آيات من القرآن الكريم

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ

٤- لا اطمئنان إلى نعيم الدنيا ولا إلى إعراضها وفقدها، فالناس فيها في مرصد الاختبار والابتلاء في الأموال بالمصائب والأحداث، والإنفاق في سبيل الله، وسائر تكاليف الشرع، وفي الأنفس بالموت والأمراض، وفقد الأحباب.
وقد يتأذى المؤمن بطعن في قرآنه ودينه ونبيه، فعليه الصبر والاعتصام بالتقوى، والإعراض عن الطاعنين الكافرين، والثبات على العقيدة، وتحمل الشدائد والقتال في سبيل الله عند اللزوم، فقد ندب الله عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من معزوماتها التي ينبغي أن يعزمها كل أحد، وهي دليل على قوة الإرادة، ومضاء العزيمة، وعلو الهمة. قال القرطبي: عزم الأمور: شدها وصلابتها.
والأظهر أن هذه الآية- كما ذكر القرطبي- ليست بمنسوخة، فإن الجدال بالأحسن والمداراة أبدا، مندوب إليها، وكان عليه الصلاة والسلام مع الأمر بالقتال يوادع اليهود ويداريهم، ويصفح عن المنافقين «١».
أخذ الميثاق على أهل الكتاب بالبيان للناس ومحبتهم المدح بغير موجب
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٧ الى ١٨٩]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)

(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٣٠٤

صفحة رقم 196

الإعراب:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ هذه القراءة بالتاء، ويكون الَّذِينَ يَفْرَحُونَ منصوبا على أنه مفعول أول، وحذف المفعول الثاني لدلالة ما بعده عليه وهو قوله بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ ويكون قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بدلا من لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ والفاء زائدة، فلا تمنع البدل، وهذا على هذه القراءة وعلى قراءة من قرأ بالياء.
ومن قرأ: (يحسبن) بالياء جعل الَّذِينَ يَفْرَحُونَ في موضع رفع فاعل، والَّذِينَ: اسم موصول، ويَفْرَحُونَ: صلته، و «هم» من قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ المفعول الأول. وبِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ: في موضع المفعول الثاني، وتقديره: فائزين. ومن قرأ الأول بالياء والثاني بالتاء فلا يجوز فيه البدل لاختلاف فاعليهما، ولكن يكون مفعولا الأول قد حذفا لدلالة مفعولي الثاني عليهما.
البلاغة:
فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا توجد استعارة في النبذ والاشتراء، إذ شبه عدم التمسك بالميثاق بالشيء المنبوذ الملقى، وشبه العمل بالبديل باشتراء عوض قليل من أموال الدنيا، مقابل كتم آيات الله.
وتوجد مقابلة بين لَتُبَيِّنُنَّهُ ووَ لا تَكْتُمُونَهُ.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ اذكر إذ أخذ مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد، وهو العهد المأخوذ عليهم في التوراة بواسطة الأنبياء. أُوتُوا الْكِتابَ هم اليهود والنصارى. لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار بما فيها خبر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حتى يعرفه الناس على وجهه الصحيح. وَلا تَكْتُمُونَهُ أي لا تخفون الكتاب. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ طرحوا الميثاق ولم يعتدّوا به.
وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أخذوا بدله من الدنيا عوضا حقيرا، بسبب رياستهم في العلم، فكتموه. فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ شراؤهم هذا.

صفحة رقم 197

أَتَوْا بما فعلوا في إضلال الناس. أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا أن يحمدهم الناس بما لم يفعلوا من التمسك بالحق، وهم على ضلال. فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد. بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي بمنجاة من العذاب في الآخرة، بل هم في مكان يعذبون فيه وهو جهنم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم فيها.
سبب النزول: نزول الآية (١٨٨) :
لا تَحْسَبَنَّ: روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف: أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا، لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم وهذه؟ إنما نزلت هذه الآية في أهل الكتاب، سألهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أنهم قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.
وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو، تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، فإذا قدم اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت الآية: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية.
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان، فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية:
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا؟ قال رافع: نزلت في ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم اعتذروا وقالوا: ما حسبنا عنكم إلا شغل، فلوددنا أنا معكم، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وكان مروان أنكر ذلك، فجزع رافع من ذلك، فقال

صفحة رقم 198

لزيد بن ثابت: أنشدك بالله، هل تعلم ما أقول؟ قال: نعم.
قال الحافظ ابن حجر: يجمع بين هذا وبين قول ابن عباس بأنه يمكن أن تكون نزلت في الفريقين معا.
المناسبة:
تحدثت سورة آل عمران عن أهل الكتاب، فناقشت النصارى، وحكت أفعالا غريبة عن اليهود ومطاعن في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، واستتبع ذلك بيان غزوتي أحد وبدر، وهنا ذكرت الآيات حالا عجيبة لليهود والنصارى وهي الطعن في الدين، مع أنهم أمروا ببيان ما في كتابهم (التوراة والإنجيل) من دلائل ناطقة بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدق رسالته.
التفسير والبيان:
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينوهوا بذكره في الناس، فيكونوا على أهبة من أمره، فكتموا ذلك، وأخذوا عوضا زهيدا عنه، وفاتهم ما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم.
وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم، فيصيبهم ما أصابهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا،
فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار» «١».
وبيان معنى الآية: اذكر يا محمد حين أخذ الله العهد المؤكد (الميثاق) على أهل الكتاب من اليهود والنصارى بوساطة الأنبياء: أن يبينوا كتابهم للناس

(١) رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم عن أبي هريرة.

صفحة رقم 199

ويظهروه من غير كتمان شيء منه، وألا تحريف أو تأويل لبعض نصوصه، وتبيانه للمؤمنين به لهدايتهم وإرشادهم، ولغير المؤمنين به لدعوتهم إليه.
لكنهم نبذوا كتابهم وراء ظهورهم، وتركوا التوراة والإنجيل، وكان منهم فئة يحملونه دون فهم ولا وعي لما جاء فيه، وفئة أخرى حرّفوه وأولوه على غير وجهه الصحيح، واشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا، أي أخذوا عوضا عنه فائدة دنيوية حقيرة كالشهرة الزائفة، والرياسة الظاهرة، والمال الزائل، فكانوا في الحقيقة مغبونين في هذا البيع أو المبادلة، إذ تركوا الغالي الثمين في الدنيا والآخرة وهو الخير الذي وعدوا به، وأخذوا التافه الحقير، وهو الرشاوى والهبات والمنح المالية ليحافظوا على كيانهم ومراكزهم.
فبئس الشيء المشترى من شرائهم لأنهم جعلوا الفاني بدلا من النعيم الدائم.
وهذا يدل على وجوب نشر العلم وتعليمه للناس، قال علي كرّم الله وجهه:
ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا. وقال الحسن البصري: لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه.
ثم بيّن تعالى موقف المرائين المتكثرين من أهل الكتاب والمنافقين بما لم يعطوا،
كما جاء في الصحيحين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها، لم يزده الله إلا قلّة»
وفي الصحيحين أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور».
هذه حال أخرى من أحوال أهل الكتاب وغيرهم، ليحذر الله المؤمنين منها، فلا تظنن يا محمد أن الذين موّهوا الحقائق، وكتموا العلم الصحيح ودلّسوا عليك، وفرحوا بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب، ورأوا لأنفسهم شرفا فيه وفضلا يستحقون أن يحمدوا بأنهم حفّاظ الكتاب ومفسروه، ويشكروا على شيء بغير

صفحة رقم 200

موجب ولا داع للشكر، أو على أنهم أخبروك بالصدق عما سألتهم عنه، أو على ما فعل المنافقون في التخلف عن الغزو (الجهاد) وجاؤوا به من العذر، وكل ما فعلوا أنهم حولوا الحق والنور والهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وعامة الناس.
فهؤلاء لا تظنن أنهم ناجون من العذاب، بل لهم عذاب أليم شديد الألم في الدنيا بالخذلان والخسف والزلزال والطوفان وغير ذلك من الجوائح والمصائب العامة المدمرة، وفي الآخرة بحشرهم في جهنم جزاء إفكهم وتحريفهم وتبديلهم وتغييرهم كتاب الله. وذلك كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود ١١/ ١٠٢].
ثم كان قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ احتجاجا على الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ، وتكذيبا لهم، فقال للمؤمنين: ولا تحزنوا أيها المؤمنون على عمل أهل الكتاب وعلى ما فاتكم من نصر، ولا تضعفوا عن القيام بالواجب، وبينوا الحق ولا تكتموا منه شيئا، ولا تأخذوا عن حكم الله الصحيح عوضا مهما كثر، فإنه قليل، ولا تفرحوا على ما لم تعملوا، فإن الله يكفيكم همومكم وينصركم على أعدائكم، ويمدكم بالخير والفضل لأنه تعالى مالك كل شيء، والقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا غضبه ونقمته، فإنه الأعظم والأقدر من كل شيء في هذا الوجود.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات توبيخا، وتحذيرا، واحتجاجا وتكذيبا.
فهي توبيخ لأهل الكتاب الذين أمروا بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وبيان أمره، فكتموا نعته. ويفهم من هذه الآية واجبات ثلاثة: توضيح العلماء كتاب الله وإفهامه للناس وإظهار ما فيه من عظة وأسرار في الأحكام العامة والخاصة، وتبيين الدين للمسلمين حتى يفهموه على حقيقته ويعرفوا أنه طريق

صفحة رقم 201
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية