
المنَاسَبَة: لا تزال الآيات تتحدث عن غزوة أُحد، فقد ذكر تعالى فيما سبق انهزام المسلمين وما أصيبوا به من غمّ واضطراب، وأرشدهم إِلى موطن الداء ووصف لهم الدواء، وفي هذه الآيات الكريمة اشادة بالقيادة الحكيمة، فمع مخالفة بعض الصحابة لأوامر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد وسعهم عليه السلام بخلقه الكريم وقلبه الرحيم، ولم يخاطبهم بالغلظة والشدة وإِنما خاطبهم باللطف واللين، وذلك اجتمعت القلوب حول دعوته، وتوحّدت تحت قيادته، والآيات تتحدث عن أخلاق النبوة، وعن المنّة العظمى ببعثة الرسول الرحيم والقائد الحكيم وعن بقية الأحداث الهامة في تلك الغزوة.
اللغَة: ﴿فَظّاً﴾ الفظُّ: الغليظ الجافي قال الواحدي هو الغليظ سيئ الخلق قال الشاعر:
أخشى فظاظة عمٍّ أو جفاء أخٍ | وكنتُ أخشى عليها من أذى الكلم |
يُبكَى علينا ولا نبكي على أحدٍ؟ | لنحن أغلظُ أكباداً من الإِبل |

الفعل لأنَّ المراد أنه لا يتأتّى ولا يصحُّ أن يُتصوّر فضلاً عن أن يحصل ويقع ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة﴾ أي ومن يُخن من غنائم المسلمين شيئاً يأت حاملاً له على عنقه يوم القيامة فضيحةً له على رءوس الأشهاد ﴿ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ﴾ أي تعطى جزاء ما عملت وافياً غير منقوص ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ أي تنال جزاءها العادل دون زيادة أو نقص، فلا يزاد في عقاب العاصي، ولا ينقص من ثواب المطيع ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله﴾ أي لا يستوي من أطاع الله وطلب رضوانه، ومن عصى الله فاستحق سخطه وباء بالخسران ﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير﴾ أي مصيره ومرجعه جهنم وبئست النار مستقراً له ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله﴾ أي متفاوتون في المنازل قال الطبري: هم مختلفوا المنازل عند الله، فلمن اتبع رضوان الله الكرامةُ والثواب الجزيل، ولمن باء بسخطٍ من الله المهانةُ والعقاب الأليم ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي لا تخفى عليه أعمال العباد وسيجازيهم عليها، ثمَّ ذكّر تعالى المؤمنين بالمنّة العظمى عليهم ببعثة خاتم المرسلين فقال ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي والله لقد أنعم الله على المؤمنين حين أرسل إِليهم رسولاً عربياً من جنسهم، عرفوا أمره وخبروا شأنه، وخصَّ تعالى المؤمنين بالذكر وإِن كان رحمة للعالمين، لأنهم هم المنتفعون ببعثته ﴿يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ أي يقرأ عليهم الوحي المنزل ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يطهرهم من الذنوب ودنس الأعمال ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾ أي يعلمهم القرآن المجيد والسنة المطهرة ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ أي وإِنه الحال والشأن كانوا قبل بعثته في ضلال ظاهر، فنقلوا من الظلمات إِلى النور، وصاروا أفضل الأمم ﴿أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ﴾ أي أو حين أصابتكم أيها المؤمنون كارثةٌ يوم أحد فقُتل منكم سبعون ﴿قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا﴾ أي في بدر حيث قتلتم سبعين وأسرتم سبعين ﴿قُلْتُمْ أنى هذا﴾ أي من أين هذا البلاء، ومن أين جاءتنا الهزيمة وقد وعدنا بالنصر، وموضع التقريع قولهم ﴿أنى هذا﴾ مع أنهم سبب النكسة والهزيمة ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي قل لهم يا محمد: إِن سبب المصيبة منكم أنتم بمعصيتكم أمر الرسول وحرصكم على الغنيمة ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا رادّ لِقضائه ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله﴾ أي وما أصابكم يوم أُحد، يوم التقى جمع المسلمين وجمع المشركين فبقضاء الله وقدره وبإِرادته الأزلية وتقديره الحكيم، ليتميّز المؤمنون عن المنافقين ﴿وَلِيَعْلَمَ المؤمنين﴾ أي ليعلم أهل الإِيمان الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا﴾ أي وليعلم أهل النفاق كعبد الله بن أُبي ابن سلول وأصحابه الذين اتخذلوا يوم أُحد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورجعوا وكانوا نحواً من ثلاثمائة رجل فقال لهم المؤمنون: تعالوا قاتلوا المشركين معنا أو ادفعوا بتكثيركم سوادنا ﴿قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ﴾ أي قال المنافقون لو نعلم أنك تلقون حرباً لقاتلنا معكم، ولكن لا نظن أن يكون قتال ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ﴾ أي بإِظهارهم هذا القول صاروا أقرب إِلى الكفر منهم إِلى الإِيمان ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي يظهرون خلاف ما يضمرون {والله أَعْلَمُ بِمَا
صفحة رقم 220
يَكْتُمُونَ} أي بما يخفونه من النفاق الشرك ﴿الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ﴾ أي وليعلم الله أيضاً المنافقين الذين قالوا لإِخوانهم الذين هم مثلهم وقد قعدوا عن القتال ﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ أي لو أطاعنا المؤمنون وسمعوا نصيحتنا فرجعوا كما رجعنا ما قتلوا هنالك ﴿قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي قل يا محمد لأولئك المنافقين إن كان عدم الخروج ينجي من الموت فادفعوا الموت عن أنفسكم إِن كنتم صادقين في دعواكم، والغرض منه التوبيخ والتبكيت وأن الموت آتٍ إِليكم ولو كنتم في بروج مشيدة.
البَلاَغَة:
١ - ﴿إِن يَنصُرْكُمُ | وَإِن يَخْذُلْكُمْ﴾ بينهما مقابلة وهي من المحسنات البديعية. |
٣ - ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ﴾ أي ما صح ولا استقام والنفي هنا للشأن وهو أبلغ من نفي الفعل.
٤ - ﴿أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله﴾ قال أبو حيان: «هذا من الاستعارة البديعة جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئاً فنكص عن اتباعه ورجع بدونه».
٥ - ﴿بِسَخَطٍ مِّنَ الله﴾ التنكير للتهويل أي بسخط عظيم لا يكاد يوصف.
٦ - ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ﴾ على حذف مضاف أي ذوو درجات متفاوتة، فالمؤمن درجته مرتفعة والكافر درجته متضعة.
٧ - ﴿لِلْكُفْرِ... لِلإِيمَانِ﴾ بينهما طباق وكذلك بين ﴿يُبْدُونَ.... يُخْفُونَ﴾ [آل عمران: ١٥٤].
٨ - ﴿أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ﴾ بينهما جناس الاشتقاق، وهو من المحسنات البديعية.
تنبيه: في هذه الآية ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ﴾ دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق، ومن عجيب أمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كان أجمع الناس لدواعي العظمة ثم كان أدناهم إِلى التواضع، فكان أشرف الناس نسباً وأوفرهم حسباً وأزكاهم عملاً وأسخاهم كرما وأفصحهم بياناً وكلها من دواعي العظمة، ثم كان من تواضعه عليه السلام أنه كان يرقع الثوب ويخصف النعل ويركب الحمار ويجلس على الأرض ويجيب دعوة العبد المملوك فصلوات الله وسلامه على السراج المنير بحر المكارم والفضائل.
فَائِدَة: التوكل على الله من أعلى المقامات لوجهين: أحدهما محبة الله للعبد ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين﴾ والثاني الضمان في كنف الرحمن ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [آل عمران: ٣]. صفحة رقم 221