
الْآيَاتُ مَخْصُوصَةٌ بِالْيَهُودِ، وَأَسْبَابُ النُّزُولِ عَلَى ذَلِكَ فَزَالَ هَذَا الْإِشْكَالُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلَّا جُزِمَ قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ.
قُلْنَا: عَدَلَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْجَزَاءِ إِلَى حُكْمِ الْإِخْبَارِ ابْتِدَاءً كَأَنَّهُ قِيلَ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ جُزِمَ لَكَانَ نَفْيُ النَّصْرِ مُقَيَّدًا بِمُقَاتَلَتِهِمْ كَتَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ، وَحِينَ رُفِعَ كَانَ نَفْيُ النَّصْرِ وَعْدًا مُطْلَقًا كَأَنَّهُ قَالَ: ثُمَّ شَأْنُهُمْ وَقِصَّتُهُمُ الَّتِي أُخْبِرُكُمْ عَنْهَا وَأُبَشِّرُكُمْ بِهَا بَعْدَ التَّوْلِيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ النُّصْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ قَطُّ بَلْ يَبْقَوْنَ فِي الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ أَبَدًا دَائِمًا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ؟.
الْجَوَابُ: هُوَ جُمْلَةُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يَنْهَزِمُوا، ثُمَّ أُخْبِرُكُمْ أَنَّهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَإِنَّمَا ذُكِرَ لَفْظُ (ثُمَّ) لِإِفَادَةِ مَعْنَى التَّرَاخِي فِي الْمَرْتَبَةِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِتَسْلِيطِ الْخِذْلَانِ عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٢]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنْ قَاتَلُوا رَجَعُوا مَخْذُولِينَ غَيْرَ مَنْصُورِينَ ذَكَرَ أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ ذَكَرْنَا تَفْسِيرَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْمَعْنَى جُعِلَتِ الذلة ملصقة ربهم كَالشَّيْءِ يُضْرَبُ عَلَى الشَّيْءِ فَيَلْصِقُ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَا هَذَا عَلَيَّ بِضَرْبَةِ لَازِبٍ، وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْخَرَاجِ ضَرِيبَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الذِّلَّةُ هِيَ الذُّلُّ، وَفِي الْمُرَادِ بِهَذَا الذُّلِّ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُحَارَبُوا وَيُقْتَلُوا وَتُغْنَمَ أَمْوَالُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيهِمْ وَتُمْلَكَ أَرَاضِيهِمْ فَهُوَ كقوله تعالى: اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩١].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَالْمُرَادُ إِلَّا بِعَهْدٍ مِنَ اللَّهِ وَعِصْمَةٍ وَذِمَامٍ مِنَ اللَّهِ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَزُولُ الْأَحْكَامُ، فَلَا قَتْلَ وَلَا غَنِيمَةَ وَلَا سَبْيَ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الذِّلَّةَ هِيَ الْجِزْيَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ضَرْبَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ يُوجِبُ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الذِّلَّةِ أَنَّكَ لَا تَرَى فِيهِمْ مَلِكًا قَاهِرًا وَلَا رَئِيسًا مُعْتَبَرًا، بَلْ هُمْ مُسْتَخَفُّونَ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ ذَلِيلُونَ مَهِينُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّلَّةِ هِيَ الْجِزْيَةُ فَقَطْ أَوْ هَذِهِ الْمَهَانَةُ فقط لأن قول إِلَّا/ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ يَقْتَضِي زَوَالَ تِلْكَ الذِّلَّةِ عِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْحَبْلِ وَالْجِزْيَةُ وَالصَّغَارُ وَالدَّنَاءَةُ لَا يَزُولُ شَيْءٌ مِنْهَا عِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْحَبْلِ، فَامْتَنَعَ حَمْلُ الذِّلَّةِ عَلَى الْجِزْيَةِ فَقَطْ، وَبَعْضُ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ، أَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ، فَقَالَ: الْيَهُودُ قَدْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، سَوَاءٌ كَانُوا عَلَى عَهْدٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا فَلَا يَخْرُجُونَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الذِّلَّةِ إِلَى الْعِزَّةِ، فَقَوْلُهُ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ تَقْدِيرُهُ لَكِنْ قَدْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ حَمْلَ لَفْظِ (إِلَّا) عَلَى (لَكِنْ) خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا إِذَا

حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: لَكِنْ قَدْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ لَمْ يَتِمَّ هَذَا الْقَدْرُ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الشَّيْءِ الَّذِي يَعْتَصِمُونَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِ الْحَذَرِ عَنْهُ وَالْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَا يُصَارُ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَإِذَا كَانَ لَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا إِلَى ذَلِكَ كَانَ المصير إليه غير جائز، بل هاهنا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ الذِّلَّةُ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَعْنِي: الْقَتْلَ، وَالْأَسْرَ، وَسَبْيَ الذَّرَارِيِّ، وَأَخْذَ الْمَالِ، وَإِلْحَاقَ الصَّغَارِ، وَالْمَهَانَةَ، وَيَكُونُ فَائِدَةُ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَخْذُ الْقَلِيلِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الَّذِي هُوَ مُسَمًّى بِالْجِزْيَةِ، وَبَقَاءُ الْمَهَانَةِ وَالْحَقَارَةِ وَالصَّغَارِ فِيهِمْ، فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَوْلُهُ أَيْنَما ثُقِفُوا أَيْ وُجِدُوا وَصُودِفُوا، يُقَالُ: ثَقِفْتُ فُلَانًا فِي الْحَرْبِ أَيْ أَدْرَكْتُهُ، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقْدِيرُ إِلَّا أَنْ يَعْتَصِمُوا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ:
رَأَتْنِي بِحَبْلِهَا فَصَدَّتْ مَخَافَةً | وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ فَرُوقُ |
لَا تَنْفَكُّ عَنْهُمُ الذِّلَّةُ، وَلَنْ يَتَخَلَّصُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ بِمَعْنَى (مَعَ) كَقَوْلِهِمْ:
اخْرُجْ بِنَا نَفْعَلْ كَذَا، أَيْ مَعَنَا، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَعَ حَبْلٍ مِنَ اللَّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ حَبْلِ اللَّهِ عَهْدُهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَهْدَ إِنَّمَا سُمِّيَ بِالْحَبْلِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا كَانَ قَبْلَ الْعَهْدِ خَائِفًا، صَارَ ذَلِكَ الْخَوْفُ مَانِعًا لَهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى مَطْلُوبِهِ، فَإِذَا حَصَلَ الْعَهْدُ تَوَصَّلَ بِذَلِكَ الْعَهْدِ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَطْلُوبِهِ، فَصَارَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْحَبْلِ الَّذِي مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ تَخَلَّصَ مِنْ خَوْفِ الضَّرَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ عَطَفَ عَلَى حَبْلِ اللَّهِ حَبْلًا مِنَ النَّاسِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ فَكَيْفَ هَذِهِ الْمُغَايَرَةُ؟
قُلْنَا: قَالَ بَعْضُهُمْ: حَبْلُ اللَّهِ هُوَ الْإِسْلَامُ، وَحَبْلُ النَّاسِ هُوَ الْعَهْدُ وَالذِّمَّةُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَقَالَ: أَوْ حبل من الناس، وقال آخرون: المراد بكلام الْحَبْلَيْنِ الْعَهْدُ وَالذِّمَّةُ وَالْأَمَانُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى الْحَبْلَيْنِ لِأَنَّ الْأَمَانَ الْمَأْخُوذَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْأَمَانُ الْمَأْخُوذُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهَذَا عِنْدِي أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَالَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ الْأَمَانَ الْحَاصِلَ لِلذِّمِّيِّ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا: الَّذِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وهو أخد الْجِزْيَةِ وَالثَّانِي: الَّذِي فُوِّضَ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَيُزِيدُ فِيهِ تَارَةً وَيُنْقِصُ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ فَالْأَوَّلُ: هُوَ الْمُسَمَّى بِحَبْلِ اللَّهِ وَالثَّانِي: هُوَ الْمُسَمَّى بحبل المؤمنين والله أعلم.
ثم قال: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ مَكَثُوا، وَلَبِثُوا وَدَامُوا فِي غَضَبِ اللَّهِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْبَوْءِ وَهُوَ الْمَكَانُ، وَمِنْهُ: تَبَوَّأَ فُلَانٌ مَنْزِلَ كَذَا وَبَوَّأْتُهُ إِيَّاهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَكَثُوا فِي غَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَحَلُّوا فِيهِ، وَسَوَاءٌ قَوْلُكَ: حَلَّ بِهِمُ الْغَضَبُ وَحَلُّوا بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ وَالْأَكْثَرُونَ حَمَلُوا الْمَسْكَنَةَ عَلَى الْجِزْيَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ قَالَ وَذَلِكَ صفحة رقم 329