بِقَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ اثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مُوَاصَلَةَ الْغُمُومِ وَطُولَهَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَاقَبَكُمْ بِغُمُومٍ كَثِيرَةٍ، مِثْلَ قَتْلِ إِخْوَانِكُمْ وَأَقَارِبِكُمْ، وَنُزُولِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ فَوْقِ الْجَبَلِ عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ لَمْ تَأْمَنُوا أَنْ يَهْلَكَ أَكْثَرُكُمْ، وَمِثْلَ إِقْدَامِكُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَثَابَكُمْ هَذِهِ الْغُمُومَ الْمُتَعَاقِبَةَ لِيَصِيرَ ذَلِكَ زَاجِرًا لَكُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُخَالِفُ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَثَابَهُمْ غَمًّا بِغَمٍّ: أَنَّهُ خَلَقَ الْغَمَّ فِيهِمْ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِأُصُولِهِمْ، فَذَكَرُوا فِي عِلَّةِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمَّا أَرَجَفُوا أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَ ذَلِكَ الْقَائِلِ، صَارَ كَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ الْغَمَّ، وَهَذَا كَالرَّجُلِ الَّذِي يَبْلُغُهُ الْخَبَرُ الَّذِي يَغُمُّهُ وَيَكُونُ مَعَهُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ كَذِبٌ، فَإِذَا لَمْ يَكْشِفْهُ لَهُ سَرِيعًا وَتَرَكَهُ يَتَفَكَّرُ فِيهِ ثُمَّ أَعْلَمُهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَهُ: لَقَدْ غَمَّمْتَنِي وَأَطَلْتَ حُزْنِي وَهُوَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ سَكَتَ وَكَفَّ عَنْ إِعْلَامِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا. الثَّانِي: أَنَّ الْغَمَّ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ البعد فَسَبَبُهُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ اللَّهَ طَبَعَ الْعِبَادَ طَبْعًا يَغْتَمُّونَ بِالْمَصَائِبِ الَّتِي تَنَالُهُمْ وَهُمْ لَا يُحْمَدُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُذَمُّونَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَمَّ فِي قَلْبِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ لِرِعَايَةِ بَعْضِ المصالح.
ثم قال تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا [إلى آخر الآية] وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ [آل عمران:
١٥٢] كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا، لِأَنَّ فِي عَفْوِهِ تَعَالَى مَا يُزِيلُ كُلَّ غَمٍّ وَحُزْنٍ، وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّامَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى أَثَابَكُمْ غَمَّ الْهَزِيمَةِ مِنْ غَمِّكُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِ، لِيَكُونَ غَمُّكُمْ بِأَنْ خَالَفْتُمُوهُ فَقَطْ، لَا بِأَنْ فَاتَتْكُمُ الْغَنِيمَةُ وَأَصَابَتْكُمُ الْهَزِيمَةُ، وَذَلِكَ لَأَنَّ الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ يُنْسِي الْغَمَّ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ مَصَائِبِ الدُّنْيَا. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ: جَعَلَكُمْ مَغْمُومِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا جَعَلْتُمُوهُمْ مَغْمُومِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، لِأَجْلِ أَنْ يَسْهُلَ أَمْرُ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ فَلَا تَحْزَنُوا بِفَوَاتِهَا وَلَا تَفْرَحُوا بِإِقْبَالِهَا، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى قَوْلِنَا الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: غَمًّا بِغَمٍّ لِلْمُجَازَاةِ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا بِمَعْنَى «مَعَ» فَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ لَوْ بَقِينَا فِي هَذَا الْمَكَانِ وَامْتَثَلْنَا أَمْرَ الرَّسُولِ لَوَقَعْنَا فِي غَمِّ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ، فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ/ لَمَّا خَالَفْتُمْ أَمْرَ الرَّسُولِ وَطَلَبْتُمُ الْغَنِيمَةَ وَقَعْتُمْ فِي هَذِهِ الْغُمُومِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، وَالْعَاقِلُ إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ الضَّرَرَانِ، وَجَبَ أَنْ يَخُصَّ أَعْظَمَهُمَا بِالدَّفْعِ، فَصَارَتْ إِثَابَةُ الْغَمِّ عَلَى الْغَمِّ مَانِعًا لَكُمْ مِنْ أَنْ تَحْزَنُوا بِسَبَبِ فَوَاتِ الْغَنِيمَةِ، وَزَاجِرًا لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ كَمَا زَجَرَهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ بِهَذَا الزَّجْرِ الْحَاصِلِ فِي الدُّنْيَا، زَجَرَهُمْ عَنْهَا بِسَبَبِ الزَّوَاجِرِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَعْمَالِكُمْ وَقُصُودِكُمْ وَدَوَاعِيكُمْ، قَادِرٌ عَلَى مُجَازَاتِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الزَّوَاجِرِ لِلْعَبْدِ عَنِ الاقدام على المعصية والله أعلم.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
فِي كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَهَذَا النَّصْرُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَسْبُوقًا بِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ الْخَوْفَ عَنْهُمْ/ لِيَصِيرَ ذَلِكَ كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنْجِزُ وَعْدَهُ فِي نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ نَصَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَوَّلًا، فَلَمَّا عَصَى بَعْضُهُمْ سَلَّطَ الْخَوْفَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ أَزَالَ ذَلِكَ الْخَوْفَ عَنْ قَلْبِ مَنْ كَانَ صَادِقًا فِي إِيمَانِهِ مُسْتَقِرًّا عَلَى دِينِهِ بِحَيْثُ غَلَبَ النُّعَاسُ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ كَانُوا جَازِمِينَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَبِيٌّ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وَكَانُوا قَدْ سَمِعُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ الله تَعَالَى يَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ وَيُظْهِرُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، فَكَانُوا قَاطِعِينَ بِأَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ لَا تُؤَدِّي إِلَى الِاسْتِئْصَالِ، فَلَا جَرَمَ كَانُوا آمِنِينَ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَمْنُ إِلَى حَيْثُ غَشِيَهُمُ النُّعَاسُ، فَإِنَّ النَّوْمَ لَا يَجِيءُ مَعَ الْخَوْفِ، فَمَجِيءُ النَّوْمِ يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ الْخَوْفِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَقَالَ هَاهُنَا فِي قِصَّةِ أُحُدٍ فِي هَؤُلَاءِ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً وَقَالَ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الْأَنْفَالِ: ١١] فَفِي قِصَّةِ أُحُدٍ قَدَّمَ الْأَمَنَةَ عَلَى النُّعَاسِ، وَفِي قِصَّةِ بَدْرٍ قَدَّمَ النُّعَاسَ عَلَى الْأَمَنَةِ، وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ كَانُوا شَاكِّينَ فِي نَبُّوتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَا حَضَرُوا إِلَّا لِطَلَبِ الْغَنِيمَةِ، فَهَؤُلَاءِ اشْتَدَّ جَزَعُهُمْ وَعَظُمَ خَوْفُهُمْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ حَالَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ، فَقَالَ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ: «الْأَمَنَةُ» مَصْدَرٌ كَالْأَمْنِ، وَمِثْلُهُ مِنَ الْمَصَادِرِ: الْعَظَمَةُ وَالْغَلَبَةُ، وَقَالَ الْجِبَائِيُّ: يُقَالُ: أَمِنَ فُلَانٌ يَأْمَنُ أَمْنًا وَأَمَانًا.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف: قريء (أَمْنَةً) بِسُكُونِ الْمِيمِ، لِأَنَّهَا الْمَرَّةُ مِنَ الْأَمْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُعاساً وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ أَمَنَةٍ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي قَوْلِهِ: أَمَنَةً وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْهُ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ رَاكِبًا رَجُلًا، وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ بِمَعْنَى نَعَسْتُمْ أَمَنَةً، وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِمَعْنَى ذَوِي أَمَنَةٍ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الْبَصِيرَةِ فِي إِيمَانِهِمْ قَالَ أَبُو طَلْحَةَ، غَشِيَنَا النُّعَاسُ وَنَحْنُ فِي مَصَافِّنَا، فَكَانَ السَّيْفُ يَسْقُطُ مِنْ يَدِ أَحَدِنَا فَيَأْخُذُهُ. ثُمَّ يَسْقُطُ فَيَأْخُذُهُ، وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اشْتَدَّ الْخَوْفُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا النَّوْمَ، وَإِنِّي لَأَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَالنُّعَاسُ يَغْشَانِي يَقُولُ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا/ هَاهُنَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: أُلْقِيَ النَّوْمُ عَلَيْنَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: النُّعَاسُ فِي الْقِتَالِ أَمَنَةٌ، وَالنُّعَاسُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْقِتَالِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ غَايَةِ الْوُثُوقِ بِاللَّهِ وَالْفَرَاغِ عَنِ الدُّنْيَا، وَلَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا مِنْ غَايَةِ الْبُعْدِ عَنِ اللَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ النُّعَاسَ فِيهِ فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى كَافَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لَا عَلَى الْحَدِّ الْمُعْتَادِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مَتَى شَاهَدُوا تِلْكَ الْمُعْجِزَةَ الْجَدِيدَةَ ازْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ، وَمَتَى صَارُوا كَذَلِكَ ازْدَادَ جِدُّهُمْ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَوُثُوقِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ، وَثَانِيهَا: أَنَّ الْأَرَقَ وَالسَّهَرَ
يُوجِبَانِ الضَّعْفَ وَالْكَلَالَ، وَالنَّوْمَ يُفِيدُ عَوْدَ الْقُوَّةِ وَالنَّشَاطِ وَاشْتِدَادَ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا اشْتَغَلُوا بِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ أَلْقَى اللَّهُ النَّوْمَ عَلَى عَيْنِ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لِئَلَّا يُشَاهِدُوا قَتْلَ أَعِزَّتِهِمْ، فَيَشْتَدَّ الْخَوْفُ وَالْجُبْنُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْأَعْدَاءَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى قَتْلِهِمْ، فَبَقَاؤُهُمْ فِي النَّوْمِ مَعَ السَّلَامَةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَعْرَكَةِ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ حِفْظَ اللَّهِ وَعِصْمَتَهُ مَعَهُمْ، وَذَلِكَ مِمَّا يُزِيلُ الْخَوْفَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَيُورِثُهُمْ مَزِيدَ الْوُثُوقِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: ذِكْرُ النُّعَاسِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ الْأَمْنِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ مَعَ اشْتِمَالِهَا عَلَى هَذِهِ الْفَوَائِدِ وَالْحِكَمِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَغْشى بِالتَّاءِ رَدًّا إِلَى الْأَمَنَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ رَدًّا، إِلَى النُّعَاسِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَاتِمٍ وَخَلَفٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمَنَةَ وَالنُّعَاسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ، فَلَا جَرَمَ يَحْسُنُ رَدُّ الْكِنَايَةِ إِلَى أَيِّهِمَا شِئْتَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ [الدُّخَانِ: ٤٣- ٤٥] وَتَغْلِي، إِذَا عَرَفْتَ جَوَازَهُمَا فَنَقُولُ: مِمَّا يُقَوِّي الْقِرَاءَةَ بِالتَّاءِ أَنَّ الْأَصْلَ الْأَمَنَةُ، وَالنُّعَاسُ بَدَلٌ، وَرَدُّ الْكِنَايَةِ إِلَى الْأَصْلِ أَحْسَنُ، وَأَيْضًا الْأَمَنَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْأَمَنَةُ حَصَلَ النُّعَاسُ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ، فَإِنَّ الْخَائِفَ لَا يَكَادُ يَنْعَسُ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ فَحُجَّتُهُ أَنَّ النُّعَاسَ هُوَ الْغَاشِي، فَإِنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ غَشِيَنَا النُّعَاسُ، وَقَلَّمَا يَقُولُونَ غَشِيَنِي مِنَ النُّعَاسِ أَمَنَةٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ النُّعَاسَ مَذْكُورٌ بِالْغَشَيَانِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الْأَنْفَالِ: ١١] وَأَيْضًا: النُّعَاسُ يَلِي الْفِعْلَ، وَهُوَ أَقْرَبُ فِي اللَّفْظِ إِلَى ذِكْرِ الْغَشَيَانِ مِنَ الْأَمَنَةِ فَالتَّذْكِيرُ أَوْلَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُنَافِقُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمُعَتَّبُ بْنُ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابُهُمَا، كَانَ هَمُّهُمْ/ خَلَاصَ أَنْفُسِهِمْ، يُقَالُ: هَمَّنِي الشَّيْءُ أَيْ كَانَ مِنْ هَمِّي وَقَصْدِي، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنْ يَقُولُوا لِمَنْ خَافَ، قَدْ أَهَمَّتْهُ نَفْسُهُ، فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ لِشِدَّةِ خَوْفِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ طَارَ النَّوْمُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ الْمُؤْمِنُونَ، كَانَ هَمَّهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِخْوَانَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُنَافِقُونَ كَانَ هَمُّهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَدَّ اشْتِغَالُهُ بِالشَّيْءِ وَاسْتِغْرَاقُهُ فِيهِ، صَارَ غَافِلًا عَمَّا سِوَاهُ، فَلَمَّا كَانَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إِلَى الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ، فَعِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ يَصِيرُ ذَاهِلًا عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْخَوْفِ وَهِيَ قَصْدُ الْأَعْدَاءِ كَانَتْ حَاصِلَةً وَالدَّافِعُ لِذَلِكَ وَهُوَ الْوُثُوقُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعْدِ رَسُولِهِ مَا كَانَ مُعْتَبَرًا عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالرَّسُولِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا جَرَمَ عَظُمَ الْخَوْفُ فِي قلوبهم.
المسألة الثانية: «طائفة» رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ «يَظُنُّونَ» وَقِيلَ خَبَرُهُ «أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الصِّفَاتِ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: مِنْ صِفَاتِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي هَذَا الظَّنِّ احْتِمَالَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ لَمَا سُلِّطَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِ وَهَذَا ظَنٌّ فَاسِدٌ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّ النُّبُوَّةَ خِلْعَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُشَرِّفُ عَبْدَهُ بِهَا، وَلَيْسَ يَجِبُ فِي الْعَقْلِ أَنَّ الْمَوْلَى إِذَا شَرَّفَ عَبْدَهُ بِخِلْعَةٍ أَنْ يُشَرِّفَهُ بِخِلْعَةٍ أُخْرَى، بَلْ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَيْفَ
شَاءَ بِحُكْمِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمَصَالِحَ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ، بِحَيْثُ يَقْهَرُ الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، حِكَمٌ خَفِيَّةٌ وَأَلْطَافٌ مَرْعِيَّةٌ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ، وَوُجُوهُ الْمَصَالِحِ مَسْتُورَةٌ عَنِ الْعُقُولِ، فَرُبَّمَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ حَتَّى يَقْهَرَ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ، وَرُبَّمَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي تَسْلِيطِ الْفَقْرِ وَالزِّمَانَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْقَفَّالُ: لَوْ كَانَ كَوْنُ الْمُؤْمِنِ مُحِقًّا يُوجِبُ زَوَالَ هَذِهِ الْمَعَانِي لَوَجَبَ أَنْ يُضْطَرَّ النَّاسُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ بِالْجَبْرِ، وَذَلِكَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ وَاسْتِحْقَاقَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، بَلِ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ مُحِقًّا بِمَا مَعَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ، فَأَمَّا الْقَهْرُ فَقَدْ يَكُونُ مِنَ الْمُبْطِلِ لِلْمُحِقِّ، وَمِنَ الْمُحِقِّ لِلْمُبْطِلِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ كَافِيَةٌ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِالدَّوْلَةِ وَالشَّوْكَةِ وَوُفُورِ الْقُوَّةِ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا عَلَى الْحَقِّ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الظَّنَّ هُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ إِلَهَ الْعَالَمِ بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ الْقَادِرَ عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ، وَيُنْكِرُونَ النُّبُوَّةَ وَالْبَعْثَ، فَلَا جَرَمَ مَا وَثِقُوا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنَّ اللَّهَ يُقَوِّيهِمْ وَيَنْصُرُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: غَيْرَ الْحَقِّ فِي حُكْمِ الْمَصْدَرِ، وَمَعْنَاهُ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الظَّنِّ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بَدَلٌ مِنْهُ، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ: أَدْيَانٌ كَثِيرَةٌ، وَأَقْبَحُهَا مَقَالَاتُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الظَّنِّ الْحَقِّ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمُ اخْتَارُوا مِنْ أَقْسَامِ الْأَدْيَانِ الَّتِي غَيْرُ حَقَّةٍ أَرَكَّهَا وَأَكْثَرَهَا بُطْلَانًا، وَهُوَ ظَنُّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ دِينُهُ لَيْسَ بِحَقٍّ، دِينُهُ دِينُ الْمَلَاحِدَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي قَوْلِهِ: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَقَوْلِكَ: حَاتِمُ الْجُودِ، وَعُمَرُ الْعَدْلِ، يُرِيدُ الظَّنَّ الْمُخْتَصَّ بِالْمِلَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ ظَنَّ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قوله هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ حِكَايَةٌ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ أَهْلُ النِّفَاقِ بِهَا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا شَاوَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ إِنَّ الصَّحَابَةَ أَلَحُّوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عَصَانِي وَأَطَاعَ الْوِلْدَانَ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ الْقَتْلُ فِي بَنِي الْخَزْرَجِ وَرَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قِيلَ لَهُ: قُتِلَ بَنُو الْخَزْرَجِ، فَقَالَ: هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ، يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَقْبَلْ قَوْلِي حِينَ أَمَرْتُهُ بِأَنْ يَسْكُنَ فِي الْمَدِينَةِ وَلَا يَخْرُجَ مِنْهَا، وَنَظِيرُهُ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا [آلِ عِمْرَانَ: ١٦٨] وَالْمَعْنَى: هَلْ لَنَا مِنْ أَمْرٍ يُطَاعُ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي التَّأْوِيلِ: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الدَّوْلَةُ لِعَدُوِّهِ قَالُوا: عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَقَوْلُهُ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أَيْ هَلْ لَنَا مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي كَانَ يَعِدُنَا بِهِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ النُّصْرَةُ وَالْقُوَّةُ شَيْءٌ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَكَانَ غَرَضُهُمْ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَاذِبًا فِي ادِّعَاءِ النُّصْرَةِ وَالْعِصْمَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأُمَّتِهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنَطْمَعُ أَنْ تَكُونَ لَنَا الْغَلَبَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَصْبِيرُ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّشْدِيدِ فِي الْجِهَادِ وَالْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (كُلُّهِ) بِرَفْعِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ، أَمَّا وَجْهُ الرَّفْعِ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: (كُلُّهُ)
مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: (لِلَّهِ) خَبَرُهُ، ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الجملة خبراً لإن، وَأَمَّا النَّصْبُ فَلِأَنَّ لَفْظَةَ «كُلٍّ» لِلتَّأْكِيدِ، فَكَانَتْ كَلَفْظَةِ أَجْمَعَ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ أَجْمَعَ، لَمْ يَكُنْ إِلَّا النَّصْبُ، فَكَذَا إِذَا قَالَ «كُلَّهُ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْجَوَابِ مَا بَيَّنَّا: أَنَّا إِذَا قُلْنَا بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى اللَّهِ اعْتِرَاضٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ فِي الْإِمَاتَةِ وَالْإِحْيَاءِ، وَالْفَقْرِ وَالْإِغْنَاءِ وَالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَإِنْ قُلْنَا بِمَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، فَوُجُوهُ الْمَصَالِحِ مَخْفِيَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، فَرُبَّمَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِيصَالِ السُّرُورِ وَاللَّذَّةِ، وَرُبَّمَا كَانَتْ فِي تَسْلِيطِ الْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ، فَقَدِ انْدَفَعَتْ شُبْهَةُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمُحْدَثَاتِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا لَوْ قَبِلَ مِنَّا رَأْيَنَا وَنُصْحَنَا، لَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمِحْنَةِ، فَأَجَابَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ: إِنَّمَا يَنْتَظِمُ لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ إِذْ لَوْ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ مَشِيئَتِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْجَوَابُ دَافِعًا لِشُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا فَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابِقٌ لِلْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ، إِمَّا وَاجِبٌ لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، وَالْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ لَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَنِدٌ إِلَى إِيجَادِهِ وَتَكْوِينِهِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ لَا اخْتِصَاصَ لَهَا بِمُحْدَثٍ دُونَ مُحْدَثٍ، أَوْ مُمْكِنٍ دُونَ مُمْكِنٍ، فَتَدْخُلُ فِيهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَحَرَكَاتُهُمْ وَسَكَنَاتُهُمْ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَهَذَا كَلَامٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْإِنْصَافِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ [إلى آخر الآية].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ مُحْتَمَلٌ، فَلَعَلَّ قَائِلَهُ كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُحِقِّينَ، وَكَانَ غَرَضُهُ مِنْهُ إِظْهَارَ الشَّفَقَةِ، وَإِنَّهُ مَتَى يَكُونُ الْفَرَجُ؟ وَمِنْ أَيْنَ تَحْصُلُ النُّصْرَةُ؟ وَلَعَلَّهُ كَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنَّمَا قَالَهُ طَعْنًا فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي الْإِسْلَامِ فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ غَرَضَ هَؤُلَاءِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي، وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا التَّنْبِيهِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَحَرِّزًا عَنْ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي حَكَى اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، قَوْلُهُمْ: لَوْ كان لنا من الأمر شيء ما قلنا هَاهُنَا.
وَفِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ قَوْلَهُمْ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ فَأَجَابَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ وَاحْتَجَّ الْمُنَافِقُونَ عَلَى الطَّعْنِ فِي هَذَا الْجَوَابِ بِقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ لَمَا خَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَا قُتِلْنَا هَاهُنَا، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ، وَهَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ الْمُنَاظَرَةُ الدَّائِرَةُ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الِاعْتِزَالِ/ فَإِنَّ السُّنِّيَّ يَقُولُ: الْأَمْرُ كُلُّهُ فِي الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ بِيَدِ اللَّهِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَزِلِيُّ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُخْتَارٌ مُسْتَقِلٌّ بِالْفِعْلِ، إِنْ شَاءَ آمَنَ، وَإِنْ شَاءَ كَفَرَ، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ شُبْهَةً مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا، بَلْ يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ الطَّعْنَ فِيمَا جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَوَابًا عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَنَّهُ هَلْ لَنَا مِنَ النُّصْرَةِ الَّتِي وَعَدَنَا بِهَا مُحَمَّدٌ شَيْءٌ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنا هاهُنا هُوَ مَا كَانَ يَقُولُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ مِنْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَوْ أَطَاعَنِي وَمَا خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أوجه: