل/ ٣٢١ ١٦٢/ أفمن اتبع رضوان الله/ ٣٢٣ ١٦٣/ هم درجات عند الله/ ٣٢٤ ١٦٤/ لقد من الله على المؤمنين/ ٣٢٦ ١٦٥/ أو لما أصابتكم مصيبة/ ٣٢٧ ١٦٦/ وما أصابكم يوم التقى/ ٣٢٩ ١٦٧/ وليعلم الذين نافقوا/ ٣٣٠ ١٦٨/ الذين قالوا لإخوانهم/ ٣٣٣

صفحة رقم 390

رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ١٦٩/ ولا تحسبن الذين قتلوا/ ٣٣٥ ١٧٠/ فرحين بما آتاهم الله/ ٣٣٧ ١٧١/ يستبشرون بنعمة من الله/ ٣٣٨ ١٧٢/ الذين استجابوا الله والرسول/ ٣٤٠ ١٧٣/ الذين قال لهم الناس/ ٣٤١ ١٧٤/ فانقلبوا بنعمة من الله/ ٣٤٣ ١٧٥/ إنما ذلكم الشيطان يخوف/ ٣٤٤ ١٧٦/ ولا يحزنك الذين يسارعون/ ٣٤٦ ١٧٧/ إن الذين اشتروا/ ٣٤٨ ١٧٨/ ولا يحسبن الذين كفروا/ ٣٤٨ ١٧٩/ ما كان الله ليذر المؤمنين/ ٣٥٠ ١٨٠/ ولا يحسبن الذين يبخلون/ ٣٥١ ١٨١/ لقد سمع الله/ ٣٥٤ ١٨٢/ ذلك بما قدمت أيديكم/ ٣٥٧ ١٨٣/ الذين قالوا إن الله/ ٣٥٨ ١٨٤/ فإن كذبوك فقد كذب/ ٣٥٩ ١٨٥/ كل نفس ذائقة الموت/ ٣٦٠ ١٨٦/ لتبلون في أموالكم/ ٣٦٢ ١٨٧/ وإذ أخذ الله ميثاق/ ٣٦٤ ١٨٨/ لا تحسبن الذين يفرحون/ ٣٦٦ ١٨٩/ ولله ملك السموات والأرض/ ٣٦٨ ١٩٠/ إن في خلق السموات والأرض/ ٣٧١ ١٩١/ الذين يذكرون الله/ ٣٧٢ ١٩٢/ ربنا إنك من تدخل النار/ ٣٧٣ ١٩٣/ ربنا إننا سمعنا مناديا/ ٣٧٤ ١٩٤/ ربنا وآتنا ما وعدتنا/ ٣٧٥ ١٩٥/ فاستجاب لهم ربهم/ ٣٧٦ ١٩٦/ لا يغرنك تقلب الذين كفروا/ ٣٧٩ ١٩٧/ متاع قليل ثم مأواهم/ ٣٧٩

صفحة رقم 391

رقم الآية/ الآية المفسرة/ رقم الصفحة ١٩٨/ لكن الذين اتقوا ربهم/ ٣٨٠ ١٩٩/ وإن من أهل الكتاب/ ٣٨١ ٢٠٠/ يا أيها الذين آمنوا اصبروا/ ٣٨٢

صفحة رقم 392

[المجلد الثالث]

سورة النساء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد: فإن خير ما اشتغل به العقلاء، هو خدمة كتاب الله- تعالى-، الذي أنزله- سبحانه- على قلب نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- لكي يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
ولقد عنى المسلمون منذ فجر الإسلام عناية كبرى بشأن القرآن الكريم. وقد شملت هذه العناية جميع نواحيه، وأحاطت بكل ما يتصل به، وكان لها آثارها المباركة النافعة التي استفاد منها كل مظهر من مظاهر النشاط الفكرى والعملي عرفه الناس في حياتهم الروحية والمادية.
وكان من أبرز مظاهر هذه العناية بشأن القرآن الكريم، الاشتغال بتفسيره وتأويله على قدر الطاقة البشرية.
ولقد سبق لي أن كتبت تفسيرا وسيطا لسور: الفاتحة، والبقرة، وآل عمران.
ويسعدني أن أتبع ذلك بتفسير لسورة النساء، حاولت فيه أن أكتب عما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة من هدايات جامعة، وتشريعات حكيمة وتوجيهات رشيدة، وآداب سامية، من شأنها أن توصل المتمسكين بها إلى طريق السعادة في دنياهم وآخرتهم.
وقبل أن أبدأ في تفسير آيات هذه السورة الكريمة بالتفصيل والتحليل. رأيت من الخير أن أسوق بين يديها تعريفا بها، يتناول زمان نزولها، وعدد آياتها، وسبب تسميتها بهذا الاسم، ومناسبتها لما قبلها، والمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.
والله نسأل أن يوفقنا لخدمة كتابه، وأن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه، ونافعا لعباده، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد سيد طنطاوى شيخ الأزهر

صفحة رقم 5

سورة النساء
تمهيد بين يدي السورة
١- سورة النساء هي الرابعة في ترتيب المصحف. فقد سبقتها سورة الفاتحة، والبقرة، وآل عمران.
ويبلغ عدد آياتها خمسا وسبعين ومائة آية عند علماء الحجاز والبصريين، ويرى الكوفيون أن عدد آياتها ست وسبعون ومائة آية، لأنهم عدوا قوله- تعالى- أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ آية.
ويرى الشاميون أن عدد آياتها سبع وسبعون ومائة آية، لأنهم عدوا قوله- تعالى- وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً آية.
كما أنهم وافقوا الكوفيين في أن قوله- تعالى- أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ آية.
أما علماء الحجاز والبصريون فيرون أن ما ذكره الكوفيون والشاميون إنما هو جزء من آية وليس آية كاملة.
٢- وسورة النساء من السور المدنية. وكان نزولها بعد سورة الممتحنة ويؤيد أنها مدنية ما رواه البخاري عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: «ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم».
ومن المتفق عليه عند العلماء أن دخوله ﷺ على عائشة كان بعد الهجرة. وروى العوفى عن ابن عباس أنه قال: نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت.
قال الآلوسى: «وزعم بعض الناس أنها مكية. مستندا إلى أن قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها... نزلت بمكة في شأن مفتاح الكعبة. وتعقبه السيوطي بأن ذلك مستند واه، لأنه لا يلزم من نزول آية أو آيات بمكة، من سورة طويلة، نزل معظمها بالمدينة، أن تكون مكية. خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني. ومن راجع أسباب نزولها عرف الرد عليه» «١».
والحق، أن الذي يقرأ سورة النساء من أولها إلى آخرها بتدبر وإمعان، يرى في أسلوبها وموضوعاتها سمات القرآن المدني. فهي زاخرة بالحديث عن الأحكام الشرعية: من عبادات ومعاملات وحدود. وعن علاقة المسلمين ببعضهم وبغيرهم. وعن أحوال أهل الكتاب

(١) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ١٧٨ طبعة منير الدمشقي.

صفحة رقم 7

والمنافقين، وعن الجهاد في سبيل الله. إلى غير ذلك من الموضوعات التي يكثر ورودها في القرآن المدني.
ومن هنا قال القرطبي: «ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها» «١».
٣- سورة النساء سميت بهذا الاسم لأن ما نزل منها في أحكام النساء أكثر مما نزل في غيرها.
وكثيرا ما يطلق عليها اسم «سورة النساء الكبرى» تمييزا لها عن سورة أخرى عرضت لبعض شئون النساء وهي «سورة الطلاق» التي كثيرا ما يطلق عليها اسم «سورة النساء الصغرى».
٤- ومن وجوه المناسبة بين هذه السورة وبين سورة آل عمران التي قبلها: أن سورة آل عمران اختتمت بالأمر بالتقوى في قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وسورة النساء افتتحت بالأمر بالتقوى. قال- تعالى-:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ.
قال الآلوسى: «وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور. وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر: تشابه الأطراف. وقوم يسمونه بالتسبيغ. وذلك كقول ليلى الأخيلية:

إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة رواها
رواها فأرواها بشرب سجالها دماء رجال حيث نال حشاها «٢»
ومنها أن في سورة آل عمران تفصيلا لغزوة أحد. وفي سورة النساء حديث موجز عنها في قوله- تعالى-: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا.
وكما في قوله- تعالى-: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ.
ومنها: أن في كلتا السورتين محاجة لأهل الكتاب، وبيانا لأحوال المنافقين، وتفصيلا لأحكام القتال.
ومن أمعن نظره- كما يقول الآلوسى- وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها. فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك».
(١) تفسير القرطبي ج ٥ ص ١. طبعة دار الكتب المصرية سنة ١٣٥٦ هـ. سنة ١٩٣٧ م.
(٢) تفسير الآلوسى ج ٤ ص ١٧٨.

صفحة رقم 8

٥- ومن الآثار التي وردت في فضل سورة النساء، ما رواه قتادة عن ابن عباس أنه قال:
ثماني آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
أولهن: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ.
والثانية: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ. وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً.
والثالثة: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.
والرابعة: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها.
والخامسة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ.
والسادسة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
والسابعة: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ.
والثامنة: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
«١».
وكأن ابن عباس- رضى الله عنهما- قد نظر إلى ما تدل عليه هذه الآيات الكريمة من فضل الله على عباده. ورحمة بهم، وفتح لباب التوبة والمغفرة في وجوههم، وإلا فإن القرآن كله بكل سوره وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
٦- هذا، وسورة النساء تعتبر أطول سورة مدنية بعد سورة البقرة. وإنك لتقرؤها بتدبر وتفهم فتراها قد اشتملت على مقاصد عالية، وآداب سامية. وتوجيهات حكيمة، وتشريعات جليلة.
تراها تنظم المجتمع الإسلامى تنظيمة دقيقا قويما، يؤدى اتباعه إلى سعادة المجتمع واستقراره داخليا وخارجيا.
فأنت تراها في مطلعها تحض الناس على تقوى الله والخشية منه، وتبين الارتباط الإنسانى الجامع الذي تلتقي عنده البشرية جميعا.
قال- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً.
وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد، فإن هذا الاتحاد يقتضى منهم أن يكونوا

(١) تفسير ابن كثير ج ١ ص ٤٤٨، طبعة عيسى الحلبي.

صفحة رقم 9

متراحمين متعاطفين، ومن أبرز مظاهر التراحم، الأخذ بيد الضعفاء ومعاونتهم في كل ما يحتاجون إليه.
لذا نجد السورة الكريمة بعد أن تفتتح بأمر الناس بتقوى الله، تتبع ذلك بالأمر بالإحسان إلى اليتامى- الذين هم أوضح الضعفاء مظهرا- في خمس آيات في الربع الأول منها.
وهذه الآيات هي قوله- تعالى-: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ.
وقوله- تعالى-: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ.
وقوله- تعالى-: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ.
وقوله- تعالى-: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ.
وقوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً.
ولم تكتف السورة الكريمة في أوائلها بالحض على الإحسان إلى اليتامى، بل حضت- أيضا- على الإحسان إلى النساء، وإعطائهن حقوقهن كاملة.
ثم تراها بعد ذلك في الربع الثاني منها تتحدث عن التوزيع المالى للأسرة عند ما يموت واحد منها، وتضع لهذا التوزيع أحكم الأسس وأعدلها وأضبطها وتبين أن هذا التوزيع حد من حدود الله التي يجب التزامها وعدم مخالفتها.
قال- تعالى-: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ.
ثم تحدثت السورة الكريمة عن حكم النسوة اللاتي يأتين الفاحشة، وعن التوبة التي يقبلها الله- تعالى-، والتوبة التي لا يقبلها. ووجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه عن أخذ شيء من حقوق النساء، وأمرتهم بحسن معاشرتهن، كما نهتهم عن نكاح أنواع معينة منهن، لأن نكاحهن يتنافى مع شريعة الإسلام وآدابه.
قال- تعالى-: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا.
ثم تراها في الربع الثالث منها تتحدث عن المحصنات من النساء وعن حقوقهن، وبينت للناس أن الله- تعالى- ما شرع هذه الأحكام القويمة إلا لمصلحتهم ومنفعتهم.

صفحة رقم 10

استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى هذا المعنى فتقول: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً.
ثم صرحت السورة الكريمة بأن للرجال القوامة على النساء، وذكرت ضروب التأديب التي يملكها الرجل على زوجته، وكلها من غير قسوة ولا شذوذ ولا طغيان، ودعت أهل الخير إلى الإصلاح بين الزوجين إذا ما نشب بينهما نزاع أو شقاق.
قال- تعالى-: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها، إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً.
وبعد أن فصلت السورة الكريمة الحديث عما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وبين أفراد الأسرة، انتقلت في الربع الرابع منها إلى بيان العلاقة بين العبد وخالقه، وأنها يجب أن تقوم على إخلاص العبادة له- سبحانه- كما يجب على المسلم أن يجعل علاقته مع والديه ومع أقاربه ومع اليتامى والمساكين. وغيرهم، قائمة على الإحسان وعلى التعاطف والتراحم.
ثم توعدت السورة الكريمة من يشرك بالله، ويخالف أوامره بالعذاب الأليم. وبينت أن الكافرين سيندمون أشد الندم على كفرهم يوم القيامة ولكن ندمهم لن ينفعهم، لأنه جاء بعد فوات الأوان.
قال- تعالى- يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ، لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.
ثم شنت السورة الكريمة حملة عنيفة على اليهود الذين كانوا يجاورون المؤمنين بالمدينة، والذين كانوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا والذين كانوا ينطقون بالباطل ويشهدون الزور عن تعمد وإصرار، وقد بينت السورة الكريمة أن حسدهم للنبي ﷺ هو الذي دفعهم إلى افتراء الكذب على الله- تعالى- وأنهم قد طردوا من رحمة الله بسبب كفرهم وعنادهم وإيذائهم لمحمد ﷺ الذي يعرفون صدقه كما يعرفون أبناءهم.
قال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً.

صفحة رقم 11

ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك في الربع الخامس منها: الأساس الذي يقوم عليه الحكم في الإسلام، فذكرت أن العدل والأمانة هما الدعامتان الراسختان اللتان يقوم عليهما الحكم في الإسلام. ووجهت إلى المؤمنين نداء أمرتهم فيه بطاعة الله وطاعة رسوله وأولى الأمر منهم، كما أمرتهم بأن يردوا كل تنازع يحصل بينهم إلى ما يقضى به كتاب الله وسنة رسوله، لأن التحاكم إلى غيرهما لا يليق بمؤمن.
ثم أخذت السورة الكريمة في توبيخ المنافقين الذين يزعمون أنهم مؤمنون ومع ذلك يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ. وأمرت النبي ﷺ بزجرهم وبالإعراض عنهم، وأخبرته بأنهم لا إيمان لهم ما داموا لم يرتضوا حكمه.
قال- تعالى-: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
وبعد هذا التهديد والتوبيخ للمنافقين، ساقت السورة الكريمة البشارات السارة للمؤمنين الصادقين فقالت: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً.
ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن الجهاد في سبيل الله، لأن الحق يجب أن يكون هو السائد في الأرض ولأن المؤمن لا يليق به أن يستسلم للأعداء، بل عليه أن يجاهدهم وأن يغلظ عليهم حتى تكون كلمة الله هي العليا.
لذا نجد السورة الكريمة توجه إلى المؤمنين نداء تأمرهم فيه بالحذر وأخذ الأهبة لقتال أعدائهم، وتحرضهم على هذا القتال للأعداء، بأقوى ألوان التحريض وأحكمها.
فأنت تراها في الربع السادس منها تأمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، وتبشر هؤلاء المقاتلين بأنهم لن يصيبهم إلا إحدى الحسنيين، وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
وتستبعد أن يقصر المؤمنون في أداء هذا الواجب، لأن تقصيرهم يتنافى مع إيمانهم، وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ وتبين لهم أن قتالهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة الله، وقتال أعدائهم لهم إنما هو من أجل إعلاء كلمة الطاغوت.
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ، فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً.

صفحة رقم 12

وتضرب لهم الأمثال بسوء عاقبة الذين جبنوا عن القتال حين كتب عليهم وقالوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ.
وتخبرهم بأن الموت سيدرك المقدام كما يدرك الجبان فعليهم أن يكونوا من الذين يقدمون على الموت بدون جبن أو وجل مادام الجبن لا يؤخر الحياة كما أن الإقدام لا ينقصها.
قال- تعالى- أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ.
وهكذا تحرض السورة الكريمة المؤمنين على القتال في سبيل الله بأسمى ألوان التحريض وأشدها وأنفعها.
ثم عادت السورة الكريمة إلى تحذير المؤمنين من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، والذين يعوقون أهل الحق عن قتال أعدائهم، وأمرت النبي- صلى الله عليه وسلم- بأن يمضى هو ومن معه في طريق القتال من أجل إعلاء كلمة الله دون أن يلتفت إلى هؤلاء المنافقين، لأنهم لا يريدون بهم إلا الشر.
قال- تعالى-: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا.
ثم واصلت السورة في الربع السابع منها حديثها عن المنافقين، فذكرت ما ينبغي أن يعاملوا به، وكشفت عن طبائعهم الذميمة، وأخلاقهم القبيحة، ونهت المؤمنين عن اتخاذهم أولياء أو نصراء، وأمرتهم أن يضيقوا عليهم ويقتلوهم إذا ما استمروا في نفاقهم وشقاقهم وارتكاسهم في الفتنة.
قال- تعالى-: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ، وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً، فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً.
ثم تحدثت السورة عن حكم القتل الخطأ. وتوعدت من يقتل مؤمنا متعمدا بغضب الله عليه، ولعنه له، وإنزال العذاب العظيم به.
ثم أمرت المؤمنين بأن يجعلوا قتالهم من أجل إعلاء كلمة الله، لا من أجل المغانم والأسلاب، وألا يقاتلوا إلا من يقاتلهم. وبشرت المجاهدين في سبيل الله بما أعده الله لهم من درجات عالية يتميزون بها عن غيرهم من القاعدين، وتوعدت الذين يرضون الذلة لأنفسهم بسوء المصير، وذلك لأن الحق لا تعلو رايته في الأرض إلا إذا كان أتباعه أقوياء. يأبون الذل والخضوع لغير سلطان الله- تعالى-.

صفحة رقم 13

قال- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ، لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً.
ثم بشرت السورة الكريمة في مطلع الربع الثامن منها الذين يهاجرون في سبيل الله، بالخير الوفير والأجر الجزيل فقالت.
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً، وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً.
ثم أرشدت المؤمنين إلى الطريقة التي يؤدون بها فريضة الصلاة في حال جهادهم، لأن الصلاة فريضة محكمة لا يسقطها الجهاد، بل هي تقوى دوافعه، وتحسن ثماره ونتائجه.
كما أمرتهم بالإكثار من ذكر الله في كل أحوالهم، وبمواصلة جهاد أعدائهم بدون كلل أو ملل حتى تكون كلمة الله هي العليا.
قال- تعالى-: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ، فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ.
ثم بينت السورة الكريمة أن الله- تعالى- قد أنزل القرآن على نبيه ﷺ لكي يحكم بين الناس بالعدل الذي أراه الله إياه، ونهت الأمة في شخصه ﷺ عن الخيانة والميل مع الهوى ووبخت المنافقين الذين «يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، كما وبخت الذين يدافعون عنهم أو يسيرون في ركابهم. وذكرت جانبا من مظاهر عدله- سبحانه-، ورحمته الشاملة.
أما عدله فمن مظاهره أنه جعل الجزاء من جنس العمل وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ.
وأما شمول رحمته فمن مظاهرها أنه- سبحانه- فتح باب التوبة لعباده وأكرمهم بقبولها متى صدقوا فيها: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً.
ثم بينت السورة الكريمة في مطلع الربع التاسع منها أن الاستخفاء بالأقوال والأفعال عن الرسول ﷺ أكثره لا خير فيه فقالت:
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ.

صفحة رقم 14

ثم تحدثت عن الذين يؤذون رسول الله ﷺ فتوعدتهم بسوء المصير، ووبختهم على جهالاتهم وضلالاتهم وسيرهم في ركاب الشيطان الذي يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً. أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً.
ثم بينت أن الله- تعالى- لا تنفع عنده الأمانى والأنساب، وإنما الذي ينفع عنده هو الإيمان والعمل الصالح.
قال- تعالى-: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً. وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً.
ثم تحدثت السورة الكريمة عن بعض الأحكام التي تتعلق بالنساء وأمرت بالإصلاح بين الزوجين، وبينت أن العدل التام بين النساء من كل الوجوه غير مستطاع، فعلى الرجال أن يكونوا متوسطين في حبهم وبغضهم، وعليهم كذلك أن يعاشروا النساء بالمعروف وأن يفارقوهن كذلك بالمعروف وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً.
ثم وجهت السورة الكريمة في الربع العاشر منها نداء إلى المؤمنين أمرتهم فيه بأن يلتزموا الحق في كل شئونهم، وأن يجهروا به ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين، لأن العدالة المطلقة التي أتى بها الإسلام لا تعرف التفرقة بين الناس.
ثم بينت السورة الكريمة حقيقة النفاق والمنافقين وكررت تحذيرها للمؤمنين من شرورهم.
وإن أدق وصف لهؤلاء المنافقين هو قوله- تعالى- في شأنهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ، وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا.
وقد توعدهم الله بسبب نفاقهم وخداعهم بأشد ألوان العذاب فقال- سبحانه-:
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً.
ثم حكت السورة الكريمة في الربع الحادي عشر منها ما أدب الله به عباده، وما أرشدهم إليه من خلق كريم وهو منع الجهر بالسوء من القول، ولكنه- سبحانه- رخص للمظلوم أن يتكلم في شأن ظالمه بالكلام الحق. لأنه- تعالى- لا تخفى عليه خافية. قال- تعالى لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً. إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً.
ثم تحدثت عن بعض رذائل اليهود. وعن العقوبات التي عاقبهم الله بها بسبب ظلمهم وفسوقهم.

صفحة رقم 15

قال- تعالى-: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً. وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
أما في الربع الثاني عشر والأخير منها فقد تحدثت السورة الكريمة عن وحدة الرسالة الإلهية.
وبينت أن الله- تعالى- قد أوحى إلى نبيه محمد ﷺ كما أوحى إلى النبيين من قبله، وأن حكمته- سبحانه- قد اقتضت أن يرسل رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
ثم وجهت في أواخرها نداء عاما إلى الناس تأمرهم فيه بالإيمان بما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم. كما وجهت نداء آخر إلى أهل الكتاب تنهاهم فيه عن السير في طريق الضلالة، وعن الأقوال الباطلة التي قالوها في شأن عيسى، فإن عيسى كغيره من البشر من عباد الله- تعالى-، ولن يستنكف أن يكون عبدا لله- تعالى-:
ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ، وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ، وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ، فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً.
وكما تحدثت السورة الكريمة في أوائلها عن بعض أحكام الأسرة، فقد اختتمت بالحديث عن ذلك، لكي تبين للناس أن الأسرة هي عماد المجتمع، وهي أساسه الذي لا صلاح له إلا بصلاحها.
قال- تعالى-: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ، وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ، فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ، وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
هذا عرض إجمالى لبعض المقاصد السامية، والآداب العالية، والتشريعات الحكيمة، والتوجيهات القويمة التي اشتملت عليها السورة الكريمة.
ومن هذا العرض نرى أن سورة النساء- كما يقول بعض العلماء-: «قد عالجت أحوال المسلمين فيما يتعلق بتنظيم شئونهم الداخلية، عن طريق إصلاح الأسرة وإصلاح المال في ظل تشريع قوى عادل، مبنى على مراعاة مقتضيات الطبيعة الإنسانية، مجرد من تحكيم الأهواء والشهوات.
وذلك إنما يكون إذا كان صادرا عن حكيم خبير بنزعات النفوس واتجاهاتها وميولها.

صفحة رقم 16

كما عالجت أحوالهم فيما يختص بحفظ كيانهم الخارجي، عن طريق التشريعات والتوجيهات التي اشتملت عليها السورة الكريمة، والتي من شأنها أن تحفظ للأمة كيانها وشخصيتها متى تمسكت بها، وأن تجعلها قادرة على دفع الشر الذي يطرأ عليها من أعدائها.
بل إن السورة الكريمة لم تقف عند حد التنبيه على عناصر المقاومة المادية، وإنما نبهت على ما يجب أن تحفظ به عقيدة الأمة ومبادئها من التأثر بما يلقى في شأنها من الشكوك والشبه. وفي هذا إيحاء يجب على المسلمين أن يلتفتوا إليه، وهو أن يحتفظوا بمبادئهم كما يحتفظون بأوطانهم.
وأن يحصنوا أنفسهم من شر حرب أشد خطرا، وأبعد في النفوس أثرا من حرب السلاح المادي: تلك هي حرب التحويل من مبدأ إلى مبدأ، ومن دين إلى دين، مع البقاء في الأوطان والإقامة في الديار والأموال.
ألا وإن شخصية الأمة ليتطلب بقاؤها الاحتفاظ بالجانبين: جانب الوطن والسلطان.
وجانب العقيدة والإيمان. وعلى هذا درج سلفنا الصالح فعاشوا في أوطانهم آمنين. وبمبادئهم وعقائدهم متمسكين» «١».
وبعد: فهذا تمهيد بين يدي تفسير سورة النساء. تعرضنا خلاله لعدد آياتها. ولزمان نزولها.
ولسبب تسميتها بهذا الاسم. ولوجه المناسبة بينها وبين سابقتها. ولجانب من فضائلها.
وللمقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها.
ولعلنا بذلك- أخى القارئ- نكون قد قدمنا لك تعريفا لهذه السورة يعينك على تفهم أسرارها، ومقاصدها. وتوجيهاتها قبل أن نبدأ في تفسير آياتها بالتفصيل والتحليل.
والله نسأل أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه وأن يجنبنا فتنة القول والعمل. وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا ونوايانا خالصة لوجهه الكريم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(١) تفسير القرآن الكريم ص ١٧٧، ص ٢٦٦- بتصرف وتلخيص- لفضيلة الأستاذ الشيخ محمود شلتوت- رحمه الله-.

صفحة رقم 17
التفسير الوسيط
عرض الكتاب
المؤلف
محمد سيد طنطاوي
الناشر
دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية