
أَنْفُسِهِمْ
وفي هذا توكيد لشأنية العرب في الرسالة الإسلامية وكونهم حملتها لأنهم أول المخاطبين بها والمتلقين كتاب الله عن رسوله مباشرة والسامعين لتعليمه وحكمته. ولقد انطوت هذه المعاني في آيات سابقة أيضا «١». وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت توكيدها في هذا المقام بسبب ما ألمّ بالمسلمين من وقعة أحد لتهدأ نفوسهم وتسكن قلوبهم.
ولقد قرأ بعضهم أنفسهم هنا وأنفسكم في آية سورة التوبة هذه لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) بفتح الفاء من النفاسة أو النبل بحيث يكون معنى الكلمة أن النبي من أنفس وأنبل أروماتهم. ومع أن هذا مما وردت فيه أحاديث صحيحة أوردناها في سياق تفسير آية النحل [١١٣] فإن الجمهور على قراءة الفاء بالضمّ كجمع للنفس. وقد يدعم صواب هذه القراءة آيات سورة البقرة [١٢٩ و ١٥١] والنحل [١١٣] والجمعة [٢] التي ورد فيها تعبيرات منهم ومنكم من مقام من أنفسكم وأنفسهم. كما يدعمها ما روي عن ابن عباس وأوردناه في سياق آية سورة النحل كتوضيح لذلك. وهذا الاستدراك ليس في مقام نفي ما وردت به الأحاديث من كون النبي خير البشر أسرة وعشيرة وقبيلة وبطنا مما ورد في تلك الأحاديث كما هو واضح.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٨]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨).

(١) أنّى هذا: كيف وقع هذا أو لماذا وقع.
(٢) فادرأوا: فامنعوا.
تضمنت الآيات:
١- حكاية لتساؤل بعض المسلمين تساؤل المتألم المستنكر عما وقع عليهم من المصيبة في يوم أحد.
٢- وأمر للنبي بإجابتهم أولا بأن ما أصابهم في هذا اليوم هو نصف ما أصاب أعداءهم في يوم بدر فلا موجب لهذا الجزع الذي يظهرونه، وثانيا بأن ما كان إنما وقع بسبب تصرفهم. وينطوي في الجواب- استلهاما من جملة إن الله على كل شيء قدير- أن ما كان ليس هو إخلافا من الله بوعده بالنصر ولا عجزا منه عن نصرهم فهو قدير على كل شيء، وثالثا بأن ما كان إنما كان كذلك بإذن الله حتى يمتاز المؤمنون من المنافقين ويظهر كل منهم على حقيقته.
٣- وإشارة استطرادية إلى موقف المنافقين. فقد قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو اشتركوا في الدفاع عن بلدكم وأعراضكم وأموالكم فلم يلبوا وقالوا إنّا لا نتوقع قتالا ولو كنا متأكدين من ذلك لا تبعناكم.
٤- وتنفيد لقولهم وأفعالهم: فهم إنما يقولون ذلك بأفواههم ويضمرون في قلوبهم خلافه مما يعلمه الله وهو الأعلم بما يضمرون ولقد كانوا في هذا الموقف أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان. ثم إنهم لم يكتفوا بالقعود عن القتال وخذل إخوانهم بل أخذوا بعد الوقعة يثيرون في نفوسهم المرارة ويظهرون فيهم الشماتة حيث أخذوا يقولون لهم لو أطعتمونا ولم تخرجوا مثلنا لما قتل منكم من قتل ولما أصابكم ما أصابكم.
٥- وأمر للنبي ﷺ بتحديهم بدفع الموت عن أنفسهم إن كانوا صادقين فيما يقولون تحدّيا منطويا على التهكم والإلزام.

تعليق على الآية أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ | إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [١٦٨] |
والمتبادر أنها استمرار للسياق. وقد احتوت شيئا من العتاب وكثيرا من التسكين والتطمين والتهوين وحملة على المنافقين. بالإضافة إلى بعض مشاهد الوقعة وموقف المنافقين فيها.
ومن الإعجاز القرآني أن تكون صورة المنافقين التي رسمتها الآيات كثيرا ما تتكرر وتظهر في ظروف النضال مع البغاة والظالمين وفي الأزمات الحرجة التي تواجهها الأمم والجماعات في سبيل الحق والعقيدة والكرامة. ومن الطبيعي أن يكون ما في الآيات من تشنيع وتقبيح لا حقين بأصحاب مثل هذه الصورة في كل ظرف وأن يكون في الآيات من هذا الاعتبار تلقين جليل مستمر المدى.
وفيما حكته الآيات عن دعوة المنافقين إلى القتال في سبيل الله أو في سبيل الدفاع عن بلدهم وجوابهم وفي جملة الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا كوصف لهم دليل قرآني على أنهم لم يخرجوا مع الخارجين إلى لقاء قريش عند جبل أحد كما روى المفسرون وكتّاب السيرة ذلك وذكرناه قبل. والمتبادر أن كبير المنافقين لما أشار مع بعض أشياعه على النبي بالبقاء في المدينة وعدم الخروج ثم عمل النبي بما أشار به أكثر المسلمين قال أطاعهم وعصاني وأظهر السخط وقعد مع أشياعه.
ولقد روى ابن سعد رواية «١» جاء فيها أن النبي بعد أن جاوز ثنية الوداع مع