
ففيه أعظم دلالة على (صحة) (١) نبوة محمد - ﷺ -.
١١٢ - قوله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ قد مضى الكلام في معنى ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ على اليهود، في سورة البقرة (٢).
وقوله تعالى: ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ أي: وُجِدوا، وصُودِفوا (٣). ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿حَيثُ ثَقفتُمُوهُم﴾ [البقرة: ١٩١].
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ قال الفرّاء (٤): يقول: (إلَّا أنْ يَعتَصموا بحبل من الله)، فأضمر ذلك، وأنشد:
رأتني بحَبْلَيْها فَصدّتْ مَخَافَةً | وفي الحَبْلِ رْوْعاءُ الفُؤادِ فَرُوقُ (٥) |
(١) زيادة من (أ).
(٢) انظر: "تفسير البسيط" عند تفسير آية: ٦١ من سورة البقرة.
(٣) انظر: (ثقف) في "اللسان" ١/ ٤٩٢، "القاموس" ص ٧٩٥.
(٤) في "معاني القرآن" له: ١/ ٢٣٠. نقله عنه بنصه.
(٥) البيت لحميد بن ثور، وهو في ديوانه: ٣٥. وورد في "معاني القرآن" للفراء: ١/ ٢٣٠، "تفسير الطبري" (٤٩)، "تهذيب اللغة" ١/ ٧٣١، "تفسير الثعلبي" ٣/ ١٠١ أ، "أساس البلاغة" ١/ ٣٨١، "اللسان" ٢/ ٧٦١، ٧/ ٤٤١٠، ٦/ ٣٤٠١. "البحر المحيط" ٣/ ٣٢.
وروايته في الديوان:
فجئت بحبليها فردَّت مخافةً | إلى النفس روعاءُ الجَنان فَرُوق |
رأتني بنِسْعَيها فردت مخافتي | إلى الصدر روْعاءُ الفؤادِ فَرُوق |
رأتني مُجَلِّيها فصدت مخافةً | وفي الخيل روعاء الفؤاد فروق |

قال أراد: أقْبَلْتُ (١) بحبليها (٢).
وقد نُعي هذا عليه، فقيل: لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته (٣)؛ وذلك أن الموصول لمّا احتاج إلى الصِّلَةِ للبيان عنه، فالحاجة إلى ذِكْرِهِ أشدُّ (٤)، وإنَّما يجوز حذفُ الشيء للاستغناء بدلالة غيره عليه، فلو دَلّ دليل عليه لحُذف مع صلته؛ لأنه معها بمنزلِةِ شيءٍ واحد. ويجوز حذف الصلة دون الموصول؛ لأن الموصول [هو المعتمد عليه، والصلة تبع له؛ لأنها للبيان عنه، فإذا حُذِفَ الموصول] (٥) وجب حذفُ الصلة معه؛ [لأنها تَبَعٌ] (٦) له.
وقد أخبرني العَرُوضي رحمه الله، عن الأزهري، قال (٧): أخبرني
(١) في (ب): (قبلت).
(٢) في (ج): (بحبلها).
(٣) وهي -هنا- الجار والمجرور. ففي الآية ﴿بِحَبْلٍ﴾، وفي البيت (بحبليها).
(٤) في (ج): (ذكر ما شد).
(٥) ما بين المعقوفين: زيادة من: (ج).
(٦) ما بين المعقوفين: في (أ)، (ب): (لا يتبع). والمثبت من (ج).
(٧) قوله في "تهذيب اللغة" ١/ ٧٣١ - ٧٣٢ (حبل) إلى نهاية: (ومعنى (ألا): (لكن). وقد نقله عنه بتصرف واختصار يسيرين.

المُنْذِريُّ، عن ثعلب، أنه قال: هذا الذي قاله الفرّاء (١)، بعيدٌ (٢)، ولكن المعنى إن شاءَ الله: ضربت عليهم الذِّلَّة أينما ثُقِفُوا؛ أي: بكلِّ مَكان إلّا بموضِع حَبْلٍ مِنَ الله، وهو استثناء مُتَّصل، كما تقول: (ضُرِبت عليهم الذِّلَّة في الأمكنة، إلّا في هذا المكان)، ثمّ حذف المضافُ (٣).
قال: وقول الشاعر: (رأتني بحبليها)؛ هو كما تقول: (أنا بالله، وبك) (٤)؛ أي: مُتَمَسِّك. فتكون الباءُ مِن صِلَة (رأتني متمسكًا
(٢) وفي "تهذيب اللغة": (بعيد أن تحذف (أن) وتُبقِي صلتها).
(٣) ثم حذف المضاف: ليس في "تهذيب اللغة". وقد ذهب إلى هذا الزمخشري، وأيَّد كون الاستثناء متصلًا هنا، وقال: (وهو استثناء من أتم الأحوال؛ المعنى: ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حالة اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس..). "الكشاف" ١/ ٤٥٥.
(٤) وبك: ليس في "تهذيب اللغة".
بالنسبة لهذه الألفاظ مثل (أنا بالله، وبك) وأمثالها، وبغض النظر عن مجال الاستدلال النحوي بها، فإن الآثار الشرعية قد وردت بالنهي عن استعمالها بهذه الصورة. فقد قال - ﷺ -: "إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت، ولكن ليقل: ما شاء الله، ثم شئت". أخرجه ابن ماجه (٢١١٧) كتاب الكفارات، باب (١٣)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه": ١/ ٣٦٢.
وورد في الحديث عنه - ﷺ -: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان". رواه أبو داود في "السنن" (٤٩٨٠)، كتاب الأدب، والبيهقي في "السنن" ٣/ ٢١٦، وأحمد في "المسند" ٥/ ٣٨٤، ٣٩٤، ٣٩٨.
وعن ابن عباس: جاء رجل إلى النبي - ﷺ -، فراجعه في بعض الكلام، فقال: ما شاء الله وشئت. فقال - ﷺ -: "أجعلتني والله عِدْلاً، بل ما شاء الله وحده".
أخرجه البيهقي في "السنن" ٣/ ٢١٧، والبخاري في الأدب المفرد: ٣٤٤ رقم (٧٨٣)، وغيرهما. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: ١/ حديث رقم (١٣٦ - ١٣٩). وقد ذكر العلماء أن قول الإنسان (ما لى غير الله وأنت)، و (توكلت على الله =

بحبليها) (١)، فاكتفى بالرُّؤيَةِ (٢) مِن التمسك.
قال الأزهري: والقول، ما قال أبو العباس (٣).
وقال الأخفش (٤): قوله: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ استثناء خارج عن (٥) أول الكلام (٦)، ومعنى (إلّا): لكِنْ (٧).
واختار الزَّجَّاج هذا الوجه، فقال (٨): ما بعد الاستثناء (٩) ليس من الأول؛ المعنى (١٠): أنهم أذلَّاءُ، إلَّا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أُعطوه.
ونَصَرَ محمدُ بن جَرِير هذه الطريقة أيضًا، فقال (١١): إن أهل الكتاب (قد) (١٢) ضربت عليهم الذلة، سواء كانوا على عهد من الله، أو لم يكونوا
(١) في (ج): (بحبلها).
(٢) في (ب): (بالراية).
(٣) هو ثعلب.
(٤) قوله في "معاني القرآن" له ١/ ٢١٣، ولكنه هنا من، تتمة قول الأزهري السابق في "التهذيب".
(٥) في (ب)، "معاني القرآن"، "تهذيب اللغة": (من).
(٦) أي إنه استثناء منقطع.
(٧) في "معاني القرآن"، "تهذيب اللغة": (في معنى لكن).
(٨) في "معاني القرآن" له ١/ ٤٥٧ نقله عنه بنصه.
(٩) في (ج): (الا استثناء).
(١٠) المعنى: ليست في "معاني القرآن".
(١١) في "تفسيره" ٤/ ٥٠. نقله عنه بالمعنى.
(١٢) زيادة من (أ).

على عهد، فلا يخرجون بالاستثناء (١) عن الذِّلة إلى العِزَّة.
قال (٢): وتمام الكلام عند قوله: ﴿أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾، ثم قال: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ﴾ أراد (٣): لكن قد يعتصمون بحبل من الله، أو قد يُثْقَفُونَ بحبل من الله، وحَبْلٍ مِنَ الناس كما قال: ﴿وَمَا كاَنَ لِمُؤمِنٍ أَن يَقتُلَ مُؤْمَنًا إِلا خَطأ﴾ [النساء: ٩٢]، فـ (الخَطَأ) وإن كان منصوبًا بما عمل فيِه ما قبل الاستثناء، فليس باستثناء مُتَّصل حتى يَدُلَّ على أنَّ قتلَه خطأ مباحٌ (٤)، ولكن معناه: قد يقتله خطأ (٥).
ومَن نَصرَ طريقة أبي العباس، قال (٦): إنَّ عِزَّ (٧) المسلمين عِزٌّ لأهلِ الذِّمَةِ؛ لأنَّ أخْذَهم عَهْدَ المسلمين يَحقِنُ دماءَهم، ويمنع فُرُوجَهم وأموالهم عن الاغتنام بالسَّبْي، ثم هذا [العِزُّ] (٨) لا يخرجهم عن الذِّلَّة في أنفسهم، فهم على ما وصفهم الله من الذِّلَّة أينما ثقفوا، وإنْ اعتصموا بالذِّمَة (٩).
وأما التفسير: فقد ذكرنا معضى (الحبل) عند قوله: ﴿وَاعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٠٣] وبعض المفسرين يذهب إلى أن حبلَ الله ههنا
(٢) في المرجع السابق. نقله بالمعنى.
(٣) من قوله: (أراد..) إلى (بحبل من الله): مكرر في (أ).
(٤) في (ج): (ماح).
(٥) (خطأ): ساقطة من: (ب).
(٦) لم أقف على هذا القائل. وممن ذهب إلى أن الاستثناء منقطع ونصر هذا الرأي: ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٧٠.
(٧) في (ج): (إن الله عز).
(٨) ما بين المعقوفين: زيادة من (ج).
(٩) وهو اختيار ابن عطية في "المحرر الوجيز" ٣/ ٢٧٠ - ٢٧١.