آيات من القرآن الكريم

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ ۚ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَرْغِيبُ الْمُكَلَّفِينَ فِي الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى الله.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كَمَا نَصَرَكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَا يَغْلِبْكُمْ أَحَدٌ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كَمَا خَذَلَكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ لَمْ يَنْصُرْكُمْ أَحَدٌ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قِيلَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ التَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ، وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَنِ اتَّقَى مَعَاصِيَ اللَّهِ تَعَالَى نَصَرَهُ اللَّهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢٥] ثُمَّ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَهُ، فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، أَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فَقَدْ فَازَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يَفُوزُ بِسَعَادَةٍ لَا شَقَاوَةَ مَعَهَا وَبِعِزٍّ لَا ذُلَّ مَعَهُ، وَيَصِيرُ غَالِبًا لَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ، وَأَمَّا مَنْ أَتَى بِالْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَخْذُلُهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ اللَّهُ فَقَدْ وَقَعَ فِي شَقَاوَةٍ لَا سَعَادَةَ مَعَهَا، وَذُلٍّ لَا عِزَّ مَعَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّهِ، وَالْكَفْرُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِخِذْلَانِهِ، وَالْوَجْهُ فِيهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ مِنْ أَخْذَلَهُ إِذَا جَعَلَهُ مَخْذُولًا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَعْنِي مِنْ بَعْدِ خِذْلَانِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِثْلُ قَوْلِكَ:
لَيْسَ لَكَ مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْكَ مِنْ بَعْدِ فُلَانٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا دَافِعَ لِحُكْمِهِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَكَّلَ الْمُؤْمِنُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لَا عَلَى غيره.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَالَغَ فِي الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ أَحْكَامِ الْجِهَادِ. وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْمَنْعُ مِنَ الْغُلُولِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَفِيهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْغُلُولُ هُوَ الْخِيَانَةُ، وَأَصْلُهُ أَخْذُ الشَّيْءِ فِي الْخُفْيَةِ، يُقَالُ أَغَلَّ الْجَازِرُ وَالسَّالِخُ إِذَا أَبْقَى فِي الْجِلْدِ شَيْئًا مِنَ اللَّحْمِ عَلَى طَرِيقِ الْخِيَانَةِ، وَالْغِلُّ الْحِقْدُ الْكَامِنُ فِي الصَّدْرِ. وَالْغِلَالَةُ الثَّوْبُ الَّذِي يُلْبَسُ تَحْتَ الثِّيَابِ، وَالْغَلَلُ الْمَاءُ الَّذِي يَجْرِي فِي أُصُولِ الشَّجَرَةِ لِأَنَّهُ مُسْتَتِرٌ بِالْأَشْجَارِ وَتَغَلَّلَ الشَّيْءُ إِذَا تَخَلَّلَ وَخَفِيَ،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ بَعَثْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَغَلَّ شَيْئًا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ» وَقَالَ: «هَدَايَا الْوُلَاةِ غُلُولٌ» وَقَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَقَالَ: «لَا إِغْلَالَ وَلَا إِسْلَالَ»
وَأَيْضًا يُقَالُ: أَغَلَّهُ إِذَا وَجَدَهُ غَالًّا، كَقَوْلِكَ: أَبْخَلْتُهُ وَأَفْحَمْتُهُ. أَيْ وَجَدْتُهُ كذلك.

صفحة رقم 411

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو (يَغُلَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ، أَيْ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يَخُونَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ «يَغُلَّ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ، أَيْ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يُخَانَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ، فَبَعْضُهَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الْأُولَى. وَبَعْضُهَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ.
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَفِيهِ رِوَايَاتٌ: الْأُولَى:
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَنِمَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَجَمَعَ الْغَنَائِمَ، وَتَأَخَّرَتِ الْقِسْمَةُ لِبَعْضِ الْمَوَانِعِ، فَجَاءَ قَوْمٌ وَقَالُوا: أَلَا تُقَسِّمُ غَنَائِمَنَا؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا حَبَسْتُ عَنْكُمْ مِنْهُ دِرْهَمًا أَتَحْسَبُونَ أَنِّي أَغُلُّكُمْ مَغْنَمَكُمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَدَاءِ الْوَحْيِ، كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَفِيهِ عَيْبُ دِينِهِمْ وسب آلهتهم، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَتْرَكَ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّالِثُ: رَوَى عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ لَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الرَّابِعُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّ أَشْرَافَ النَّاسِ طَمِعُوا أَنْ يَخُصَّهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْغَنَائِمِ بِشَيْءٍ زَائِدٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الْخَامِسُ:
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعَثَ طَلَائِعَ فَغَنِمُوا غَنَائِمَ فَقَسَّمَهَا وَلَمْ يُقَسِّمْ لِلطَّلَائِعِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
السَّادِسُ:
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حِينَ تَرَكَ الرُّمَاةُ الْمَرْكَزَ يَوْمَ أُحُدٍ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ وَقَالُوا:
نَخْشَى أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَأَنْ لَا يُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ كَمَا لَمْ يُقَسِّمْهَا يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ظَنَنْتُمْ أَنَّا نَغُلُّ فَلَا نَقْسِمُ لَكُمْ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَكْتُمَ الرَّسُولُ شَيْئًا مِنَ الْغَنِيمَةِ عَنْ أَصْحَابِهِ لِنَفْسِهِ، وَعَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ الْمَقْصُودُ نَهْيَهُ عَنِ الْغُلُولِ، بِأَنْ يُعْطَى لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.
وَأَمَّا مَا يُوَافِقُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ: فَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَعَتْ غَنَائِمُ هَوَازِنَ فِي يَدِهِ يَوْمَ حُنَيْنٍ، غَلَّ رَجُلٌ بِمِخْيَطٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظَّمَ أَمْرَ الْغُلُولِ وَجَعَلَهُ مِنَ الْكَبَائِرِ،
عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ فَارَقَ رُوحُهُ جَسَدَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ الْكِبَرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ»
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى ثَقَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُقَالُ لَهُ: كَرْكَرَةُ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ فِي النَّارِ، فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ فَوَجَدُوا عَلَيْهِ كِسَاءً وَعَبَاءَةً قَدْ غَلَّهُمَا،
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّهُ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَرَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَرْكَبَ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إِذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبًا حَتَّى إِذَا أَخْلَقَهُ رَدَّهُ»
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ سَلْمَانَ عَلَى الْغَنِيمَةِ فَجَاءَهُ رَجُلٌ وَقَالَ يَا سَلْمَانُ/ كَانَ فِي ثَوْبِي خَرْقٌ فَأَخَذْتُ خَيْطًا مِنْ هَذَا الْمَتَاعِ فَخِطْتُهُ بِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ جَنَاحٌ؟ فَقَالَ سَلْمَانُ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرِهِ فَسَلَّ الرَّجُلُ الْخَيْطَ مِنْ ثَوْبِهِ ثُمَّ أَلْقَاهُ فِي الْمَتَاعِ،
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَقَالَ أَصَبْتُ هَذَا يَوْمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» وَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي خَيْبَرَ، فَقَالَ الْقَوْمُ لَمَّا مَاتَ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَلَّا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارًا»
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى عَنْ هَذَا النَّهْيِ حَالَتَانِ.
الْحَالَةُ الْأُولَى: أَخْذُ الطَّعَامِ وَأَخْذُ عَلْفِ الدَّابَّةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي فَيَأْخُذُ مِنْهُ قَدْرَ الْكِفَايَةِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ، وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ الْمَدَائِنِ أَرْغِفَةً وَجُبْنًا وَسِكِّينًا، فَجَعَلَ يَقْطَعُ مِنَ الْجُبْنِ وَيَقُولُ: كُلُوا عَلَى اسْمِ الله.

صفحة رقم 412

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَوَقَعَ عَلَى قَفَاهُ فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَقَتَلَهُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْغَيْنِ، بِمَعْنَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَخُونَ، فَلَهُ تَأْوِيلَانِ: الْأَوَّلُ:
أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْخِيَانَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ سَبَبٌ لِلْعَارِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارِ فِي الْآخِرَةِ، فَالنَّفْسُ الرَّاغِبَةُ فِيهَا تَكُونُ فِي نِهَايَةِ الدَّنَاءَةِ، وَالنُّبُوَّةُ أَعْلَى الْمَنَاصِبِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِالنَّفْسِ الَّتِي تَكُونُ فِي غَايَةِ الْجَلَالَةِ وَالشَّرَفِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ فِي النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ مُمْتَنِعٌ، فَثَبَتَ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْخِيَانَةَ لَا تَجْتَمِعَانِ، فَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: ٣٥] يَعْنِي: الْإِلَهِيَّةُ وَاتِّخَاذُ الْوَلَدِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَقِيلَ: اللَّامُ مَنْقُولَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ النَّبِيُّ لِيَغُلَّ، كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَتَّخِذَ وَلَدًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ قَدِ الْتَمَسُوا مِنْهُ أَنْ يَخُصَّهُمْ بِحِصَّةٍ زَائِدَةٍ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَكَانَ ذلك غلو لا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزُّمَرِ: ٦٥] وَقَوْلُهُ: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الْحَاقَّةِ: ٤٤، ٤٥] فَقَوْلُهُ: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أَيْ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا [النُّورِ: ١٦] أَيْ مَا يَحِلُّ لَنَا.
وَإِذَا عَرَفْتَ تَأْوِيلَ الْآيَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَنَقُولُ: حُجَّةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ نَسَبُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغُلُولِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ لَا تَلِيقُ بِهِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فِي التَّنْزِيلِ أُسْنِدَ الْفِعْلُ فِيهِ/ إِلَى الْفَاعِلِ كَقَوْلِهِ: مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ [يوسف: ٣٨] وما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ [يُوسُفَ: ٧٦] وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٥] وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [التوبة: ١١٥] وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٩] وَقَلَّ أَنْ يُقَالَ: مَا كَانَ زَيْدٌ لِيُضْرَبَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ إِلْحَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَيُؤَكِّدُهُ مَا حَكَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنْ يُونُسَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا كَانَ لَكَ أَنْ تُضْرَبَ، بِضَمِّ التَّاءِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَقِيلَ لَهُ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ (يَغُلَّ) فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ النَّبِيُّ يَقْصِدُونَ قَتْلَهُ، فَكَيْفَ لَا يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْخِيَانَةِ؟ وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ (يَغُلَّ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْغَيْنِ فَفِي تَأْوِيلِهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ أَنْ يُخَانَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِيَانَةَ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ مُحَرَّمَةٌ، وَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ بِهَذِهِ الْحُرْمَةِ فِيهِ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ كُلَّمَا كَانَ أَشْرَفَ وَأَعْظَمَ دَرَجَةً كَانَتِ الْخِيَانَةُ فِي حَقِّهِ أَفْحَشَ، وَالرَّسُولُ أَفْضَلُ الْبَشَرِ فَكَانَتِ الْخِيَانَةُ فِي حَقِّهِ أَفْحَشَ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِ حَالًا فَحَالًا، فَمَنْ خَانَهُ فَرُبَّمَا نَزَلَ الْوَحْيُ فِيهِ فَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَضِيحَةُ الدُّنْيَا. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْفَقْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْخِيَانَةُ هُنَاكَ أَفْحَشَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ: أن يكون من الإغلال: أن يخونه أَيْ يُنْسَبَ إِلَى الْخِيَانَةِ، قَالَ الْمُبَرِّدُ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَكْفَرْتُ الرَّجُلَ جَعَلْتُهُ كَافِرًا وَنَسَبْتُهُ إِلَى الْكُفْرِ، قَالَ الْعُتْبِيُّ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ لَقِيلَ: يُغَلَّلُ، كَمَا قِيلَ: يُفَسَّقُ وَيُفَجَّرُ وَيُكَفَّرُ، وَالْأَوْلَى: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَغْلَلْتُهُ، أَيْ وَجَدْتُهُ غَالًّا، كَمَا يُقَالُ أَبْخَلْتُهُ وَأَفْحَمْتُهُ، أَيْ وَجَدْتُهُ كَذَلِكَ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ يَقْرُبُ مَعْنَاهَا مِنْ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، لِأَنَّ

صفحة رقم 413

هَذَا الْمَعْنَى لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ هُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ النَّبِيُّ غَالًّا، لِأَنَّهُ يُوجَدُ غَالًّا إِلَّا إِذَا كَانَ غَالًّا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْغُلُولَ هُوَ الْخِيَانَةُ، إِلَّا أَنَّهُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ صَارَ مَخْصُوصًا بِالْخِيَانَةِ فِي الْغَنِيمَةِ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا أَيْضًا فِي غَيْرِ الْغَنِيمَةِ،
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُنَبِّئَكُمْ بِأَكْبَرِ الْغُلُولِ الرَّجُلَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الدَّارُ وَالْأَرْضُ فَإِنِ اقْتَطَعَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَوْضِعَ حَصَاةٍ طُوِّقَهَا مِنَ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ»
وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ الْمَعْنَى كَوْنُهُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مُبَرَّأً عَنْ جَمِيعِ الْخِيَانَاتِ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَالْكَفَّارُ كَانُوا يَبْذُلُونَ لَهُ الْأَمْوَالَ الْعَظِيمَةَ لِتَرْكِ ادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ أَمِينًا لِلَّهِ فِي الوحي النازل اليه من فوق سبع سموات أَنْ يَخُونَ النَّاسَ! ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ/ الْمُفَسِّرِينَ إِجْرَاءُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا، قَالُوا: وَهِيَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا [التَّوْبَةِ: ٣٥] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ: «لَا أُلْفَيَنَّ أَحَدُكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُكَ»
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: يُمَثَّلُ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: انْزِلْ إِلَيْهِ فَخُذْهُ فَيَنْزِلُ إِلَيْهِ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى رَقَبَتِهِ ذَلِكَ الْغُلُولُ ازْدَادَتْ فَضِيحَتُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ ظَاهِرَهُ، بَلِ الْمَقْصُودُ تَشْدِيدُ الْوَعِيدِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَالتَّصْوِيرِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لُقْمَانَ: ١٦] فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ نَفْسَ هَذَا الظَّاهِرِ: بَلِ الْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ وَعَنْ حِفْظِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَكَذَا هَاهُنَا الْمَقْصُودُ تَشْدِيدُ الْوَعِيدِ، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُ عَلَيْهِ هَذَا الْغُلُولَ وَيُعَزِّرُهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُجَازِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. الثَّانِي: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْكَعْبِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّهُ يَشْتَهِرُ بِذَلِكَ مِثْلَ اشْتِهَارِ مَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يُحْتَمَلُ إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ الْمُعْتَبَرَ فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ يَجِبُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا إِذَا قَامَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ مِنْهُ، وَهَاهُنَا لَا مَانِعَ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ، فَوَجَبَ إِثْبَاتُهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَفِيهِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَلَّا قِيلَ ثُمَّ يُوَفَّى مَا كَسَبَ لِيَتَّصِلَ بِمَا قَبْلَهُ؟
وَالْجَوَابُ: الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الْعُمُومِ أَنَّ صَاحِبَ الْغُلُولِ إِذَا عَلِمَ أَنَّ هَاهُنَا مُجَازِيًا يُجَازِي كُلَّ أَحَدٍ عَلَى عَمَلِهِ سَوَاءٌ كَانَ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَخَلِّصٍ مِنْ بَيْنِهِمْ مَعَ عِظَمِ مَا اكْتَسَبَ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: الْمُعْتَزِلَةُ يَتَمَسَّكُونَ بِهَذَا فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْعَبْدِ فَاعِلًا، وَفِي إِثْبَاتِ وَعِيدِ الْفُسَّاقِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ الْجَزَاءَ عَلَى كَسْبِهِ، فَلَوْ كَانَ كَسْبُهُ خَلْقًا لِلَّهِ لَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى يُجَازِيهِ عَلَى مَا خَلَقَهُ فِيهِ.
وأما الثاني: فلأنه تعالى قال في القائل الْمُتَعَمِّدِ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ [النِّسَاءِ: ٩٣] وَأَثْبَتَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ يَصِلُ إِلَيْهِ جَزَاؤُهُ فَيَحْصُلُ مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَتَيْنِ الْقَطْعُ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ.

صفحة رقم 414
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية