«وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» (١٤٧) نعمتك الجاحدين دينك المكذبين نبيك «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا» بالنصر والغنيمة والثناء «وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ» بالغفران ودخول الجنان ومرافقة الأعيان لحسن صنيعهم «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (١٤٨) في أعمالهم ونياتهم، وهذه الآيات فيها تعليم من الله لعباده بأن يفعلوا كفعلهم ويقولوا كقولهم. قال الله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا» من المنافقين واليهود الذين يشيرون عليكم بترك الجهاد ويخوفونكم عاقبته «يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» في الكفر الذي كنتم فيه «فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (١٤٩) في الدنيا والآخرة «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ» فأطيعوه واستعينوا به «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» (١٥٠) لكم وهؤلاء الذين يغرونكم ويغرّونكم لا قدرة لهم على نصركم «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» في الدنيا منكم حتى تقهروهم ويظهر دينكم على سائر الأديان «بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ» بسبب اتخاذهم شريكا لله، والله تعالى ليس له شريك ولهذا قال «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ» في الآخرة وهو مثوى كل ظالم «وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ» (١٥١) النار، وفي هذه الآية بشارة عظيمة للمسلمين لما فيها من إخبار الله تعالى لهم بالظفر في الدنيا ووعد لهم بالمغفرة في الآخرة، ويوجد في القرآن ٣٦ آية مبدوءة بلفظ بل. قال تعالى «وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ» بالنصر والظفر قبلا في واقعة بدر وفي واقعة أحد أيضا لأن الظفر كان لهم مبدئيا وقد هزموا المشركين إلا أن أهل النبل لما خالفوا أمر الرسول وتركوا مواقعهم التي عينها لهم طلبا للغنيمة رأى الكفّار خلو ظهور المسلمين منهم كروا عليهم فغلبوهم وانقلب الأمر كما تقدم في القصة آنفا، واذكروا عباد الله «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ» تقتلونهم وعليه قول عتبة الليثي:
نحسهم بالبيض حتى كأننا
نفلق منهم بالجماجم حنظلا
وقد استشهد بهذا البيت ابن عباس على أن معنى الحس القتل، وقال غيره:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد
فحس به الأعداء عرض العساكر
ومعنى حسّه أصاب حاسته بآفة فأبطلها ولذا قال بعضهم: تبطلون حسهم بالقتل
صفحة رقم 414
الذريع. وما كان ذلك إلا «بِإِذْنِهِ» إذ أجاز لكم قتالهم فقتلوا بقضاء الله وقدره «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» الذي أمركم به رسولكم فقلتم وما نصنع بمكاننا وقد انهزم وغلبوا وقلتم إنما أمرنا أن لا نبرح مكاننا حتى الغلب وقد كان ولكنكم خالفتم «وَعَصَيْتُمْ» أمره إذ قال لكم لا تبارحوا أبدا غلبنا أو غلبنا «مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ» من النصر والظفر بأعدائكم تركتم مواقعكم الحربية المقدر نصر الله على ثبوتكم فيها وخذلانه لكم على مبارحتها وذلك لأن «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا» فترك موقعه وذهب ابتغاء الغنيمة ولم تعلموا ما يصيبكم بسبب مخالفة رسولكم «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» فثبت مكانه وحافظ على وصية رسوله حتى قتل كالأمير عبد الله بن جبير ورفقائه رحمهم الله «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» عن الكافرين وكف معونته لكم فغلبوكم بسبب خلو ظهركم من أهل النيل الذين كانوا مانعين الكفرة من الوصول إليكم حسب التعبئة التي رتبها حضرة الرسول، وفعل ذلك «لِيَبْتَلِيَكُمْ» يمتحنكم ويختبركم ليعلم صبركم وثباتكم ويظهر لكم ضعيفي الإيمان من غيرهم الذين تعودوا الارتداد وطلب المعونة من المنافقين الذين سببوا لكم الهزيمة والانكسار بتركهم مواقعهم التي أمروا بالبقاء فيها «وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» أيها المخلصون لما يعلم من نيتكم حين مبارحتكم أمكنتكم إذ غلب على ظنكم استمرار هزيمتهم وأمنتم من كرّتهم فأقدمتم على الغنيمة لئلا يختص بها أصحابكم وليس لأمر آخر، وهذا لم يعجل عقوبتكم بفضله «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» (١٥٢) خاصة والعالمين عامة، وفي هذه الآية دليل على أن مرتكب الكبيرة مؤمن لأن الله سماهم مؤمنين مع أنهم خالفوا أمر الرسول بأشد الأوقات ومخالفته من الكبائر، وردّ لمن قال إن مرتكب الكبيرة كافر خلافا لما عليه إجماع أهل السنة والجماعة القائل قائلهم:
ومن يمت ولم يتب من ذنبه... فأمره مفوض لربه
واذكروا أيها المؤمنون «إِذْ تُصْعِدُونَ» بضم التاء أي في الأرض هربا من عدوكم لأن هذا الفعل من أصعد والإصعاد الإبعاد في الأرض، وقرىء بفتح التاء من صعد إذ يقال صعد في الجبل والصعود الارتقاء من الأسفل إلى الأعلى وضده
صفحة رقم 415
الهبوط «وَلا تَلْوُونَ» تلتفتون حال انهزامكم «عَلى أَحَدٍ» منكم بفتح الهمزة والحاء، وما قاله بعض المتهوكين بضمها لا صحة له ولم يقرأ بها أحد من القراء إذ لا معنى لها هنا، والقراءة الصحيحة على فتحها أي لا تنظرون ولا تميلون على أحد منكم لتعينوه أو تخلّصوه بل كل منكم هارب على جهة لا يهمه شأن غيره وكان الأجدر بكم أن تنأنوا وتراعوا بعضكم فتساعدوا العاجز وتعينوا الجريح وتعاونوا المريض وتأخذوهم معكم ولا تتركونهم لأعدائكم ليجهزوا عليهم «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» يناديكم من ورائكم: إلي عباد الله من كر فله الجنة ولم تلتفتوا إليه ولم تعلموا أن من فرّ له النار، ولولا عفو الله عنكم إكراما لرسولكم لعاقبكم «فَأَثابَكُمْ غَمًّا» بالقتل والجرح مع الهزيمة «بِغَمٍّ» آخر أذقتموه رسولكم بعصيانكم له حتى سببتم له كسر رباعيته وجرح وجهه والفشل والهزيمة لغيركم من إخوانكم وهذه الخصال ليست من شأن المؤمنين الموقنين وسميت العقوبة هنا غما مجازا لأن لفظ الثواب يغلب استعماله في الخبر وقد يستعمل بالشر كما في قوله:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه
أداهم سودا أو محدرجة سمرا
والأداهم هي القيود الحديد، والمحدرجة السياط، وقال الأمير لرجل والله لأحملنك على الأدهم فقال له مثل الأمير من يحمل على الأدهم والأسفر والأحمر، فقد صرف كلامه من المجاز إلى الحقيقة فعفا عنه لبلاغته وحسن ردّه. فتعلموا أيها الناس الفصاحة والبلاغة فكم أنجت من مهالك. روي أن الحجاج منع التجول ليلا وأوعد على المخالفة، وذات يوم صادف ثلاثة فأمر بتوقيفهم ثم استحضرهم وسألهم فقال أحدهم:
أنا ابن من دانت الرءوس له
يأخذ من مالها ومن دمها
فقال اتركوه لعله ابن أحد الأمراء، وقال الآخر:
أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره
وإن نزلت يوما فسوف تعود
فقال اتركوه لعله ابن أحد الأكارم، وقال الثالث:
أنا ابن الذي خاض الصفوف بنعله
فيضرب يمناها طورا ويسراها
صفحة رقم 416
فقال اتركوه لعله ابن أحد الشجعان فإذا هم حجام وفوال وحائك، فقد خلصتهم فصاحتهم من ظلمه. أي إنما أذاقكم ذلك الغم بسبب الغم الذي أذقتموه رسولكم وإنما عفا عنكم «لِكَيْلا تَحْزَنُوا» مرة أخرى «عَلى ما فاتَكُمْ» من النفع وتنهالوا عليه خلافا لما أمرتم به «وَلا» تحزنوا على «ما أَصابَكُمْ» من الضر بسبب عفو الله عنكم «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (١٥٣) في ذلك الوقت وغيره، وقد علم أن نيتكم لم تكن سيئة لأنكم تحققتم الظفر وعزوف العدو عن كرّه عليكم من بعد هزيمته «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً» ثم فسّر هذه الأمنة بكونها «نُعاساً» نوما خفيفا لإزالة الرعب عنكم لأن الخائف لا ينام وهذه من جملة أفضال الله تعالى عليكم وجعله «يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» أيها المؤمنون دون طائفة. روى البخاري ومسلم عن أنس عن أبي طلحة قال:
كنت فيمن يغشاهم النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي، مرارا يسقط وآخذه.
وأخرجه الترمذي عنه قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد وذكر نحو رواية البخاري بزيادة. والطائفة الأخرى هم المنافقون ليس لهم إلا هم أنفسهم أجبن قوم أرغبه وأخذله للحق وهم المعنيّون بقوله تعالى «وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» فتشربوا بالخوف وظن السوء بالله وبإخوانهم لأنهم «يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» أي بإخلاف وعده رسوله ويعتقدون أنه لا ينصره وأصحابه وكان ظنهم هذا «ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» الذين لا يعتقدون بوجود الإله ولا يعترفون بكتبه ولا يصدقون رسله ويجحدون اليوم الآخر والقضاء والقدر لأنهم «يَقُولُونَ هَلْ لَنا» أي مالنا «مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» فلم نقاتل، وذلك أن رئيسهم عبد الله بن سلول أشار على النبي بعدم الخروج لقتال أحد ولم يأخذ بقوله ولهذا راق لهم ما وقع بالنبي وأصحابه فأنزل الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المنافقين «إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» وحده ولو شاء لما خرجنا ولكنه شاء ذلك ليري قومنا نتيجة مخالفتهم لأمر رسوله وليعلم أنه أعلم بضروب الحرب وفنونه من تعبئة الجنود وتعيين المواقع والكر والإقدام والإحجام والوقوف وغيرها، وهؤلاء المنافقون «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ» من الكفر والشك في وعد الله «ما لا يُبْدُونَ لَكَ» ت (٢٧)
صفحة رقم 417
من الإيمان والتصديق «يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» أي لما قتل في هذه المعركة لو أطاعنا محمد «قُلْ» لهم يا أكمل الرسل لا تظنوا هذا الظن وعزة ربي وجلاله «لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ» أي لخرجوا من بيوتهم قاصدين «إِلى مَضاجِعِهِمْ» مصارعهم التي قتلوا فيها فقتلوا فيها بنفس الوقت لأن التدبير لا يقاوم التقدير والإنسان لا يجاوز أجله راجع الآية ٧٧ من سورة النساء الآتية «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ» فيخرج ما في ضمائركم ليطلع عليها الناس كما هو عالم فيها قبل خلقها «وَلِيُمَحِّصَ» يزيل ويذهب ويمحق «ما فِي قُلُوبِكُمْ» من شك وريبة فيما تصورتموه ويظهر ما تكنونه من العداوة لله ورسوله والمؤمنين وما تعتقدونه فيهم لترتدعوا «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (١٥٤) ودخائلها لا يخفى عليه شيء من أفعالكم ونياتكم وأقوالكم، ثم التفت جل شأنه إلى المؤمنين فقال «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» في أحد فانهزموا وتركوكم ونبيكم فلم يبق مع حضرة الرسول غير ثلاثة عشر رجلا من المهاجرين وسبعة من الأنصار «إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ» بإلقاء الخوف في قلوبهم وذلك «بِبَعْضِ ما كَسَبُوا» وهو جزاء تركهم مواضعهم الحربية حين التعبئة ومخالفتهم أمر القائد الأعظم الذي هو أعلم منهم بفنون الحرب وأبوابها لأنه يتلقى علمه فيها وفي غيرها من لدنا «وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ» لصدور تلك المخالفة عن نية حسنة بظنهم إذ رأوا أن ثباتهم فيها يحرمهم من الغنيمة فلم يكن تركهم وفرارهم عنادا ولا لقصد شيء ولا لخذلان إخوانهم وليس فرار زحف لأنهم كانوا غالبين «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لهم ولغيرهم ممن يقع منه ذنب لا عن قصد سيىء ولا استحلالا ولا تهاونا «حَلِيمٌ» (١٥٥) لا يعجل العقوبة على المذنبين ولا يؤاخذ حسني النية ومن يخطىء في اجتهاده كهؤلاء.
مطلب المقتول ميت بأجله، وأنواع العبادة ثلاثة، وبحث في الشورى ومن يشاور، وخطبة أبي طالب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا» أي المنافقين، سماهم كفارا لأنهم أشد ضررا على المؤمنين من الكفار، ومما يدل على أن المراد بالكفار
صفحة رقم 418
هم قوله جل قوله «وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ» سافروا فيه «أَوْ كانُوا غُزًّى» فماتوا أو قتلوا «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» مع أنهم لا بد من موتهم في ذلك الوقت وفي ذلك السبب وفاقا لما قدره الله عليهم في أزله ولكن سخرهم لهذا القول الباطل «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ» القول «حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» غما وأسفا وأسى فيقولون ذلك ويلومون أنفسهم على الخروج فيقتلونها هما وندما، ولو كانوا مؤمنين حقا لعلموا أن القتل والإماتة بقضاء الله وقدره ولهما زمان ومكان وسبب يقعان فيه لا يتخطيانه وقد يتيسر إليه الإنسان أو يذهب إليه من تلقاء نفسه ليقع مراد الله وفق ما هو مدون في أزله وقيل في المعنى:
إذا ما حمام المرء كان ببلدة
دعته إليها حاجة فيطير
«وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ» بسبب وبلا سبب ومن شيء وبلا شيء «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (١٥٦) قرئ بالتاء على أن الخطاب للمؤمنين وبالياء على طريق الالتفات للكافرين والأول أولى وأنسب بسياق السياق. واعلم أن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازات على المرئي كالمعلوم، وفي الآية تهديد للمؤمنين لأنهم وإن كانوا لم يماثلوهم فيما ذكر إلا أن حصول الندم في قلوبهم على الخروج يقتضي ذلك «وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» خير لكم من أن تموتوا على فراشكم «أَوْ مُتُّمْ» في سفركم قبل خوضكم المعركة «لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ» لكم وكذلك في كل سفر طاعة «وَرَحْمَةٌ» عظيمة لكم منه في ذلك وهذا «خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (١٥٧) غيركم من حطام الدنيا وهم قعود في بيوتهم وقيل في المعنى:
إذا مت كان الناس صنفان شامت
وآخر مثن بالذي أنا صانع
ثم أكد ذلك بقوله مع القسم أيضا «وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» (١٥٨) في الآخرة فيجازيكم على حسب أعمالكم ونياتكم أي إذا كان هلاككم بأي سبب كان فمرجعكم إلى الله لا مرجع إلا إليه ولا معول إلا عليه ولا ثواب إلا منه ولا عقاب إلا عنه، قال الحسين رضي الله عنه وعن والديه:
صفحة رقم 419
فإن تكن الأبدان للموت أنشئت
فقتل امرئ بالسيف والله أفضل
ويستفاد من هذه الآية أن مقامات العبودية ثلاثة: فمن عبد الله تعالى خوفا من ناره وهي أدنى مقامات العبودية (إذ ما تحتها إلا الرياء والنفاق الذين يخلد صاحبهما بالنار) فهذا قد يؤمنه الله مما يخاف وإليه الإشارة بقوله (لَمَغْفِرَةٌ)، ومن عبده طمعا في جنته آتاه الله ما رجاه وإليه الإشارة بقوله (وَرَحْمَةٌ) لأن الرحمة من اسماء الجنة، وهذه العبادة فوق تلك وكلاهما من حظوظ النفس، ومن عبده باعتباره إله حق مستحق للعبادة لذاته ولو لم يخلق نارا ولا جنة تشوقا إلى وجهه الكريم فتلك العبادة الخالصة وهي أشرف أنواع العبادات على الإطلاق، ولهذا فإنه تعالى وعده بما أراد ووعده الحق وإليه الإشارة بقوله (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) جعلنا الله منهم ومن أتباعهم. قال تعالى «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» يا سيد الرسل على ما هم عليه من غلظة وفظاظة فترفقت بهم وتلطفت عليهم وتحملت جفاهم فتشكر محسنهم وتعفو عن مسيئهم حتى التفوا حولك وأحبوك لما أوتيته من أخلاق كريمة تعاملهم بها وآداب عالية تعلمهم إياها وتدعوهم لما فيه صلاحهم «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ» جافيا قاسيا عجولا فقابلت فعلهم في أحد على أثر ما وقع منهم حالة توغر صدورهم فأنبتهم وكدرتهم «لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وتفرقوا عنك ولكن الله الذي رباك فأحسن خلقك وأدّبك فأحسن تأديبك وجعلك سهلا يسرا رقيقا رفيقا فلم تعاملهم في الشدة ولم تحنق عليهم ولم تلمهم على فعلهم حالة تأثرهم على ما بدر منهم مما زاد في ندمهم وأسفهم وأكثر تحسرهم على تفريطهم بأمرك ولحقهم الخجل من أن يقابلوك لأنهم رأوا أنفسهم مقصرين لا عذر لهم ولهذا فإنا قد عفونا عنهم «فَاعْفُ» أنت أيضا «عَنْهُمْ» مخالفتهم هذه وزلتهم وإفراطهم «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ» ربك وربهم وادع لهم أن لا يعودوا لمثلها فإنهم قد نالوا جزاءهم الدنيوي بما وقع فيهم من القتل والذل. واعلم أنك مجاب الدعوة، فلا تدعو عليهم، بل اسأل ربك الخير لهم «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» تطييبا لقلوبهم حتى يتيقنوا رضاك عنهم قلبا وقالبا، وذلك أن سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمور التي يساقون إليها يشق عليهم لأن ذلك يعدونه من عدم
صفحة رقم 420
المبالات بهم وإلا فإن الله تعالى يعلم أن ما لنبيّه من حاجة لمشورة أحد من خلقه ولكن أراد استجلاب عطفهم على رسوله وانفراز مودته في قلوبهم وجعل المشورة سنة لمن بعده على الإطلاق وعلى كل الرأي بعد المشورة له خاصة وليس عليه أن يتقيد برأيهم لأنه أوسع فكرا منهم وأصوب رأيا وأكبر تدبيرا وتدبرا في العواقب.
وهذا في الأمور التي لم ينزل فيها وحي أما ما نزل فيها الوحي فلا خيار له هو نفسه فيه فضلا عن أخذ رأي غيره. واعلم أن المشاورة في الأمور ممدوحة مطلوبة ومحمودة قال بعضهم:
وشاور إذا شاورت كل مهذب
لبيب أخى حزم لترشد بالأمر
ولا تك ممن يستبد برأيه
فتعجز أو لا تستريح من الفكر
الم تر أن الله قال لعبده
وشاورهم في الأمر حتما بلا نكر
وعلى المستشير ألا يشاور من لا يثق به ولا يحبه ولذلك قالوا سبعة لا يشاورون:
١- جاهل لأنه يضل ٢- وعدو لأنه يريد الهلاك ٣- وحسود لأنه يتمنى زوال النعمة ٤- ومراء لأنه يقف مع رضاء الناس ٥- وجبان لأنه يهرب من كل ما يرعب فلا يميل إلا إلى سفاسف الأمور ٦- وبخيل لأنه يحرص على ماله فهو على نفسه أحرص فلا رأي له في العز ٧- ذوي هوى لأنه أسير هواه فلا خير في رأيه. وقالوا أيضا لا يشاور معلم الصبيان الذي لا يخالط الناس لقصر رأيه ولا راعي غنم يقوم معها وينام معها، ومن يخالط النساء دائما، وصاحب الحاجة لأنه أسير حاجته فيلائم صاحبها على رأيه، ويشاور من عناهم القائل بقوله:
عليم حكيم ما هو عند رأيه
نظار إلى ما تبدوا إليه مذاهبه
بصير بأعقاب الأمور كأنما
يخاطبه عن كل أمر عواقبه
وقال صلّى الله عليه وسلم المستشار مؤتمن وعليه يجب على العدو إذا استشاره عدوه أن يسديه نصحه هذا، وإذا استشرت صاحبك فأشار عليك بما لم تره موافقا أو لم تحمد عاقبته فلا تلمه أو تعاقبه لأنه أدى لك ما يحبه لنفسه وأنت غير ملزم برأيه. قال تعالى «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أي إذا قطعت الرأي بعد المشورة التي هي كالاستيناس والاستطلاع لأن في احتكاك الآراء يظهر القصد الأحسن من الحسن
صفحة رقم 421