آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِنْكُمْ ۖ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ

قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت «١». فثابوا إلى وعيهم واستمسكوا بحبل الله ورسالة نبيه ودافعوا عنها وقاموا بواجبهم في نشرها في مشارق الأرض ومغاربها وكانوا نعم الأسوة الحسنة لمن يأتي بعدهم من المسلمين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
. (١) إذ تحسّونهم: إذ تمعنون فيهم قتلا.

(١) انظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٣٤ و ٣٣٥.

صفحة رقم 242

(٢) إذ تصعدون: قرئت بفتح التاء وضمها. ومعناها في الجملة الأولى من الصعود إلى الجبل. وفي الثانية من الإصعاد وهو الهبوط أو السير في مستوى الأرض وبطون الأودية. وهناك من قال إنها هنا أيضا بمعنى الصعود إلى الجبل.
والروايات تذكر أن النبي نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد. فإذا كان هذا المنزل كان بين المدينة وأحد فتكون الكلمة من الإصعاد وإذا كان من وراء الجبل فتكون من الصعود.
(٣) يدعوكم في أخراكم: يناديكم من ورائكم وأنتم منهزمون.
(٤) أثابكم غمّا بغمّ: قالوا إن فعل (أثاب) في أصله بمعنى جزى وكافأ.
وإنه يستعمل في الجزاء الحسن والسيء على السواء. وإن كان استعماله في الحسن أكثر. وهنا في معناه الأصلي. وقيل في الجملة إنها بمعنى أصابكم بغمّ مقابل الغمّ الذي أصاب عدوّكم يوم بدر فكانت واحدة بواحدة. وقيل إنها بمعنى أصابكم أو جازاكم بغمّ بعد غمّ وهو خبر قتل النبي ﷺ ثم ما كان من قتل في المسلمين وهزيمتهم. وقيل إنها بمعنى جازاكم بغمّ القتل والهزيمة على ما سببتموه للنبي من غمّ بعصيان أمره والمعنى الأول للتهوين. ولعلّه يتسق أكثر مع الجملة التي أتت بعده هذه الجملة لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ والمعنى الثالث قوي الورود أيضا.
(٥) ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا: ثم سلّط عليكم بعد الغمّ الذي حلّ فيكم من الهزيمة نعاسا تشعرون معه بالأمن والسكينة.
(٦) لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم: لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى المكان الذي قدر عليهم أن يموتوا فيه حينما يكون أجلهم قد أتى ولا يمنع ذلك أن يبقوا في بيوتهم.
(٧) وليبتلي الله ما في صدوركم: ليختبر الله وليظهر ما في قلوبكم.
(٨) وليمحص ما في قلوبكم: ليصفي ويطهّر ما في صدوركم.

صفحة رقم 243

في الآيات خطاب موجه للمسلمين:
١- حذروا به من استماع أقوال الكفار وإطاعتهم لأنهم إن فعلوا ذلك ردوهم عن إيمانهم فانقلبوا خاسرين.
٢- وطمئنوا به بأن الله مولاهم وناصرهم دائما وهو خير الناصرين وبأنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار بسبب إشراكهم مع الله شركاء ما أنزل بهم من سلطان وبأنه أعدّ لهم في الآخرة مأوى بئس هو من مأوى للظالمين أمثالهم.
٣- ودلّل به لهم على ذلك بما كان من ظروف معركة أحد في أول أمرها:
فقد صدقهم الله وعده بنصرهم فمكّنهم من عدوهم وجعلهم يمعنون فيهم قتلا.
وأراهم ما أحبوا من النصر. وإذا كان الموقف انقلب ضدهم فلم يكن ذلك إلّا بسبب تخاذلهم وقلّة صبرهم وعصيانهم أمر الرسول وتنازعهم. وانقسامهم إلى فئتين واحدة منهما كان همّها الدنيا بينما كان همّ الأخرى الآخرة. وقد كان نتيجة ذلك أن انهزموا مصعدين لا يلوون على شيء والرسول يهتف بهم من ورائهم ويدعوهم إلى الرجوع إليه.
٤- وسكّن به مع ذلك روعهم. فلقد كان ما كان من صرف النصر عنهم اختبارا من الله عزّ وجلّ. ومقابلة عاجلة على ما بدا منهم من تقصير وعصيان وفشل ونزاع. ولقد شملهم الله مع ذلك بعفوه وفضله وهو ذو الفضل على المؤمنين حتى لقد كان من مظاهر ذلك أن ألقى الأمن والسكينة في قلوبهم فأخذهم النعاس وهو لا يغشى إلّا الآمن المطمئن. وكل هذا حتى لا يحزنوا ولا يجزعوا على ما فاتهم من نصر ولا ما أصابهم من هزيمة.
٥- وندّد بفريق منهم أهمّتهم أنفسهم همّا عظيما ولم يذعنوا لقضاء الله ويسلموا لحكمه وحكمته فيما جرى مندفعين في ذلك وراء الظنون والخواطر الجاهلية التي تتناقض مع الإيمان بالله متسائلين عما إذا كان من الحق أن لا يقام لهم وزن ولا يكون لهم رأي في الموقف كاتمين في صدورهم خواطر مريبة أخرى لا يجرؤون على إظهارها قائلين إنهم لو كان لهم في الموقف رأي وفي الأمر

صفحة رقم 244

والتدبير كلمة مسموعة لما قتل الذين قتلوا منهم ولما كانت الهزيمة التي حلّت بهم.
٦- وتنبيه لهؤلاء خاصة بأن عليهم أن يعلموا أن الأمر كله لله وأن الطاعة له وحده وأن موت من مات إنما كان بالأجل الذي ليس فيه تقدم ولا تأخر وأن الناس لو ظلوا في بيوتهم ولم يخرجوا إلى المعركة لما كان من معدى عن خروج الذين قتلوا بأي حال وسبب حتى يموتوا في الأماكن التي قتلوا فيها وأن الله عليم بكل ما يدور في صدورهم. وأنه قضى بما قضى ليختبر ما في هذه الصدور حتى يظهر ويعرف الناس بعضهم بعضا على حقائقهم وليطهر قلوب المؤمنين وينقيها.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) وما بعدها لغاية الآية [١٥٤] وما فيها من مشاهد وقعة أحد
وقد روى المفسرون «١» أن الآية [١٤٩] نزلت في المنافقين الذين قالوا للمؤمنين ارجعوا إلى إخوانكم أو ارجعوا إلى دينهم أو كفّوا عن القتال. وأن الآية [١٥١] نزلت في قريش الذين توقفوا في الطريق ولاموا أنفسهم على تركهم المسلمين دون أن يستأصلوهم مع أنهم لم يبق منهم إلّا الشريد ثم عزموا على الكرة فألقى الله الرعب في قلوبهم وجعلهم ينكصون عن عزيمتهم.
والمتبادر أن الآيات وحدة مترابطة وأنها استمرار للسياق السابق وقد نزلت جميعها مع جميع الآيات الأخرى بعد انتهاء المعركة.
وهذا لا ينفي أن يكون للرواية الأولى أصل ما وأن يكون بعض كفار قريش

(١) انظر تفسير الطبرسي والخازن.

صفحة رقم 245

أو بعض منافقي المدينة أو عزوا إلى أقاربهم من المخلصين بالانقضاض من حول النبي، وقد ألمّ بهم ما ألمّ من هزيمة ومصيبة فاحتوت الآية الأولى إشارة إلى ذلك وتحذيرا من الاستماع إلى الكفار وما في ذلك من خسران في معرض ما احتوته الآيات من تطمينات وتنبيهات. وكذلك يقال بالنسبة للرواية الثانية أيضا. ولقد روينا قبل أن قريشا ندموا على الرجوع قبل استئصال المسلمين وفكروا في الكرة وأن النبي ﷺ لما بلغه ذلك ندب المسلمين إلى الخروج للقائهم ووصل إلى مكان اسمه حمراء الأسد فوجد المشركين قد انصرفوا «١». وكان ذلك رعبا وخوفا حينما بلغهم أن النبي هو الذي سارع إليهم على رأس المسلمين رغم ما أصابهم بدلا من أن يخافوا من كرّتهم.
ولقد احتوت الآيات بعض مشاهد المعركة وهي متوافقة إجمالا مع ما ذكرته الروايات ورويناه في سياق تفسير الآيات [١٣٧- ١٤٢] وهو ليس بقصد السرد القصصي وإنما بقصد العتاب والتأنيب للذين انهزموا وتذمروا وجزعوا وعصوا أمر رسول الله وتنازعوا وتخاذلوا بعد أن كان الله قد حقّق لهم وعده ونصرهم في الجولة الأولى ثم بقصد تحذيرهم من طاعة الكفار وتصديقهم.
ولقد أوّل المؤولون جملة يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بمعنى أنهم ظنوا كظنّ المشركين أن الله لن ينصر رسوله خلافا لما وعده به من النصر لأن النبي في قلّة والمشركين في كثرة. وهو في محلّه.
ولقد روى المفسرون في سياق جملة ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ حديثا عن أبي طلحة رواه البخاري والترمذي أيضا جاء فيه:
«كنت ممن تغشّاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا. يسقط وآخذه.
ويسقط وآخذه. وزاد الترمذي والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم همّ إلّا أنفسهم. أجبن قوم وأرغبه وأخذله للحقّ»
«٢». وحديثا آخر عن أبي طلحة رواه

(١) انظر تفسير الطبري للآية.
(٢). التاج ج ٤ ص ٧٥ و ٧٦. [.....]

صفحة رقم 246

الترمذي جاء فيه: «رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلّا يميد تحت حجفته من النعاس فذلك قول الله ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» ».
ونحن نتوقف في التسليم بأن الطائفة الأخرى هم المنافقون على ما جاء في الزيادة التي يرويها الترمذي في الحديث الأول برغم أن جمهور المفسرين أخذوا بذلك. وتوقفنا هو استلهام من روح الآيات ومضمونها. ونرجح أنهم فئة من المخلصين الذين اشتدت عليهم المصيبة والجزع. وربما كانوا ممن استشهد أقاربهم في الوقعة. ويؤيد توقفنا وترجيحنا أن الروايات ذكرت أن المنافقين انسحبوا ولم يشهدوا المعركة على ما ذكرناه قبل. وقد أيدت هذا الآيات [١٦٧ و ١٦٨] التي تأتي بعد قليل بقوة أكثر من الرواية لأنها حكت دعوة المنافقين إلى القتال وعدم تلبيتهم وقولهم لو نعلم قتالا لا تبعناكم. وهناك دليل آخر على كون هذه الفئة هي من غير المنافقين وهو منطو في الآيات [١٥٦- ١٥٩] التي تأتي بعد قليل أيضا. ولعل الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها أي [١٤٩] التي فيها تحذير للمؤمنين من طاعة الكفار والاستماع إليهم تصحّ أن تكون دليلا آخر على ذلك أيضا. وفي جملة يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أيضا قرينة أخرى. فلو كانوا منافقين لما عوتبوا على ظنهم بالله غير الحق لأن هذا من ديدنهم.
وواضح أن الآيات كسابقاتها بسبيل معالجة الحالة المريرة التي نتجت عن هزيمة أحد. وما أصاب المسلمين فيها من خسائر في الأرواح والجراحات بما فيها من تطمين وتنبيه وتأديب ثم من تحذير من المنافقين والكفار والغلوّ من اليأس أو الانحراف إلى ما لا يليق بالمؤمن المخلص تجاه الله عزّ وجلّ.
ومع خصوصيتها الزمنية فإن فيها تلقينا مستمر المدى لكل مسلم في كل موقف مماثل وبخاصة في وجوب عدم الاستماع إلى وساوس الكفار والمنافقين الذين يغتنمون فرصة الظروف والحالات التي يكون المسلمون فيها أمام مواقف

(١) التاج، ج ٤ ص ٧٥ و ٧٦. والحجفة: محركة آلة من آلات الحرب.

صفحة رقم 247

حرجة وأزمات خطرة فيتقدمون إليهم بأسلوب النصح الذي يكون كالسمّ في الدسم. وفيها في الوقت نفسه معالجة روحية وقوة نافذة من شأنها أن تمدّ المؤمن بالجرأة والصبر وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا في كل موقف مماثل.
ولقد استطرد بعض المفسرين إلى مسألة القدر في مناسبة جملة قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ولقد كتبنا تعليقا مسهبا على هذه المسألة في سورة القمر فنكتفي بهذا التنبيه مع القول إن الجملة هنا هي في صدد معالجة الموقف والله تعالى أعلم.
تعليق على تعبير الْجاهِلِيَّةِ
وهذا التعبير يرد هنا لأول مرة. ولقد ورد في آيات أخرى، منها ما جاء في مقام مماثل لما ورد فيه هنا وذلك في آية سورة الفتح [٢٦] : إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ومنها ما جاء في معنى الحكم الذي لا يستند إلى حقّ وشرع وكتاب من الله وذلك في آية سورة المائدة هذه: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) ومنها ما جاء في معنى الدور الذي سبق الإسلام وذلك في الآية [٣٣] من سورة الأحزاب: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى.
وأصل الكلمة اشتقاق من فعل (جهل) الذي هو في الغالب ضد (علم) والذي يأتي في الاستعمال العربي المتواتر في معان عديدة أخرى لا تبعد عن معنى الجهل ومظاهره. مثل التطاول على الغير وارتكاب الموبقات والتسرع والرعونة وعدم التروي وعدم النضج والانفعال النفساني والعاطفي. ومن ذلك خطاب يوسف لإخوته المحكي في الآية [٨٩] من سورة يوسف: قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ وآية الحجرات هذه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦). ومنها البيت المشهور:

صفحة رقم 248
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية