
وفي كل هذا تلقين جليل ومنبع إلهام فياض للمؤمن المجاهد في سبيل الله والحق في كل ظرف ومكان.
وننبّه هنا كما نبّهنا في مناسبات سابقة إلى أنه لا محلّ للظن بأن الآية تدعو إلى الصبر على الإهانات والأذى والعدوان. فهذا مما قررت الآيات العديدة المكية والمدنية «١» حقّ المسلمين على مقابلته بالمثل وبذل الجهد في إرغام البغاة الظالمين وحثّهم عليه مما مرّت منه أمثلة عديدة. وإنما هي في صدد الحثّ على تحمل ما هو طبيعي الوقوع وهم يجاهدون في سبيل الله ودينه الكفار من المشركين وأهل الكتاب من خسارة في الأرواح والأموال وما قد يسمعونه من بذاءات ويلمسونه من مكائد.
ولقد استطرد المفسرون في سياق هذه الآية إلى ذكر قتل الشاعر اليهودي المذكور آنفا حيث رووا أن رسول الله قال: «اللهمّ اكفنيه، ثم قال: من لي به فقد آذاني»، فتقدم أحد أصحاب رسول الله محمد بن سلمة فقال أنا له يا رسول الله ثم أخذ بعض رفاق له وذهبوا إلى حصن اليهود وخادعوه حتى تمكنوا من قتله وحزوا رأسه وجاؤوا به إلى رسول الله. وهذا من صور السيرة النبوية التي يصحّ أن يكون فيها الأسوة. وننبّه على أن هذا الحادث لم يكن الأول فقد كان هناك شاعر يهودي بذيء آخر اسمه أبو عفك فانتدب رسول الله من قتله وكان سالم بن عمير رضي الله عنه «٢».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٩]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩).
(٢) انظر تفصيل الحادثين في طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٦٧ و ٧٠ و ٧٣، وانظر ابن هشام ج ٢ ص ٤٣٦ وانظر الطبري في تفسير الآية.

(١) بمفازة: بمنجاة.
في هذه الآيات:
١- تقرير بأن الله قد أخذ عهدا من أهل الكتاب بأن يبينوا للناس ما في كتبهم ولا يكتموا منه شيئا فنبذوا عهد الله وكتبه وراء ظهورهم وباعوها بثمن بخس فبئس ما شروه بها.
٢- وخطاب موجّه للنبي ﷺ والسامعين بالتبعية بأن لا يظنّ أحد منهم أن الذين يزهون بما ينسبونه إلى أنفسهم من صفات ومزاعم ويحبّون أن يحمدهم الناس ويمدحوهم ويوقروهم على ما لم يتحقق فيهم من صفات وما لم يصدر منهم من أقوال وأفعال تستوجب الحمد والمدح والتوقير يمكن أن ينجوا من عذاب الله.
فإنهم سوف يلقون عذابه الأليم من دون ريب. فهو مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما والقدير على كل شيء فلا يعجزه هؤلاء ولا تنطلي عليه أباطيلهم.
تعليق على الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) والآيتين التاليتين لها
في فصل التفسير من صحيح البخاري روايتان في صدد ومناسبة الآيتين [١٨٧ و ١٨٨] جاء في أولاهما عن أبي سعيد: «أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله ﷺ إلى الغزو تخلّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت». وجاء في ثانيتهما عن ابن عباس: «أن النبي ﷺ دعا يهود فسألهم عن شيء فكتموه إيّاه

وأخبروه بغيره وأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ الآيتين [١٨٧ و ١٨٨] » «١».
وهناك روايات أخرى عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم لم ترد في الصحاح. منها ما يذكر أن الآية [١٨٧] نزلت في حق اليهود والنصارى أو في حق اليهود خاصة لكتمانهم صفات رسول الله الواردة في كتبهم وما يذكر أن الآية الثانية نزلت في فريق من اليهود قالوا للنبي إنهم يؤمنون به كذبا وخداعا.
وفي حديثي البخاري تعارض حيث يبدو من حديث أبي سعيد أن الآية [١٨٧] نزلت في غير ما نزلت فيه الآيتان حسب حديث ابن عباس. والذي يتبادر لنا أن الحديثين والروايات هي من قبيل التخمين والتطبيق وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد للثانية. وهما منسجمتان وتبدوان وحدة كاملة. وأنهما إلى هذا غير منقطعتين عن الآيات السابقة. وفيهما استمرار على التنديد باليهود الذين هم موضوع الحديث. مع القول إنه قد يكون حدث حادث أو موقف من نوع ما ذكر في حديث ابن عباس والروايات قبل نزول الآيات. أما الآية الثالثة فقد جاءت لتقرير قدرة الله تعالى على تحقيق ما وعد به من عذاب الذين يكتمون كتابه ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
ولقد قال الطبري إن إطلاق العذاب يحتمل أن يكون العذاب المنذر به دنيويا وأخرويا معا. ولا يخلو هذا من وجاهة ولقد أنذر الله اليهود في آيات كثيرة في سور سبق تفسيرها بخزي ونكال وذلّ وعذاب في الدنيا وتحقق فضلا عما سوف ينالونه من عذاب في الآخرة.
ولقد أدار المفسرون الكلام على الآيتين على اعتبار أنهما شاملتا التلقين للمسلمين أيضا وأوردوا في صدد ذلك بعض الأحاديث. وهذا سديد يلهمه إطلاق

العبارة فيهما أولا وكون المسلمين قد صاروا بالقرآن من الذين أوتوا الكتاب بالمعنى العام ثانيا. فضلا عن أن كل ما فيه تلقين أخلاقي واجتماعي في القرآن بالنسبة للسابقين يصحّ أن يكون فيه مثل ذلك للمسلمين مما ذكرناه في مناسبات كثيرة ومماثلة.
ولقد احتوت كل من الآيتين أمرين من ذلك ففي الأولى:
أولا: نعي على نبذ الميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب ببيان ما فيه وعدم كتمانه.
ثانيا: نعي على إساءتهم استعماله في ما يعود عليهم بالمنافع العاجلة والأغراض الخسيسة.
وفي الثانية:
أولا: نعي على الذين يزهون ويتبجحون بما يأتونه.
وثانيا: نعي على الذين يحبون أن ينالوا الحمد على شيء لم يفعلوه.
والتلقين يدور في نطاق سلبي ونطاق إيجابي معا من حيث إنه يشنّع على ما تنعى عليه الآيتان من أفعال وأخلاق ويستنكرها من جهة ويلزم الذين أوتوا الكتاب ببيان ما أوتوه والالتزام به قولا وعملا من جهة أخرى.
والمتبادر أن جملة وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ تعبير أسلوبي بمعنى أن الذين أوتوا الكتاب صاروا تلقائيا ملزمين ببيان ما فيه للناس وعدم كتمانه ثم العمل به. وقد يزيد هذا من عظم مسؤوليتهم وخطورة تصرفهم ومواقفهم سلبا وإيجابا.
ولقد روى الخازن قولا لأبي هريرة جاء فيه: «لولا ما أخذ الله عزّ وجلّ على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء. ثم تلا الآية». كما روي عن الحسن بن عمارة قال: «أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت أريد أن تحدثني فقال أما علمت أني تركت الحديث فقلت إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. فقال

حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عيينة عن يحيى بن الخراز قال سمعت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا قال فحدثني أربعين حديثا». وفي هذا تساوق مع ما قررناه من المتبادر من الجملة. وفيه تفسير لجملة أُوتُوا الْكِتابَ بمعنى (أوتوا العلم) أيضا وهو تفسير سديد مؤيد بما جاء في القرآن من ترادف بين الكلمتين في آيات كثيرة منها ما ورد في سور سبق تفسيرها. ويسوغ القول إن الذين أوتوا العلم إطلاقا مخاطبون بما في الآيات من تلقينات إيجابية وسلبية. ويكون فيها والحالة هذه تلقينات متصلة بآداب العلم والعلماء وواجباتهم وسلوكهم شخصيا واجتماعيا وخلقيا وعلميا والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض أحاديث نبوية فيها ما يفيد أن هذا المفسر قد أخذ بذلك التفسير واعتبر ما في الآيات تلقينات شاملة للعلماء وآدابهم وواجباتهم وسلوكهم وهو متسق مع ما قلناه آنفا. من ذلك حديث قال إنه مروي بطرق عديدة. وقد رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النصّ: «من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة» «١».
ولقد تطرق رشيد رضا في سياق تفسير الآية [١٨٧] إلى تزلف العلماء لأصحاب السلطان ومداهنتهم لهم. وما في ذلك من تورّط في الارتكاس في ما نصّت عليه الآية. وأورد بعض الأحاديث منها حديث عن أنس نعته بالمشهور.
وقال رواه العقيلي في المصنف والحسن بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الحلية وقال السيوطي إن له شواهد فوق الأربعين والراجح أنه عن النبي ﷺ وقد جاء فيه:

«العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم» «١». وحديث عن ابن عباس عن النبي قال نقلا عن السيوطي إنه رواه ابن ماجه بسند رواته ثقات جاء فيه: «إنّ أناسا من أمتي يتفقهون في الدين ويقرأون القرآن ويقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم ونعتزلهم بديننا ولا يكون ذلك. كما لا يجتنى من القتاد إلّا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلّا الخطايا». وحديث رواه معاذ بن جبل وأخرجه الحاكم جاء فيه: «إذا قرأ الرجل القرآن وتفقّه في الدين ثم أتى باب السلطان تملّقا إليه وطمعا بما في يده خاض بقدر خطاه في نار جهنّم». وحديث رواه الديلمي جاء فيه:
«سيكون في آخر الزمان علماء يرغّبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويزّهدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينهون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون».
وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. ولكن ما فيها من حيث الموضوع لا يخلو من الحق والسداد. ومع ذلك فإن الموضوع يتحمل شيئا من البيان. فالعلماء طائفة مهمة من المسلمين، عليها واجبات ولها حقوق عامة وخاصة ولا بد لها بسبيل ذلك من الاتصال بأصحاب السلطان. فالمتبادر أن المكروه الذي يقع تحت طائلة نهي الآية والأحاديث هو إعانة العالم للسلطان الجائر الشاذّ المنحرف.
وإقراره على جوره وشذوذه وانحرافه ومداهنته ومخالطته وغشيانه رغم ذلك ابتغاء منافع الدنيا الخسيسة. وهناك حديث صحيح يرويه رشيد رضا في السياق وموجه إلى المسلمين جميعهم وليس إلى علمائهم يصحّ أن يكون ضابطا وقد رواه النسائي والترمذي عن كعب بن مجرة قال: «خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن تسعة فقال إنه ستكون بعدي أمراء من صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه وليس بوارد عليّ الحوض. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وهو وارد عليّ الحوض».
الجزة السابع من التفسير الحديث ١٩