
التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كما نصركم يوم بدر فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما فعل يوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ استفهام إنكاريّ مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة وبطريق المبالغة. وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله، وترغيب في الطاعة، وفيما يستحقون به النصر من الله تعالى والتأييد. وتحذير من المعصية، ومما يستوجبون به العقوبة بالخذلان. كذا في الكشاف. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه، لعلمهم أنه لا ناصر سواه، ولأن إيمانهم يوجب ذلك ويقتضيه- كذا في الكشاف-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة آل عمران (٣) : آية ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١)
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قرئ بالبناء للمعلوم، أي ما صح وما تأتّى لنبيّ من الأنبياء أن يخون في المغنم، بعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل، وعن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم وبالبناء للمجهول، أي ما صح أن ينسب إلى الغلول ويخوّن.
روى أبو داود والترمذيّ «١» عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها، فأنزل الله وَما كانَ لِنَبِيٍّ... الآية. قال الترمذيّ: حسن غريب. ورواه ابن مردويه عن ابن عباس أيضا، ولفظه:
اتهم المنافقون رسول الله ﷺ بشيء فقد، فأنزل الله تعالى وَما كانَ لِنَبِيٍّ | الآية- وهذا تنزيه لمقامه ﷺ الرفيع وتنبيه على |

عصمته. ثم أشار إلى وعيد الغلول بقوله وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي بعينه، حاملا له على ظهره، ليفتضح في المحشر، كما
روى الشيخان «١» عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله ﷺ ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك- لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك- لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول: يا رسول الله أغثني فأفول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك- لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك- لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد بلغت- لفظ مسلم.
وروى البخاريّ «٢» عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كان على ثقل رسول الله ﷺ رجل يقال له (كركرة) فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها
وعن زيد بن خالد الجهنيّ أن رجلا من أصحاب النبيّ ﷺ توفي يوم خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال: إن صاحبكم غلّ في سبيل الله، ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين- أخرجه أبو داود «٣» والنسائيّ-
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد «٤» عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ كان يأخذ الوبرة من جنب البعير من المغنم فيقول: ما لي فيه إلا مثل ما لأحدكم منه. إياكم والغلول، فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك. وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر.
فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. إنه لينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم، وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذكم في الله لومة لائم
. وروى ابن
(٢) أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١٩- باب القليل من الغلول.
(٣) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ١٣٣- باب في تعظيم الغلول، حديث ٢٧١٠. [.....]
(٤) أخرجه في المسند ٥/ ٣٣٠.

ماجة بعضه.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر، أقبل نفر من صحابة النبيّ ﷺ فقالوا: فلان شهيد. فلان شهيد. حتى أتوا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا إني رأيته في النهار في بردة غلها أو عباءة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب! اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال فخرجت فناديت: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون. وكذا رواه مسلم «١» والترمذيّ.
وروى أبو داود «٢» عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله ﷺ إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوزوا بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة. فقال: أسمعت بلالا ينادي ثلاثا؟ قال: نعم. قال:
فما منعك أن تجيء؟ فاعتذر. فقال: كن أنت تجيء به يوم القيامة. فلن أقبله منك.
تنبيه:
من المفسرين من جعل الإتيان بالغلول يوم القيامة مجازا عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما غلّ عما لزمه من الإثم مجازا. قال أبو مسلم: المراد أن الله تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية. وقال أبو القاسم الكعبي: المراد أنه يشتهر بذلك، مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء.
وناقشهما الرازيّ بأن هذا التأويل يحتمل، إلا أن الأصل المعتبر في علم القرآن أنه يجب إجراء اللفظ على الحقيقة، إلا إذا قام دليل يمنعه منه، وهاهنا لا مانع من الظاهر، فوجب إثباته- انتهى. ومما يؤيده
قوله ﷺ «له رغاء، له حمحمة... »
إلخ الظاهر في الحقيقة زيادة في النكال.
ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ تعطى جزاء ما كسبت وافيا، وإنما عمم الحكم ولم يقل: ثم يوفى ما كسب، ليكون كالبرهان على المقصود، والمبالغة فيه، فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله، فالغالّ، مع عظم جرمه بذلك أولى وَهُمْ أي الناس المدلول عليهم بكل نفس لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص ثواب مطيعهم، ولا يزاد في عقاب عاصيهم.
(٢) أخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو في: الجهاد، ١٣٤- باب في الغلول إذا كان يسيرا يتركه الإمام ولا يحرق رحله، حديث ٢٧١٢، بهذا النص.
وأخرجه في المسند أيضا عن عبد الله بن عمرو، حديث ٦٩٩٦.