آيات من القرآن الكريم

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ
ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ ﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴ ﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ ﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ

للإيذان بأن كل واحد من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في قوله تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: ١٢٩] لتبادر إلى الفهم عدّ الجميع نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن- بالآيات- تارة- وبالكتاب والحكمة- أخرى رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة قاله مولانا شيخ الإسلام، وقد يقال: المراد من تلاوة الآيات تلاوة ما يوحى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الآيات الدالة على التوحيد والنبوة ومن التزكية الدعاء إلى الكلمة الطيبة المتضمنة للشهادة لله تعالى بالتوحيد ولنبيه عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وبتعليم الكتاب تعليم ألفاظ القرآن وكيفية أدائه ليتهيأ لهم بذلك إقامة عماد الدين، وبتعليم الحكمة الإيقاف على الأسرار المخبوءة في خزائن كلام الله تعالى، وحينئذ أمر ترتيب هذه المتعاطفات ظاهر إذ حاصل ذل كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يمهد سبل التوحيد ويدعو إليه ويعلم ما يلزم بعد التلبس به ويزيد على الزبد شهدا فتقديم التلاوة لأنها من باب التمهيد ثم التزكية لأنها بعده وهي أول أمر يحصل منه صفة يتلبس بها المؤمنون وهي من قبيل التخلية المقدمة على التحلية لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، ثم التعليم لأنه إنما يحتاج إليه بعد الإيمان، بقي أمر تقديم التعليم على التزكية في آية البقرة ولعله كان إيذانا بشرافة التحلية كما أشرنا إليه هناك فتأمل وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبل بعثة الرسول لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر وَإِنْ هي المخففة واللام هي الفارقة، والمعنى إن الشأن كانوا من قبل إلخ.
وإلى هذا ذهب بعض المحققين، وذكر مثله مكي إلا أنه قال: التقدير وأنهم كانوا من قبل فجعل اسمها ضميرا عائدا على المؤمنين، قال أبو حيان: وكلا الوجهين لا نعرف نحويا ذهب إليه وإنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت: إن زيدا قائم ثم خففت. فمذهب البصريين فيها وجهان: أحدهما جواز الأعمال ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددة- إلا أنها لا تعمل في مضمر، ومنع ذلك الكوفيون- وهم محجوبون بالسماع الثابت من لسان العرب- والوجه الثاني وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل لا في ظاهر ولا مضمر لا ملفوظ ولا مقدر البتة فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ولزمت اللام في ثاني مصحوبيها إن لم ينف، وفي أولهما إن تأخر، فتقول: إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيدا قائم، وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من نواسخ الابتداء، وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم.
وأجاب الحلبي عمن قدر الشأن بأنه تفسير معنى لا بيان إعراب، وقال عصام الملة: إن الشأن لم يرد تقدير ضمير الشأن بل جعل الجملة حالا بتأويل القصة ذلك لئلا يختلف زمان الحال والعامل فإن زمان الكون في ضلال مبين قبل زمان التعليم لكن كون القصة ذلك مستمر، ثم قال: وهذا تأويل شائع مشهور في الحال الذي يتقدم زمان تحققه زمان تحقق العامل فاحفظه ولا تلفظه انتهى، وأنت تعلم أن ما ذكره الحلبي خلاف الظاهر، وكلام عصام الملة منظور فيه لأن المناسب لما ذكره على تقدير تعينه تقدير الشأن قبل- أن- لا بعدها كما لا يخفى، وجوز بعضهم كون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والأكثرون على الحالية، وعلى التقديرين فهي مبينة لكمال النعمة وتمامها، وقوله تعالى:

صفحة رقم 326

أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا كلام مبتدأ مسوق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة إثر إبطال بعض آخر، والهمزة للتقريع والتقرير، والواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها، ولَمَّا ظرف بمعنى حين مضافة إلى ما بعدها مستعملة في الشرط- كما ذهب إليه الفارسي- وهو الصحيح عند جمع من المحققين وناصبها قُلْتُمْ وهو الجزاء قَدْ أَصَبْتُمْ في محل الرفع على أنه صفة- لمصيبة- وجعله في محل نصب على الحال يحتاج إلى تكلف مستغنى عنه، والمراد بالمصيبة ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم- وبمثليها- ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين، وجعل ذلك مثلين يجعل الأسر كالقتل أو لأنهم كانوا قادرين على القتل وكان مرضي الله تعالى فعدمه كان من عندهم فتركه مع القدرة لا ينافي الإصابة.
وقيل: المراد بالمثلين المثلان في الهزيمة لا في عدد القتلى وذلك لأن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضا يوم أحد أول الأمر، وعليه يكون المراد بالمصيبة هزيمة الكفار للمسلمين بعد أن فارقوا المركز، وأَنَّى هذا جملة اسمية مقدمة الخبر، والمعنى من أين هذا لا كيف هذا لدلالة الجواب مفعول القول، وقيل: أَنَّى منصوبة على الظرفية- لأصابنا- المقدر، وهذا فاعل له، والجملة مقول قلتم، وتوسيط الظرف وما يتعلق به بينه وبين الهمزة مع أنه المقصود إنكاره والمعطوف بالواو حقيقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع فإن فعل القبيح في غير وقته أقبح والإنكار على فاعله أدخل، والمعنى أحين نالكم من المشركين نصف ما قد نالهم منكم قبل ذلك رجعتم وقلتم من أين هذا ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله تعالى وفينا رسوله، وهؤلاء مشركون أعداء الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم أو قد وعدنا الله تعالى النصر؟ - وإليه ذهب الجبائي- وهذا على تقدير توجيه الإنكار والتقريع إلى صدور ذلك القول عنهم

صفحة رقم 327

في ذلك الوقت خاصة بناء على عدم كونه مظنة له داعيا إليه بل على كونه داعيا إلى عدمه فإن كون مصيبة عدوهم مثلي مصيبتهم مما يهون الخطب ويورث السلوة، أو أفعلتم ما فعلتم من الفشل والتنازع أو الخروج من المدينة والإلحاح على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولما أصابتكم غائلة ذلك قلتم أَنَّى هذا وهذا على تقدير توجيه الإنكار لاستبعادهم الحادثة مع مباشرتهم لسببها، وجوز أن يكون المعطوف عليه القول إشارة إلى أن قولهم كان غير واحد بل قالوا أقوالا لا ينبغي أن يقولوها.
وذهب جماعة إلى أن المعطوف عليه ما مضى من قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران: ١٥٢] إلى هنا وللتعلق بقصة واحدة لم يتخلل بينهما أجنبي ليكون القول بذلك بعيدا كما ادعاه أبو حيان، والهمزة حينئذ متخللة بين المتعاطفين للتقرير بمعنى التثبيت أو الحمل على الإقرار والتقريع على مضمون المعطوف والمعنى أكان من الله تعالى الوعد بالنصر بشرط الصبر والتقوى فحين فشلتم وتنازعتم وعصيتم وأصابكم الله تعالى بما أصابكم قُلْتُمْ أَنَّى هذا.
والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير، والواو أصلها التقديم، وهو مذهب سيبويه وغيره، والجملة الاستفهامية معطوفة على ما قبلها واختار هذا في البحر، وإسناد الإصابة إلى المصيبة مجاز وإلى المخاطبين حقيقة ولم يؤت بالإسنادين من باب واحد زيادة في التقريع، وتذكير اسم الإشارة في أَنَّى هذا مراعاة لمعنى المصيبة المشار إليها وهو المشهور أو لما أن إشارتهم ليست إلا لما شاهدوه في المعركة من حيث هو هو من غير أن يخطر ببالهم تسميته باسم ما فضلا عن تسميته باسم المصيبة، وإنما هي عند الحكاية وفي الآية على ما قيل: جواب ضمني عن استبعادهم تلك الإصابة، يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة فإذا أصبتم منهم مثل ما أصابوا منكم وزيادة فما وجه الاستبعاد، لكن صرح بجواب آخر يبرئ العليل ويشفي الغليل وتطأطئ منه الرؤوس فقال سبحانه: قُلْ يا محمد في جواب سؤالهم الفاسد هُوَ أي هذا الذي أصابكم كائن مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي أنها السبب له حيث خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتركهم المركز وحرصوا على الغنيمة فعاقبهم الله تعالى بذلك- قاله عكرمة- أو حيث إنكم قد اخترتم قبل أن يقتل منكم سبعون في مقابلة الفداء الذي أخذتموه من أسارى بدر، وعزي هذا إلى الحسن، ويدل عليه ما
أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي، وآخرون عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله تعالى قد كره ما فعل قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم، وإما أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم نتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر، أو حيث اخترتم الخروج من المدينة ولم تبقوا حتى تقاتلوا المشركين فيها قاله الربيع وغيره.
وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون: «إنا في جنة حصينة- يعني بذلك المدينة- فدعوا القوم يدخلوا علينا نقاتلهم فقال له ناس من الأنصار: إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة وقد كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية فبالإسلام أحق أن نمتنع فابرز بنا إلى القوم فانطلق فلبس لأمته فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله صلّى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم بغيره اذهب يا حمزة فقل له: أمرنا لأمرك تبع فأتى حمزة فقال له: إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز وأنه سيكون فيكم مصيبة قالوا: يا نبي الله خاصة أو عامة؟ قال: سترونها»
واعترض هذا القول بأنه يأباه أن الوعد بالنصر كان بعد اختيار الخروج وأن عمل النبي

صفحة رقم 328

صلّى الله عليه وسلم بموجبه قد رفع الخطر عنه وخفف جنايتهم فيه على أن اختيار الخروج والإصرار عليه كان بمن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ، وأين هم من التفوه بمثل هذه الكلمة؟ وأجيب بأن الإباء المذكور في حيز المنع كيف والنصر الموعود كان مشروطا بما يعلم الله تعالى عدم حصوله، وبأن النبي صلّى الله عليه وسلم وإن كان قد عمل بموجبه لكن لم تكن نفسه الكريمة صلّى الله عليه وسلم منبسطة لذلك ولا قلبه الشريف مائلا إليه وكأن سهام الأقدار نفذت حين خالفوا رأيه السامي وعدلوا عن الورود من عذب بحر عقله الطامي كما يرشدك إلى ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام بعد أن لبس لأمّته: «وإنه سيكون فيكم مصيبة»
وقوله في جواب الاستفهام عنها: «خاصة أو عامة» ؟ «سترونها» فإن ذلك كالصريح في عدم الرضا والفصيح في استيجاب ذلك الاختيار نزول القضاء، وبأن الخطاب في قوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ليس نصا في أن المتسببين هم المتفوهون بتلك الكلمة ليضر استشهاد المختارين للخروج في المقصود لجواز أن يكون من قبيل قولك لقبيلة: أنتم قتلتم فلانا والقاتل منهم أناس مخصوصون لم يوجدوا وقت الخطاب، ومثل ذلك كثير في المحاورات على أن كون مصيبة المتفوهين هي قتل أولئك المستشهدين نص في التأسف عليهم فيناسبه التعريض بهم بنسبة القصور إليهم ليهون هذا التأسف وليعلموا أن شؤم الانحراف عن سمت إرادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعم الكبير والصغير بل ربما يقال: إن استشهاد أولئك المصرين شاهد على أنهم هم الذين كانوا سببا في تلك المصيبة ولهذا استشهدوا ليذهبوا إلى ربهم على أحسن حال.
هذا ولا يخفى أن هذا الجواب لا يخلو عن تكلف وكأن الداعي إليه أن الذاهبين إلى تفسير مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بالخروج من المدينة وتبعية أبي سفيان وقومه جماعة أجلاء يبعد نسبة الغلط إليهم، فقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن وابن جريج، وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس فتدبر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن جملته النصر عند الموافقة والخذلان عند المخالفة، وحيث خالفتم أصابكم سبحانه بما أصابكم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها داخل تحت الأمر، وقيل: المراد منها تطييب أنفسهم ومزج مرارة التقريع بحلاوة الوعد أي إنه سبحانه قادر على نصرتكم بعد لأنه على كل شيء قدير فلا تيأسوا من روح الله واعتناء بشأن التطييب وإرشادا لهم إلى حقيقة الحال فيما سألوا عنه وبيانا لبعض ما فيه من الحكم ورفعا لما عسى أن يتوهم من الجواب من استقلالهم في وقوع الحادثة رجع إلى خطابهم برفع الواسطة وجواب سؤالهم بأبسط عبارة فقال سبحانه: وَما أَصابَكُمْ أيها المؤمنون من النكبة بقتل من قتل منكم يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي جمعكم وجمع أعدائكم المشركين، والمراد بذلك اليوم يوم أحد، وقول بعضهم- لا يبعد أن يراد به يوم أحد، ويوم بدر- بعيد جدا فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته، وقيل: بتخليته وَما اسم موصول بمعنى الذي في محل رفع بالابتداء، وجملة أَصابَكُمْ صلته- وبإذن الله- خبره.
والمراد بإذن الله يكون ويحصل، ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط، ووجه السببية ليس بظاهر إذ الإصابة ليست سببا للإرادة ولا للتخلية بل الأمر بالعكس فهو من قبيل وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣] أي ذلك سبب للإخبار بكونه من الله لأن قيد الأوامر قد يكون للمطلوب وقد يكون للطالب وكذا الإخبار، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين، وادعى السمين أن في الكلام إضمارا أي فهو بإذن الله، ودخول الفاء لما تقدم ثم قال: وهذا مشكل على ما قرره الجمهور لأنه لا يجوز عندهم دخول هذه الفاء زائدة في الخبر إلا بشروط، منها أن تكون الصلة مستقبلة في المعنى وذلك لأن الفاء إنما دخلت للشبه بالشرط، والشرط إنما يكون في الاستقبال لا في الماضي، فلو قلت: الذي أتاني أمس فله درهم لم يصح، وأَصابَكُمْ هنا ماض معنى كما أنه ماض لفظا لأن القصة ماضية فكيف جاز دخول

صفحة رقم 329

هذه الفاء وأجابوا عنه بأنه يحمل على التبين أي وما يتبين إصابته إياكم فهو بإذن الله كما تأولوا إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ [يوسف ٢٧] بذلك، ثم قال: وإذا صح هذا التأويل فليجعل (ما) هنا شرطا صريحا وتكون الفاء داخلة وجوبا لكونها واقعة جوابا للشرط انتهى، ولا يخفى ما فيه وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ عطف على بإذن الله- من عطف السبب على المسبب، والمراد ليظهر للناس ويثبت لديهم إيمان المؤمن.
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا كعبد الله بن أبيّ وأصحابه، وهذا عطف على ما قبله من مثله، وإعادة الفعل إما للاعتناء بهذه العلة، أو لتشريف المؤمنين وتنزيههم عن الانتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حال العلم بحسب التعلق بالفريقين فإنه متعلق بالمؤمنين على نهج تعلقه السابق، وبالمنافقين على نهج جديد وهو السر- كما قال شيخ الإسلام- في إيراد الأولين بصيغة اسم الفاعل المنبئة عن الاستمرار والآخرين بموصول صلته فعل دال على الحدوث وَقِيلَ لَهُمْ عطف على نافقوا مؤذن بأن ذلك كان نفاقا خاصا أظهروه في ذلك المقام.
وقيل: ابتداء كلام معطوف على مجموع ما قبله عطف قصة على قصة، ووجهه أنه جل شأنه لما ذكر أحوال المؤمنين وما جرى لهم وعليهم فيما تقدم من الآيات وبين أن الدائرة إنما كانت للابتلاء وليتميز المؤمنون عن المنافقين وليعلم كل واحد من الفريقين أن ما قدره الله تعالى من إصابة المؤمنين كائن لا محالة أورد قصة من قصصهم مناسبة لهذا المقام مستطردة، وجيء بالواو لأنها ملائمة لأصل الكلام، والنفاق على هذا مطلق متعارف، وجوز أن يكون كلاما مبتدأ على سبيل الاعتراض للتنبيه على كيفية ظهور نفاقهم، أو عدم ثباتهم على الإيمان.
وعلى كل تقدير القائل إما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وإليه ذهب الأصم- وإما عبد الله بن عمرو ابن حرام من بني سلمة- وإليه ذهب الأكثر- ومقول القول قوله تعالى: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قال السدي وابن جريج: أَوِ ادْفَعُوا عنا العدو بتكثير السواد، وهو المروي عن ابن عباس، وقيل: إنهم خيروا بين أن يقاتلوا للآخرة أو لدفع الكفار عن أنفسهم وأموالهم أو بين الأول وبين دفع المؤمنين عن ذلك كأنه قيل: قاتلوا لله تعالى أو للنفاق الدافع عن أنفسكم وأموالكم، وترك العاطف الفاء أو الواو بين تَعالَوْا وقاتِلُوا لما أن المقصود بهما واحد وهو الثاني، وذكر الأول توطئة له وترغيبا فيه لما فيه من الدلالة على التظاهر والتعاون، وقيل: ترك العاطف للإشارة إلى أن كل واحد من الجملتين مقصود بنفسه، وقيل: الأمر الثاني حال ولا يخفى بعده قالُوا استئناف بياني كأنه قيل فما صنعوا حين قيل لهم ذلك؟ فقيل قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ أي لو كنا نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن شهاب، وقيل: أرادوا إنا لا نحسن القتال ولا نقدر عليه لأن العلم بالفعل الاختياري من لوازم القدرة عليه فعبر بنفيه عن نفيها، ويحتمل أنهم جعلوا نفي علم القتال كناية عن أن ما هم فيه ليس قتالا بناء على نفي العلم بنفي المعلوم لأن القتال يستدعي التكافؤ من الجانبين مع رجاء مدافعة أو مغالبة ومتى لم يتحقق ذلك كان إلقاء الأنفس إلى التهلكة، ومن الناس من جوز أن يكون المراد لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا في سبيل الله لاتبعناكم أو لو تعلم قتالا معنا لاتبعناكم لكن ليس للمخالف معنا مضادة ولا قصد له إلا معكم، ولا يخفى أن هذا الكلام على جميع تقاديره يصلح وقوعه جوابا لما قيل لهم على جميع تقاديره ما عدا الأول، وعلى الأول يصلح هذا جوابا له على جميع تقاديره ما عدا الثاني إذ عدم المعرفة بالقتال لا يكون عذرا في عدم تكثير السواد إلا على بعد ومن كلامهم:
إن لم تقاتل يا جبان فشجع والمراد بالاتباع إما الذهاب للقتال ولم يعبروا به لأن ألسنتهم لكمال تثبط قلوبهم عنه لا تساعدهم على

صفحة رقم 330

الإفصاح به، وأما الذهاب مع المؤمنين مطلقا سواء كان للقتال أو للدفع وتكثير السواد وحمله على امتثال الأمر أي لو كنا نعلم قتالا لامتثلنا أمركم لا يخلو عن بعد.
هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي هم يوم إذ قالوا لَوْ نَعْلَمُ إلخ أقرب للكفر منهم قبل ذلك لظهور أمارته عليهم بانخذالهم عن نصرة المؤمنين واعتذارهم لهم على وجه الدغل والاستهزاء.
والظروف كلها في المشهور عند المعربين متعلقة- بأقرب- ومن قواعدهم أنه لا يتعلق حرفا جر أو ظرفان بمعنى بمتعلق واحد إلا في ثلاث صور: إحداها أن يتعلق أحدهما به مطلقا ثم يتعلق به الآخر بعد تقييده بالأول، وثانيتها أن يكون الثاني تابعا للأول ببدلية ونحوها، وثالثتها أن يكون المتعلق أفعل تفضيل لتضمنه الفاضل والمفضول الذي يجعله بمنزلة تعدد المتعلق كما في المقيد والمطلق، وما نحن فيه من هذا القبيل كأنه قيل قربهم من الكفر يزيد على قربهم من الإيمان، واللام الجارة في الموضعين بمعنى إلى بناء على ما قيل: إن صلة القرب تكون من وإلى لا غير، تقول: قرب منه وإليه، ولا تقول له، أو على حالها بناء على ما في الدر المصون أن القرب الذي هو ضد البعد يتعدى بثلاثة أحرف اللام وإلى ومن، وقيل: إن أَقْرَبُ هنا من القرب بفتح الراء وهو طلب الماء ومنه القارب لسفينته، وليلة القرب أي الورود، والمعنى هم أطلب للكفر وحينئذ يتعدى باللام اتفاقا.
وزعم بعضهم أن اللام هنا للتعليل والتقدير هم لأجل كفرهم يومئذ أَقْرَبُ من الكافرين منهم من المؤمنين لأجل إيمانهم، ولا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه لمزيد بعده وركاكة نظمه لو صرح بما حذف فيه.
وجوز أن يقدر في الكلام مضاف وهو أهل، واللام متعلقة بتمييز محذوف وهو نصرة والمعنى هم لأهل الكفر أَقْرَبُ نصرة منهم لأهل الإيمان إذ كان انخذالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا للمؤمنين، وهذا كما تقول:
أنا لزيد أشدّ ضربا مني لعمرو. وأنت تعلم أنه يمكن تعلق اللام بالتمييز عند عدم اعتبار حذف المضاف أيضا، وادعى الواحدي أن في الآية دليلا على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم.
وقال الحسن: إذا قال الله تعالى أَقْرَبُ فهو لليقين بأنهم مشركون ولا يخفى أن الآية كالصريح في كفرهم لكنهم مع هذا لا يستحقون أن يعاملوا بذلك معاملة الكفار ولعله لأمر آخر يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا في ذلك اليوم فقط ولذا فصلت، وقيل: حال من ضمير أَقْرَبُ وتقييد القول بالأفواه إما بيان لأنه كلام لفظي لا نفسي، وإما تأكيد على حدّ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨] والمراد أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون وقال شيخ الإسلام: إن ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم وإن ما عبارة عن القول والمراد به إما نفس الكلام الظاهر في اللسان تارة وفي القلب أخرى، فالمثبت والمنفي متحدان ذاتا وصفة وإن اختلفا مظهرا، وإما القول الملفوظ فقط فالمنفي حينئذ منشؤه الذي لا ينفك عنه القول أصلا، وإنما عبر عنه به إبانة لما بينهما من شدة الاتصال، والمعنى يتفوهون بقول لا وجود له أو لمنشئه في قلوبهم أصلا من الأباطيل التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شيء منهما، أحدهما عدم العلم بالقتال، والآخر الاتباع على تقدير العلم به وقد كذبوا فيهما كذبا بينا حيث كانوا عالمين به مصرين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد، واختار بعضهم كون ما عبارة عن القول الملفوظ، ومعنى كونه ليس في قلوبهم أنه غير معتقد لهم ولا متصور عندهم إلا كتصور زوجية الثلاثة مثلا والحكم عام ويدخل فيه حكم ما تفوهوا به من مجموع القضية الشرطية لا خصوص المقدم فقط ولا خصوص التالي فقط ولا الأمران معا دون الهيئة الاجتماعية المعتبرة في القضية ولعل ما ذكره الشيخ أولى.

صفحة رقم 331

وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوهم عما يوافقها، والمراد أعلم من المؤمنين لأنه تعالى يعلمه مفصلا بعلم واجب، والمؤمنون يعلمونه مجملا بأمارات، ويجوز أن تكون الجملة حالية للتنبيه على أنهم لا ينفعهم النفاق، وأن المراد أعلم منهم لأن الله تعالى يعلم نتيجة أسرارهم وآمالهم الَّذِينَ قالُوا مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون كأنه قيل: والله أعلم بما يكتم الذين قالوا، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين، وقيل: مبتدأ خبره قل فادرؤوا بحذف العائد أي قل لهم إلخ، أو منصوب على الذم أو على أنه نعت للذين نافقوا، أو بدل منه، أو مجرور على أنه بدل من ضمير أفواههم، أو قلوبهم، وجاء إبدال المظهر من ضمير الغيبة في كلامهم، ومنه قول الفرزدق:

على حالة لو أن في القوم حاتما على جوده لضن بالماء حاتم
بجر حاتم بدلا من ضمير جوده لأن القوافي مجرورة، والمعنى يقولون بأفواه الذين قالوا، أو يقولون بأفواههم ما ليس في قلوب الذين قالوا، والكلام على الوجهين من باب التجريد كقوله:
يا خير من يركب المطي ولا يشرب كأسا من كف من بخلا
والقائل كما قال السدي وغيره: هو عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وقد قالوا ذلك في يوم أحد لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقتلوا في ذلك اليوم، والمراد لذوي قرابتهم أو لمن هو من جنسهم وَقَعَدُوا حال من ضمير قالُوا وقد مرادة أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال، وجوز أن يكون معطوفا على الصلة فيكون معترضا بين قالوا ومعمولها وهو قوله تعالى: لَوْ أَطاعُونا أي في ترك القتال ما قُتِلُوا كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبد الله ابن أبيّ في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ قالوا له: ولئن أطعتنا لترجعن معنا فذكر الله تعالى نعي قولهم لئن أطعتنا لترجعن معنا بقوله سبحانه: الَّذِينَ قالُوا إلخ، وبعضهم حمل القعود على ما استصوبه ابن أبيّ عند المشاورة من المقامة بالمدينة ابتداء وجعل الإطاعة عبارة عن قبول رأيه والعمل به- ولا يخلو عن شيء- بل قال مولانا شيخ الإسلام: يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبيّ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادي باختصاص الأمر أيضا بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند المشاورة قُلْ يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ أي فادفعوا عنها ذلك وهو جواب لشرط قد حذف لدلالة قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ عليه كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة فَادْرَؤُا عليه، ومن جوز تقدم الجواب لم يحتج لما ذكر، ومتعلق الصدق هو ما تضمنه قولهم من أن سبب نجاتهم القعود عن القتال، والمراد أن ما ادعيتموه سبب النجاة ليس بمستقيم ولو فرض استقامته فليس بمفيد، أما الأول فلأن أسباب النجاة كثيرة غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية، وأما الثاني فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذي القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه فإن أسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء، وأنفسكم أعز عليكم وأمرها أهم لديكم، وقيل: متعلق الصدق ما صرح به من قولهم: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين، وحينئذ يكون فَادْرَؤُا إلخ استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فَادْرَؤُا جميع أسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم بزعمكم هذا السبب الخاص،

صفحة رقم 332

وفي الكشاف روي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة منهم سبعون منافقا بعدد من قتل بأحد.
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً
أخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى لنا» وفي لفظ «قالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل هؤلاء الآيات».
وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: «يا جابر ما لي أراك منكسرا فقلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال: ألا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك؟ قلت: بلى قال: ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال:
يا عبدي تمن علي أعطك قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تعالى: قد سبق مني أنهم لا يرجعون قال: اي ربي فأبلغ من ورائي فأنزل الله تعالى هذه الآية»

ولا تنافي بين الروايتين لجواز أن يكون كلا الأمرين قد وقع، وأنزل الله تعالى الآية لهما والأخبار متضافرة على نزولها في شهداء أحد، وفي رواية ابن المنذر عن إسحاق بن أبي طلحة قال:
حدثني أنس في أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى بئر معونة وساق الحديث بطوله- إلى أن قال- وحدثني أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زمانا، فأنزل الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ إلخ.
ومن هنا قيل: إن الآية نزلت فيهم، وأنت تعلم أن الخبر ليس نصا في ذلك، وزعم بعضهم أنها نزلت في شهداء بدر، وادعى العلامة السيوطي أن ذلك غلط، وأن آية البقرة هي النازلة فيهم، وهي كلام مستأنف مسوق إثر بيان أن الحذر لا يسمن ولا يغني لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون، والخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من يقف على الخطاب مطلقا.
وقيل: من المنافقين الذين قالوا: «لو أطاعونا وقعدوا» وإنما عبر عن اعتقادهم بالظن لعدم الاعتداد به، وقرئ- يحسبن- بالياء التحتانية على الإسناد إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو ضمير من يحسب على طرز ما ذكر في الخطاب، وقيل: إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة أي- ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا.
واعترضه أبو حيان بأنه إنما يتمشى على رأي الجمهور فإنهم يجوزون هذا الحذف لكنه عندهم عزيز جدا.
ومنعه إبراهيم بن ملكون الإشبيلي البتة، وما كان ممنوعا عند بعضهم عزيزا عند الجمهور ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى، وفيه أن هذا من باب التعصب لأن حذف أحد المفعولين في باب الحسبان لا يمنع اختصارا على الصحيح بل اقتصارا، وما هنا من الأول فيجوز مع أنه جوز الاقتصار بعضهم ويكفي للتخريج مثله.
وذكر العلامة الطيبي أن حذف أحد المفعولين في هذا الباب مذهب الأخفش، وظاهر صنيع البعض يفهم منه تقديره مضمرا أي ولا يحسبنهم الذين قتلوا، والمراد لا يحسبن أنفسهم، واعترضه أبو حيان بشيء آخر أيضا، وهو أن فيه تقديم المضمر على مفسره وهو محصور في أماكن ليس هذا منها، ورده السفاقسي بأنه وإن لم يكن هذا منها لكن عود الضمير على الفاعل لفظا جائز لأنه مقدم معنى وتعدي أفعال القلوب إلى ضمير الفاعل جائز، وقد ظن

صفحة رقم 333

السيرافي (١) وغيره على جواز ظنه زيد منطلقا وظنهما الزيدان منطلقين، وهذا نظيره ما ذكره هذا البعض، فالاعتراض عليه في غاية الغرابة، ثم المراد من توجيه النهي إلى المقتولين تنبيه السامعين على أنهم أحقاء أن يتسلوا بذلك، ويبشروا بالحياة الأبدية والنعيم المقيم لكن لا في جميع أوقاتهم بل عند ابتداء القتل إذ بعد تبين حالهم لهم لا تبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه قاله شيخ الإسلام.
وقيل: هو نهي في معنى النفي وقد ورد ذلك، وإن قل، أو هو نهي عن حسبانهم أنفسهم أمواتا في وقت ما وإن كانوا وقت الخطاب عالمين بحياتهم، وقرئ وَلا تَحْسَبَنَّ بكسر السين، وقرأ ابن عامر «قتلوا» بالتشديد لكثرة المقتولين بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم أحياء مستمرون على ذلك، وقرئ بالنصب، وخرجه الزجاج على أنه مفعول لمحذوف أي بل أحسبهم أحياء، ورده الفارسي بأن الأمر يقين فلا يؤمر فيه بحسبان وإضمار غير فعل الحسبان كاعتقدهم أو اجعلهم ضعيف إذ لا دلالة عليه على أن تقدير اجعلهم قال فيه أبو حيان: إنه لا يصح البتة سواء جعلته بمعنى أخلقهم أو صيرهم أو سمهم أو ألفهم، نعم قال السفاقسي: يصح إذا كان بمعنى اعتقدهم لكن يبقى حديث عدم الدلالة على حاله، وأجاب الجلبي بأن عدم الدلالة اللفظية مسلم لكن إذا أرشد المعنى إلى شيء قدر من غير ضعف وإن كانت دلالة اللفظ أحسن، وقال العلامة الثاني: لا منع من الأمر بالحسبان لأنه ظن لا شك والتكليف بالظن واقع لقوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: ٢] أمرا بالقياس وتحصيل الظن، وقال بعضهم: المراد اليقين ويقدر أحسبهم للمشاكلة ولا يخفى أنه تعسف لأن الحذف في المشاكلة لم يعهد عِنْدَ رَبِّهِمْ في محل رفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدر، أو صفة لأحياء، أو في محل نصب على أنه حال من الضمير في أَحْياءٌ وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له أو للفعل الذي بعده، وعِنْدَ هنا ليست للقرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه كما تقول: هذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كذا لعدم مناسبته للمقام بل بمعنى القرب والشرف أي ذوو زلفى ورتبة سامية، وزعم بعضهم أن معنى في علم الله تعالى مناسب للمقام لدلالته على التحقق أي إن حيلتهم متحققة لا شبهة فيها ولا يخفى أن المقام مقام مدح فتفسير العندية بالقرب أنسب به.
وفي الكلام دلالة على التحقق من وجوه أخر وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم يُرْزَقُونَ صفة لأحياء، أو حال من الضمير فيه أو في الظرف وفيه تأكيد لكونهم أحياء وقد تقدم الكلام في حياتهم على أتم وجه، والقول بأن أرواحهم تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال قول هابط إلى الثرى، ولا أظن القائل به قرع سمعه الروايات الصحيحة والأخبار الصريحة بل لم يذق طعم الشريعة الغراء ولا تراءى له منهج المحجة البيضاء وخبر القناديل لا ينور كلامه ولا يزيل ظلامه فلعمري إن حال الشهداء وحياتهم وراء ذلك فَرِحِينَ جوز أن يكون حالا من الضمير في يُرْزَقُونَ أو من الضمير في أَحْياءٌ أو من الضمير في الظرف، وأن يكون نصبا على المدح، أو الوصفية لأحياء في قراءة النصب ومعناه مسرورين بِما آتاهُمُ اللَّهُ بعد انتقالهم من الدنيا مِنْ فَضْلِهِ متعلق بآتاهم، ومِنْ إما للسببية أو لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف العائد على الموصول، ومِنْ للتبعيض والتقدير بما آتاهموه حال كونه كائنا بعض فضله.
والمراد بهذا المؤتى ضروب النعم التي ينالها الشهداء يوم القيامة أو بعد الشهادة أو نفس الفوز بالشهادة في سبيل الله تعالى وَيَسْتَبْشِرُونَ أي يسرون بالبشارة، وأصل الاستبشار طلب البشارة وهو الخبر السار إلا أن المعنى

(١) قوله: (وقد ظن السيرافي) هكذا بخطه ولعله جرى اهـ مصححه.

صفحة رقم 334

هنا على السرور استعمالا للفظ في لازم معناه وهو استئناف أو معطوف على فرحين لتأويله بيفرحون.
وجوز أن يكون التقدير وهم يستبشرون فتكون الجملة حالا من الضمير في فَرِحِينَ أو من ضمير المفعول في آتاهم وإنما احتيج إلى تقدير مبتدأ عند جعلها حالا لأن المضارع المثبت إذا كان حالا لا يقترن بالواو. بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أي بإخوانهم الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله تعالى فيلحقوا بهم مِنْ خَلْفِهِمْ متعلق بيلحقوا والمعنى أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. ويجوز أن يكون حالا من فاعل يلحقوا أي لم يلحقوهم متخلفين عنهم باقين بعد في الدنيا.
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم أي يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء وهو أنهم عند قتلهم في سبيل الله تعالى يفوزون كما فازوا ويحوزون من النعيم كما حازوا، وإلى هذا ذهب ابن جريج وقتادة، وقيل: إنه منصوب بنزع الخافض أي لئلا، أو بأن لا وهو معمول ليستبشرون واقع موقع المفعول من أجله أي يستبشرون بقدوم إخوانهم الباقين بعدهم إليهم لأنهم لا خوف عليهم إلخ، فالاستبشار حينئذ ليس بالأحوال.
ويؤيد هذا ما روي عن السدي أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا، فضمير، عَلَيْهِمْ وما بعده على هذا راجع إلى الذين الأول، وعلى الأول إلى الثاني، ومن الناس من فسر- الذين لم يلحقوا- بالمتخلفين في الفضل عن رتبة الشهداء وهم الغزاة الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى ولم يقتلوا بل بقوا حتى ماتوا في مضاجعهم، فإنهم وإن لم ينالوا مراتب الشهداء إلا أن لهم أيضا فضلا عظيما بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لمزيد فضل الجهاد، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر من الآية وإن كان فضل الغزاة وإن لم يقتلوا مما لا يتناطح فيه كبشان، وأن على كل تقدير هي المخففة واسمها ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية، والمعنى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيمن خلفوه من ذريتهم فإن الله تعالى يتولاهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من أموالهم لأن الله تعالى قد أجزل لهم العوض، أو لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يقدمون عليه لأن الله تعالى محص ذنوبهم بالشهادة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة، أو خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التي يجب أن يرغب فيها فضلا عن أن يخاف ويحذر وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على المفارقة، وقيل: إن كلا هذين المنفيين فيما يتعلق بالآخرة، والمعنى أنهم لا يخافون وقوع مكروه من أهوالها، ولا يحزنون من فوات محبوب من نعيمها، وهو وجه وجيه.
والمراد بيان دوام انتفاء ذلك لا بيان انتفاء دوامه كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا فإن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وقد تقدمت الإشارة إليه يَسْتَبْشِرُونَ مكرر للتأكيد وليتعلق به قوله تعالى: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ فحينئذ يكون بيانا وتفسيرا لقوله سبحانه: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لأن الخوف غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء، والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار فمن كان متقلبا في نعمة من الله تعالى وفضل منه سبحانه فلا يحزن أبدا، ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة، ويجوز أن يكون بيان ذلك النفي بمجرد قوله جل وعلا: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ من غير ضم ما بعده إليه، وقيل: الاستبشار الأول بدفع المضار ولذا قدم، والثاني بوجود المسار أو الأول لإخوانهم، والثاني لهم أنفسهم، ومن الناس من أعرب يَسْتَبْشِرُونَ بدلا من الأول ولذا لم تدخل واو العطف عليه، ومِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة- لنعمة- مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، وجمع- الفضل والنعمة- مع أنهما كثيرا ما يعبر بهما عن معنى واحد إما للتأكيد وإما للإيذان بأن ما خصهم به سبحانه

صفحة رقم 335

ليس نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة سرور ولذة، بل زائد عليها مضاعف فيها ذلك، ونظيره قوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: ٢٦] وعطف وأن على «فضل» أو على «نعمة» وعلى التقديرين مضمون ما بعدها داخل في المستبشر به.
وقرأ الكسائي «وإن» بكسر الهمزة على أنه تذييل لمضمون ما قبله من الآيات السابقة، أو اعتراض بين التابع والمتبوع بناء على أن الموصول الآتي تابع للذين لم يلحقوا، والمراد من المؤمنين إما الشهداء والتعبير عنهم بذلك للإعلام بسمو مرتبة الإيمان وكونه مناطا لما قالوه من السعادة، وإما كافة المؤمنين، وذكرت توفية أجورهم وعدت من جملة المستبشر به على ما اقتضاه العطف بحكم الأخوة في الدين، واختار هذا الوجه كثير.
ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيدان أن هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سوى الشهداء وقلّ ما ذكر الله تعالى فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر سبحانه ما أعطى الله تعالى المؤمنين من بعدهم، وفي الآية إشعار بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة الَّذِينَ اسْتَجابُوا أي أطاعوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ بامتثال الأوامر مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي نالهم الجراح يوم أحد، والموصول في موضع جر صفة للمؤمنين أو في موضع نصب بإضمار أعني، أو في موضع رفع على إضمارهم، أو مبتدأ أول وخبره جملة قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ قال الطبرسي وهو الأشبه: ومِنْهُمْ حال من الضمير في أَحْسَنُوا ومِنْ للتبعيض- وإليه ذهب بعضهم- وذهب غير واحد إلى أنها للبيان، فالكلام حينئذ فيه تجريد جرد من الذين استجابوا لله والرسول المحسن المتقي، والمقصود من الجمع بين الوصفين المدح والتعليل لا التقييد لأن المستجيبين كلهم محسنون ومتقون،
قال ابن إسحاق وغيره: لما كان يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال وكانت وقعة أحد يوم السبت للنصف منه أذن مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطلب العدو وأن لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله بن حرام فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال: يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهم فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إرهابا للعدو حتى انتهى إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة وقد مر به معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى عافاك فيهم، ثم ذهب ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا: أصبنا أجل أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن عليهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط وهم يتحرقون عليكم تحرقا وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قال: ويلك ما تقول؟ قال ما أرى والله أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال: فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال: فإني أنهاك عن ذلك وو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من الشعر قال: وما قلت؟ قال قلت:

كادت تهدّ من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

صفحة رقم 336

ترمي بأسد كرام لا تنابلة عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا كأن الأرض مائلة لما سمعوا برئيس غير مخذول
وقلت:
ويل ابن حرب من لقائهم إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل النبل ضاحية لكل آربة منهم ومعقول
من خيل أحمد لا وخشا تنابلة وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
فثنى عند ذلك أبو سفيان ومن معه ومرّ به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة قال ولم؟
قالوا: نريد الميرة قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل هذه لكم غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموه؟ قالوا: نعم قال: إذا وافيتموه فأخبروه أن قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمرّ الركب برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل،
وأخرج ابن هشام أن أبا سفيان لما أراد الرجوع إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لهم صفوان بن أمية بن خلف: لا تفعلوا فإن القوم قد جربوا وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان فارجعوا إلى محالكم فرجعوا فلما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد أنهم هموا بالرجعة قال: والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب ثم رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وأنزل الله تعالى هذه الآيات،
وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين فقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ بدل من الَّذِينَ اسْتَجابُوا أو صفة، والمراد من الناس الأول ركب عبد قيس، ومن الثاني أبو سفيان ومن معه فأل فيهما للعهد والناس الثاني غير الأول.
وروي عن مجاهد، وقتادة، وعكرمة وغيرهم أنهم قالوا: والخبر متداخل نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى، وذلك
أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف: يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر القابل إن شئت فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ذلك بيننا وبينك إن شاء الله تعالى فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران، وقيل: بلغ عسفان فألقى الله تعالى عليه الرعب فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي (١) وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق المدينة فتثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها على يدي سهيل بن عمرو فأتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم: بئس الرأي رأيكم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم فو الله لا يفلت منكم أحد فكره أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حتى وافى بدرا فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان ومن معه من مجنة إلى مكة فسماهم أهل مكة جيش السويق يريدون أنكم لم تفعلوا شيئا سوى شرب السويق ولم يلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحدا من المشركين فكر راجعا إلى المدينة،
وفي ذلك يقول عبد الله بن رواحة، أو كعب بن مالك:
وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد لميعاده صدقا وما كان وافيا
(١) قوله: نعيم بن مسعود أسلم رضي الله تعالى عنه عام الخندق اهـ منه.

صفحة رقم 337

فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا لأبت دميما وافتقدت المواليا
تركنا به أوصال عتبة وابنه وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا
عصيتم رسول الله أف لدينكم وأمركم الشيء الذي كان غاويا
وإني وإن عنفتموني لقائل فدى لرسول الله أهلي وماليا
أطعناه لم نعدله فينا بغيره شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا
فعلى هذا المراد من الناس الأول نعيم، وأطلق ذلك عليه كما يطلق الجمع واسم الجمع المحلى بأل الجنسية على الواحد منه مجازا كما صرحوا به، أو باعتبار أن المذيعين له كالقائلين لهم لكن في كون القائل نعيما مقال.
وقد ذكره ابن سعد في طبقاته، وذكر بعضهم أن القائلين أناس من عبد قيس فَزادَهُمْ إِيماناً الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال: أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده، أو لله تعالى، وتعقب أبو حيان الأول بأنه ضعيف من حيث إنه لا يزيد إيمانا إلا النطق به لا هو في نفسه، وكذا الثالث بأنه إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازا فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع لا على المفرد فيقال: مفارقة شابت باعتبار الإخبار عن الجمع، ولا يجوز مفارقة شاب باعتبار مفرقه شاب، وفي كلا التعقيبين نظر، أما الأول فقد نظر فيه الحلبي بأن المقول هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان، وأما الثاني فقد نظر فيه السفاقسي بأنه لا يبعد جوازه بناء على ما علم من استقراء كلامهم فيما له لفظ وله معنى من اعتبار اللفظ تارة والمعنى أخرى.
والمراد أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله تعالى وازدادوا طمأنينة وأظهروا حمية الإسلام.
واستدل بذلك من قال: إن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا وهذا ظاهر إن جعلت الطاعة من جملة الإيمان وأما إن جعل الإيمان نفس التصديق والاعتقاد فقد قالوا في ذلك: إن اليقين مما يزداد بالألف وكثرة التأمل وتناصر الحجج بلا ريب، ويعضد ذلك أخبار كثيرة، ومن جعل الإيمان نفس التصديق وأنكر أن يكون قابلا للزيادة والنقصان يؤول ما ورد في ذلك باعتبار المتعلق، ومنهم من يقول: إن زيادته مجاز عن زيادة ثمرته وظهور آثاره وإشراق نوره وضيائه في القلب ونقصانه على عكس ذلك، وكأن الزيادة هنا مجاز عن ظهور الحمية وعدم المبالاة بما يثبطهم، وأنت تعلم أن التأويل الأول هنا خفي جدا لأنه لم يتجدد للقوم بحسب الظاهر عند ذلك القول شيء يجب الإيمان به كوجوب صلاة أو صوم مثلا ليقال: إن زيادة إيمانهم باعتبار ذلك المتعلق وكذا التزام التأويل الثاني في الآيات والآثار التي لم تكد تتمنطق بمنطقة الحصر بعيد غاية البعد.
فالأولى القول بقبول الإيمان الزيادة والنقصان من غير تأويل، وإن قلنا: إنه نفس التصديق وكونه إذا نقص يكون ظنا أو شكا ويخرج عن كونه إيمانا وتصديقا مما لا ظن ولا شك في أنه على إطلاقه ممنوع.
نعم قد يكون التصديق بمرتبة إذا نزل عنها يخرج عن كونه تصديقا وذاك مما لا نزاع لأحد في أنه لا يقبل النقصان مع بقاء كونه تصديقا، وإلى هذا أشار بعض المحققين وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه، والدليل على أن حسب بمعنى محسب اسم فاعل وقوعه صفة للنكرة في هذا رجل حسبك مع إضافته إلى ضمير المخاطب فلولا أنه اسم فاعل وإضافته لفظية لا تفيده تعريفا كإضافة المصدر ما صح كونه صفة لرجل كذا قالوا، ومنه يعلم أن المصدر المؤول باسم الفاعل له حكمة في الإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة التي قبلها وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي الموكول إليه ففعيل بمعنى مفعول والمخصوص بالمدح محذوف هو ضميره تعالى، والظاهر عطف هذه الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية التي قبلها، والواو إما من الحكاية أو من المحكي فإن كان الأول

صفحة رقم 338

وقلنا: بجواز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب لكونهما حينئذ في حكم المفردين فأمر العطف ظاهر من غير تكلف التأويل لأن الجملة المعطوف عليها في محل نصب مفعول قالُوا لكن القول بجواز هذا العطف بدون التأويل عند الجمهور ممنوع لا بد له من شاهد ولم يثبت.
وإن كان الثاني وقلنا بجواز عطف الإنشاء على الإخبار مطلقا- كما ذهب إليه الصفار- أو قلنا: بجواز عطف القصة على القصة أعني عطف حاصل مضمون إحدى الجملتين على حاصل مضمون الأخرى من غير نظر إلى اللفظ- كما أشار إلى ذلك العلامة الثاني- فالأمر أيضا ظاهر، وإن قلنا: بعدم جواز ذلك- كما ذهب إليه الجمهور- فلا بد من التأويل إما في جانب المعطوف عليه أو في جانب المعطوف، والذاهبون إلى الأول قالوا: إن الجملة الأولى وإن كانت خبرية صورة لكن المقصود منها إنشاء التوكل أو الكفاية لا الإخبار بأنه تعالى كاف في نفس الأمر، والذاهبون إلى الثاني اختلفوا فمنهم من قدر قلنا أي- وقلنا نعم الوكيل.
واعترض بأنه تقدير لا ينساق الذهن إليه ولا دلالة للقرينة عليه مع أنه لا يوجد بين الأخبار بأن الله تعالى كافيهم والاخبار بأنهم قالوا- نعم الوكيل- مناسبة معتد بها يحسن بسببها العطف بينهما، ومنهم من جعل مدخول الواو معطوفا على ما قبله بتقدير المبتدأ إما مؤخرا لتناسب المعطوف عليه فإن حَسْبُنَا خبر، واللَّهُ مبتدأ بقرينة ذكره في المعطوف عليه ومجيء حذفه في الاستعمال وانتقال الذهن إليه، وإما مقدما رعاية لقرب المرجع مع ما سبق.
واعترض بأنه لا يخفى أنه بعد تقدير المبتدأ لو لم يؤول- نعم الوكيل- بمقول في حقه ذلك تكون الجملة أيضا إنشائية إذ الجملة الاسمية التي خبرها إنشاء إنشائية كما أن التي خبرها فعل فعلية بحسب المعنى كيف لا ولا فرق بين- نعم الرجل زيد، وزيد نعم الرجل- في أن مدلول كل منهما نسبة غير محتملة للصدق والكذب، وبعد التأويل لا يكون المعطوف جملة- نعم الوكيل- بل جملة متعلق خبرها- نعم الوكيل- والإشكال إنما هو في عطف- نعم الوكيل- إلا أن يقال يختار هذا، ويقال: الجواب عن شيء قد يكون بتقرير ذلك الشيء وإبداء شيء آخر وقد يكون بتغيير ذلك الشيء، وما هاهنا من الثاني فمن حيث الظاهر المعطوف هو جملة- نعم الوكيل- فيعود الإشكال، ومن حيث الحقيقة هو جملة هو مقول فلا إشكال لكن يرد أنه بعد التأويل يفوت إنشاء المدح العام الذي وضع أفعال المدح له بل يصير للإخبار بالمدح الخاص، وهو أنه مقول في حقه- نعم الوكيل- وأيضا مقولية المقول المذكور فيه إنما تكون بطريق الحمل والإخبار عنه- بنعم الوكيل- فلا بد من تقدير مقول في حقه مرة أخرى، ويلزم تقديرات غير متناهية وكأنه لهذا لم يؤول الجمهور الإنشاء الواقع خبرا بذلك وإنما هو مختار السعد رحمه الله تعالى، وقد جوز بعضهم على تقدير كون الواو من المحكي عطف- نعم الوكيل- على حَسْبُنَا باعتبار كونه في معنى الفعل كما عطف جَعَلَ على فالِقُ في قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الأنعام: ٦٩] على رأي فحينئذ يكون من عطف الجملة التي لها محل من الإعراب على المفرد لأنه إذ ذاك خبر عن المفرد، وبعض المحققين يجوزون ذلك لا من عطف الإنشاء على الاخبار- وهذا وإن كان في الحقيقة لا غبار عليه- إلا أن أمر العطف على الخبر بناء على ما ذكره الشيخ الرضي من أن نعم الرجل بمعنى المفرد وتقديره أي رجل جيد- أظهر كما لا يخفى، ومن الناس من ادعى أن الآية شاهد على جواز عطف الإنشاء على الاخبار فيما له محل من الإعراب بناء على أن الواو من الحكاية لا غير.
ولا يخفى عليك أنه بعد تسليم كون الواو كذلك فيها لا تصلح شاهدا على ما ذكر لجواز أن يكون قالُوا مقدرا في المعطوف بقرينة ذكره في المعطوف عليه فيكون من عطف الجملة الفعلية الخبرية، على الجملة الفعلية الخبرية، ثم إن الظاهر كما يقتضي أن يكون في الآية عطف على الاخبار- وفيه الخلاف الذي عرفت كذلك يقتضي عطف الفعلية على الاسمية- وفيه أيضا خلاف مشهور كعكسه- ومما ذكرنا في أمر الإنشاء والاخبار يستخرج

صفحة رقم 339

الجواب عن ذلك، وقد أطال العلماء الكلام في هذا المقام وما ذكرناه قليل من كثير ووشل من غدير، ثم إن هذه الكلمة كانت آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار كما أخرجه البخاري في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد الرزاق وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ،
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل.
وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف»

فَانْقَلَبُوا عطف على مقدر دل عليه السياق أي فخرجوا إليهم ورجعوا بِنِعْمَةٍ في موضع الحال من الضمير في- انقلبوا- وجوز أن يكون مفعولا به، والباء على الأول للتعدية، وعلى الثاني للمصاحبة، والتنوين على التقديرين للتفخيم أي بِنِعْمَةٍ عظيمة لا يقدر قدرها مِنَ اللَّهِ صفة لنعمة مؤكدة لفخامتها، والمراد منها السلامة- كما قاله ابن عباس- أو الثبات على الإيمان وطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم- كما قاله الزجاج- أو إذلالهم أعداء الله تعالى على بعد كما قيل، أو مجموع هذه الأمور على ما نقول وَفَضْلٍ وهو الربح في التجارة،
فقد روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل.
وأخرج ابن جرير عن السدي قال: أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين خرج في غزوة بدر الصغرى ببدر أصحابه دراهم ابتاعوا بها في الموسم فأصابوا تجارة
وعن مجاهد الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أي لم يصبهم قتل- وهو المروي عن السدي- أو لم يؤذهم أحد- وهو المروي عن الحبر- والجملة في موضع النصب على الحال من فاعل- انقلبوا- أو من المستكن في بِنِعْمَةٍ إذا كان حالا والمعنى فَانْقَلَبُوا منعمين مبرئين من السوء، والجملة الحالية إذا كان فعلها مضارعا منفيا بلم، وفيها ضمير ذي الحال جاز فيها دخول الواو وعدمه وَاتَّبَعُوا عطف على- انقلبوا- وقيل: حال من ضميره بتقدير قد أي وقد اتبعوا في كل حال ما أوتوا، أو في الخروج إلى لقاء العدو رِضْوانَ اللَّهِ الذي هو مناط كل خير وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ حيث تفضل عليهم بما تفضل وفيما تقدم مع تذييله بهذه الآية المشتملة على الاسم الكريم الجامع وإسناد ذُو فَضْلٍ إليه ووصف الفضل بالعظم إيذان بأن المتخلفين فوتوا على أنفسهم أمرا عظيما لا يكتنه كنهه وهم أحقاء بأن يتحسروا عليه تحسرا ليس بعده إِنَّما ذلِكُمُ الإشارة إلى المثبط بالذات أو بالواسطة، والخطاب للمؤمنين وهو مبتدأ، وقوله:
الشَّيْطانُ بمعنى إبليس لأنه علم له بالغلبة خبره على التشبيه البليغ، وقوله تعالى: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ جملة مستأنفة مبينة لشيطنته، أو حال كما في قوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً [النمل: ٥٢].
ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة على التشبيه أيضا، ويحتمل أن يكون مجازا حيث جعله هو ويخوف هو الخبر، وجوز أن يكون ذا إشارة إلى قول المثبط فلا بدّ حينئذ من تقدير مضاف أي قول الشيطان، والمراد به إبليس أيضا ولا تجوز فيه على الصحيح، وإنما التجوز في الإضافة إليه لأنه لما كان القول بوسوسته وسببه جعل كأنه قوله، والمستكن في يُخَوِّفُ إما للمقدر وإما للشيطان بحذف الراجع إلى المقدر أي يحوف به، والمراد بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابه، فالمفعول الأول ليخوف محذوف أي يخوفكم أولياءه بأن يعظمهم في قلوبكم، ونظير ذلك قوله

صفحة رقم 340

تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف: ٢] وبذكر هذا المفعول قرأ ابن عباس.
وقرأ بعضهم يخوفكم بأوليائه، وعلى هذا المعنى أكثر المفسرين، وإليه ذهب الزجاج، وأبو علي الفارسي، وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ أي فلا تخافوا أولياءه الذين خوفكم إياهم وَخافُونِ في مخالفة أمري، وإما المتخلفون عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأولياءه هو المفعول الأول والمفعول الثاني إما متروك أو محذوف للعلم به أي يوقعهم في الخوف، أو يخوفهم من أبي سفيان وأصحابه وعلى هذا لا يصح عود ضمير تَخافُوهُمْ إلى الأولياء بل هو راجع إلى الناس الثاني كضمير- اخشوهم- فهو ردّ له أي فلا تخافوا الناس وتقعدوا عن القتال وتجبنوا وَخافُونِ فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى امتثال ما يأمركم به، وإلى هذا الوجه ذهب الحسن والسدي، وادعى الطيبي أن النظم يساعد عليه، والخطاب حينئذ لفريقي الخارجين والمتخلفين والقصد التعريض بالطائفة الأخيرة، وقيل: الخطاب لها وأَوْلِياءَهُ إذ ذاك من وضع الظاهر موضع المضمر نعيا عليهم بأنهم أولياء الشيطان واستظهر بعضهم هذا القيل مطلقا معللا له بأن الخارجين لم يخافوا إلا الله تعالى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وأنت تعلم أن قيام احتمال التعريض يمرض هذا التعليل، والفاء لترتيب النهي أو الانتهاء على ما قبلها فإن كون المخوف شيطانا أو قولا له مما يوجب عدم الخوف والنهي عنه، وأثبت أبو عمرو ياء وَخافُونِ وصلا وحذفها وقفا والباقون يحذفونها مطلقا وهي ضمير المفعول وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كان الخطاب للمتخلفين فالأمر فيه واضح، وإن كان للخارجين كان مساقا للإلهاب والتهييج لهم لتحقق إيمانهم، وإن كان للجميع ففيه تغليب، وأيّا ما كان فالجزاء محذوف، وقيل: إن كان الخطاب فيما تقدم للمؤمنين الخلص لم يفتقر إلى الجزاء لكونه في معنى التعليل، وإن كان للآخرين افتقر إليه وكأن المعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي لأن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله تعالى على خوف الناس.
هذا (ومن باب الإشارة) في الآيات وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بسيف المحبة أَوْ مُتُّمْ بالموت الاختباري لَمَغْفِرَةٌ أي ستر لوجودكم مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ منه تعالى بتحليكم بصفاته عز وجل خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي أهل الكثرة فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي باتصافك برحمة رحيمية أي رحمة تابعة لوجودك الموهوب الإلهي لا الوجود البشري لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا موصوفا بصفات النفس كالفظاظة والغلظ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ولم يتحملوا مؤنة ذلك، أو يقال: لو لم تغلب صفات الجمال فيك على نعوت الجلال لتفرقوا عنك ولما صبروا معك، أو يقال: لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة، أو يقال: لو كنت مدققا عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ولكن سامحتهم بالشريعة والرخص فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يتعلق بك من تقصيرهم معك لعلو شأنك وكونك لا ترى في الوجود غير الله وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يتعلق بحق الله تعالى لاعتذارهم أو استغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ إذا كنت في مقام الفعل اختبارا لهم وامتحانا لمقامهم فَإِذا عَزَمْتَ وذلك إذا كنت في مقام مشاهدة الربوبية والخروج من التفرقة إلى الجمع فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه حسبك فيما يريد منك وتريد منه، وذكر بعض المتصوفة أنه يمكن أن يفهم من الآية كون الخطاب مع الروح الإنساني وأنه لان (١) لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية لتستوفي حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش ولولا ذلك

(١) قوله: (وأنه لان) إلخ كذا في خطه اهـ مصححه. [.....]

صفحة رقم 341

لاضمحك تلك القوى وتلاشت واختلت الحكمة وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ تحقيق لمعنى التوكل والتوحيد في الأفعال.
وقد ذكر بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن نصر الله تعالى لعباده متفاوت المراتب، فنصره المريدين بتوفيقهم لقمع الشهوات، ونصره المحبين بنعت المدانات، ونصره العارفين بكشف المشاهدات، وقد قيل: إنما يدرك نصر الله تعالى من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه في جميع أسبابه وما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ (١) لكمال قدسه وغاية أمانته فلم يخف حق الله تعالى عن عباده وأعطى علم الحق لأهل الحق ولم يضع أسراره إلا عند الأمناء من أمته أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات لاتصافه بصفات الله تعالى كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وهو الغال المحتجب بصفات نفسه وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وهي أسفل حضيض النفس المظلمة هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أي كل من أهل الرضا والسخط متفاوتون في المراتب حسب الاستعدادات لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ إذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه على المؤمنين ولو تجلى لهم صرفا لا حترقوا بأول سطوات عظمته، ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام مِنْ أَنْفُسِهِمْ كونه في لباس الشر ظاهرا بالصورة التي هم عليها وحمل المؤمنين على العارفين والرسول على الروح الإنساني المنور بنور الأسماء والصفات المبعوث لإصلاح القوى غير بعيد في مقام الإشارة أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ في أثناء السير في الله تعالى وهي مصيبة الفترة بالنسبة إليكم قَدْ أَصَبْتُمْ قوى النفس مِثْلَيْها مرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الأفعال ومرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الصفات قُلْتُمْ أَنَّى أصابنا هذا ونحن في بيداء السير في الله تعالى عز وجل قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ لأنه بقي فيها بقية ما من صفاتها ولا ينافي قوله سبحانه: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لأن السبب الفاعلي في الجميع هو الحق جل شأنه والسبب القابلي أنفسهم، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه، فباعتبار الفاعل يكون من عند الله، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم، وربما يقال ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله تعالى نظرا إلى التوحيد إذ لا غير ثمة وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ سواء قتلوا بالجهاد الأصغر وبذل الأنفس طلبا لرضا الله تعالى أو بالجهاد الأكبر وكسر النفس وقمع الهوى بالرياضة أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ بالحياة الحقيقة مقربين في حضرة القدس يُرْزَقُونَ من الأرزاق المعنوية وهي المعارف والحقائق، وقد ورد في بعض الأخبار أن أرواح الشهداء في أجواب طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، ونقل ذلك بهذا اللفظ بعض الصوفية، وجعل الطير الخضر إشارة إلى الأجرام السماوية، والقناديل من ذهب إشارة إلى الكواكب، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها، وثمارها الأحوال والمعارف.
والمعنى أن أرواح الشهداء تتعلق بالنيرات من الأجرام السماوية بنزاهتها وترد مشارع العلوم وتكتسب هناك المعارف والأحوال، ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي اعتقاده كما أشرنا إليه فيما سبق فإن كان ولا بدّ من التأويل فليجعل الطير إشارة إلى الصور التي تظهر بها الأرواح بناء على أنها جواهر مجردة، وأطلق اسم الطير عليها إشارة إلى خفتها ووصولها بسرعة حيث أذن لها.
ونظير ذلك في الجملة
قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث: «الأطفال هم دعاميص الجنة»
والدعاميص

(١) قوله: (وما كان لنبي أن يغل) وقوله: (أفمن اتبع) إلخ كذا في خطه رحمه الله، ولا يخفى على من حفظ القرآن ما بينهما كتبه مصححه.

صفحة رقم 342

جمع دعموص وهي دويبة تكون في مستنقع الماء كثيرة الحركة لا تكاد تستقر، ومن المعلوم أن الأطفال ليسوا تلك الدويبة في الجنة لكنه أراد صلّى الله عليه وسلم الأخبار بأنهم سياحون في الجنة فعبر بذلك على سبيل التشبيه البليغ، ووصف الطير بالخضر إشارة إلى حسنها وطراوتها، ومنه
خبر «إن الدنيا حلوة خضرة»
وقول عمر رضي الله تعالى عنه: إن الغزو حلو خضر، ومن أمثالهم النفس خضراء، وقد يريدون بذلك أنها تميل لكل شيء وتشتهيه، وأمر الظرفية في الخبر سهل، وباقي ما فيه إما على ظاهره، وإما مؤول، وعلى الثاني يراد من الجنة الجنة المنوية وهي جنة الذات والصفات، ومن أنهارها ما يحصل من التجليات، ومن ثمارها ما يعقب تلك التجليات من الآثار، ومن القناديل المعلقة في ظل العرش مقامات لا تكتنه معلقة في ظل عرش الوجود المطلق المحيط، وكونها من ذهب إشارة إلى عظمتها وأنها لا تنال إلا بشق الأنفس.
وحاصل المعنى على هذا أن أرواح الشهداء الذين جادوا بأنفسهم في مرضاة الله تعالى، أو قتلهم الشوق إليه عز شأنه تتمثل صورا حسنة ناعمة طرية يستحسنها من رآها تطير بجناحي القبول والرضا في أنواع التجليات الإلهية وتكتسب بذلك أنواعا من اللذائذ المعنوية التي لا يقدر قدرها ويتجدد لها في مقدار كل ليلة مقام جليل لا ينال إلا بمثل أعمالهم، وذلك هو النعيم المقيم والفوز العظيم، وكأن من أول هذا الخبر وأمثاله قصد سدّ باب التناسخ ولعله بالمعنى الذي يقول به أهل الضلال غير لازم كما أشرنا إليه في آية البقرة فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الكرامة والنعمة والزلفى عنده وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وهم الغزاة الذين لم يقتلوا بعد، أو السالكون المجاهدون أنفسهم الذين لم يبلغوا درجتهم إلى ذلك الوقت أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوزهم بالمأمن الأعظم، والحبيب الأكرم يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عظيمة وهي جنة الصفات وَفَضْلٍ أي زيادة عليها وهي جنة الذات، ومع ذلك أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ إيمان الْمُؤْمِنِينَ الذي هو جنة الأفعال وثواب الأعمال الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
بالفناء بالوحدة الذاتية والقيام بحق الاستقامة مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي كسر النفس للذين أحسنوا منهم وهم الثابتون في مقام المشاهدة وَاتَّقَوْا النظر إلى نفوسهم لهم أَجْرٌ عَظِيمٌ وراء أجر الإيمان الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ المنكرون قبل الوصول إلى المشاهدة إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ وتحشدوا للإنكار عليكم فَاخْشَوْهُمْ واتركوا ما أنتم عليه فَزادَهُمْ ذلك القول إِيماناً أي يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به وتوصلوا بنفي ما سوى الله تعالى إلى إثباته وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة وقالوا نِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ أي رجعوا بالوجود الحقاني في جنة الصفات والذات لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يؤذهم أحد إذ لا أحد إلا الأحد وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في حال سلوكهم حتى فازوا بجنة الذات المشار إليها بقوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ كما أشرنا إليه إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ المحجوبين بأنفسهم- فلا تخافوا- المنكرين وَخافُونِ إذ ليس في الوجود سواي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي موحدين توحيدا حقيقيا والله تعالى الموفق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتوجيهه إليه تشريفا له بالتسلية مع الإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشؤونه.
والمراد من الموصول إما المنافقون المتخلفون- وإليه ذهب مجاهد وابن إسحاق- وإما قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام لمقاربة عبدة الأوثان- وإليه ذهب أبو علي الجبائي- وإما سائر الكفار- وإليه ذهب الحسن- وإما المنافقون وطائفة من اليهود حسبما عين في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ [المائدة: ٤١]

صفحة رقم 343

قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا [المائدة: ٤١]- وإليه ذهب بعضهم- ومعنى يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه، ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بفي دون إلى الشائع تعديتها بها كما في سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: ١٣٣] وغيره، وأوثر ذلك قيل: للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله سبحانه: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [آل عمران: ١١٤، المؤمنون: ٦١] في حق المؤمنين، وأما إيثار كلمة إلى في آيتها فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والموصول فاعل يَحْزُنْكَ وليست الصلة علة لعدم الحزن كما هو المعهود في مثله لأن الحزن من الوقوع في الكفر هو الأمر اللائق لأنه قبيح عند الله تعالى يجب أن يحزن من مشاهدته فلا يصح النهي عن الحزن من ذلك، بل العلة هنا ما يترتب على تلك المسارعة من مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم إلا أنه عبر بذلك مبالغة في النهي.
والمراد لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك، ويدل على ذلك إيلاء قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً ردا وإنكارا لظن الخوف، والكلام على حذف مضاف، والمراد أولياء الله مثلا للقرينة العقلية عليه، وفي حذف ذلك وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى، وفي ذلك مزيد مبالغة في التسلية، وشَيْئاً في موضع المصدر أي لن يضروه ضررا ما، وقيل: مفعول بواسطة حرف الجر أي لن يضروه بشيء ما أصلا، وتأويل يضروا بما يتعدى بنفسه إلى مفعولين مما لا داعي إليه، ولعل المقام يدعو إلى خلافه، وقرأ نافع- «يحزن» - بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن إلا قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣] فإنه فتحها وضم الزاي، وقرأ الباقون كما قرأ نافع في المستثنى.
وقرأ أبو جعفر عكس ما قرأ نافع، والماضي على قراءة الفتح حزن، وعلى قراءة الضم من أحزن، ومعناهما واحد إلا أن حزن لغة قليلة، وقيل: حزنته بمعنى أحدثت له حزنا. وأحزنته بمعنى عرضته للحزن، وقال الخليل: حزنته بمعنى جعلت فيه حزنا كدهنته بمعنى جعلت فيه دهنا، وأحزنته بمعنى جعلته حزينا.
وقرئ يسرعون بغير ألف من أسرع ويسارعون بالإمالة والتفخيم.
يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ استئناف لبيان الموجب لمسارعتهم كأنه قيل: لم يسارعون في الكفر مع أنهم لا ينتفعون به؟ فأجيب بأنه تعالى يريد أن لا يجعل لهم نصيبا ما من الثواب في الآخرة فهو يريد ذلك منهم، فكيف لا يسارعون، وفيه دليل على أن الكفر بإرادة الله تعالى وإن عاقب فاعله وذمه لأن ذلك لسوء استعداده المقتضي إفاضة ذلك عليه، وذكر بعض المحققين أن في ذكر الإرادة إيذانا بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين، وزعم بعضهم أنه مبني على مذهب الاعتزال وليس كذلك كما لا يخفى لأنه لم يقل لم يرد كفرهم ولا رمز إليه، وصيغة المضارع للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها، ويرجع إلى دوام واستمرار منشأ هذا المراد وهو الكفر ففيه إشارة إلى بقائهم على الكفر حتى يهلكوا فيه وَلَهُمْ مع هذا الحرمان من الثواب بالكلية عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقدر قدره، نقل عن بعضهم أنه لما دلت المسارعة في الشيء على عظم شأنه وجلالة قدرة عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه، وقيل:
إنه لما دل قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً على عظم قدر من قصدوا إضراره وصف العذاب بالعظم إيذانا بأن قصد إضرار العظيم أمر عظيم يترتب عليه العذاب العظيم، والجملة إما حال من الضمير في لهم أي يريد الله تعالى حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم، وإما مبتدأة مبينة لحظهم من العذاب إثر بيان أن لا شيء لهم من الثواب.

صفحة رقم 344
روح المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
أبو المعالي محمود شكري بن عبد الله بن محمد بن أبي الثناء الألوسي
تحقيق
علي عبد البارى عطية
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1415
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية