آيات من القرآن الكريم

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ

ثالثا- إن أهل الطاعة لله عز وجل والوفاء بعهده هم الذين تبيض وجوههم وتسر يوم القيامة، ولهم الخلود في الجنة ودار الكرامة، جعلنا الله منهم، وجنبنا الضلالة بعد الهدى.
وأما أهل المعصية الذين كفروا بعد الإيمان فلهم سوء العذاب بسبب كفرهم.
وكل من بدل أو غيّر أو ابتدع في دين الله ما لا يرضاه، ولم يأذن به الله فهو من المسوّدي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من رحمة الله من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع. ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال ذرة من خير أو حبة من إيمان.
رابعا- كل ما في الكون وكل ما في السموات والأرض ملك لله تعالى وعبيد له، يتصرف بهم كيفما شاء، ولا يشاء إلا ما فيه الحكمة والخير ومصلحة العباد، فهو قادر على كل شيء، وغني عن الظلم، لكون كل شيء في قبضته وتصرفه، فلا يصح لأحد من الخلق أن يسأل غير الله أو يعبد غير الله، وعليهم أن يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره.
سبب خيرية الأمة الإسلامية وضرب الذلة والمسكنة على اليهود
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٠ الى ١١٢]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)

صفحة رقم 37

الإعراب:
أُخْرِجَتْ جملة فعلية في موضع جر لأنها صفة لأمة. لِلنَّاسِ جار ومجرور في موضع نصب، ويتعلق إما ب أُخْرِجَتْ أو ب خَيْرَ وقوله: تَأْمُرُونَ.. كلام مستأنف أبان به كونهم خير أمة.
إِلَّا أَذىً منصوب لأنه استثناء منقطع، وكذلك قوله إِلَّا بِحَبْلٍ أي ولكن قد يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس، فيأمنون على أنفسهم وأموالهم.
والجملتان وهما مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ولَنْ يَضُرُّوكُمْ واردتان على طريق الاستطراد، بمناسبة الكلام عن أهل الكتاب.
البلاغة:
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ استعارة تبعية حيث شبه الذل بالخباء المضروب على أصحابه، ثم حذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه وهو الضرب.
وَباؤُ بِغَضَبٍ نكّر كلمة الغضب للتفخيم والتهويل.
ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ تساءل الزمخشري قائلا: هلا جزم المعطوف في قوله: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ؟ ثم أجاب بقوله: عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، كأنه قيل: ثم أخبركم أنهم لا ينصرون، أي لا يكون لهم نصر من أحد، ولا يمنعون منكم. والفرق بين الجزم والرفع:
أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار، وحين رفع كان نفي النصر وعدا مطلقا (الكشاف: ١/ ٣٤٢).
المفردات اللغوية:
كُنْتُمْ أي وجدتم وخلقتم خير أمة، أي في الماضي، وقد تستعمل للأزلية والدوام كما في

صفحة رقم 38

صفاته تعالى مثل: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. أُخْرِجَتْ أي أظهرت. أَذىً أي ضررا يسيرا كالسب باللسان والوعيد. يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ كناية عن الانهزام أي يكونوا منهزمين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ وعد مطلق من الله للمسلمين في الماضي، كأنه قال: ثم شأنهم وقصتهم أنهم بعد التولي مخذولون غير منصورين، لا تنهض لهم قوة بعدها، ولا يستقيم لهم أمر، وكان ذلك كما أخبر في هزيمة طوائف اليهود في المدينة وهم «بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع» ويهود خيبر. والتراخي في ثُمَّ هو في المرتبة.
الذِّلَّةُ الذل الذي يحدث في النفوس من فقد السلطة، وضربها عليهم: إلصاقها بهم وظهور أثرها فيهم، كضرب السكة بما ينقض فيها. ثُقِفُوا حيثما وجدوا. بِحَبْلِ أي عهد، وهو تأمينهم وعهد المؤمنين إليهم بالأمان على أداء الجزية، أي لا عصمة لهم غير ذلك، وتظل صفة الذل بهم، سواء كانوا حربا أو أهل ذمة.
وَباؤُ رجعوا، من البوء وهو المكان أي حلوا فيه يَعْتَدُونَ يتجاوزون الحد.
سبب النزول:
نزول الآية (١١٠) :
قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن خير وأفضل منكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (١١١) :
قال مقاتل: إن رؤوس اليهود: وهم كعب ويحرى والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنهم: عبد الله بن سلام وأصحابه، فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المناسبة:
هذه الآيات تثبيت للمؤمنين على ما هم عليه من الاعتصام بالله والاتفاق على

صفحة رقم 39

الحق والدعوة إلى الخير، وهي أيضا ترغيب لهم في المحافظة على مزيتهم باتباع الأوامر وترك النواهي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وأعقب ذلك بمقارنتهم بحال أهل الكتاب وبيان سبب إلحاق صفة الذل بهم والغضب عليهم.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن الأمة الإسلامية بأنها خير الأمم في الوجود الآن، ما دامت تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله إيمانا صحيحا صادقا كاملا. وإنما قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان لأنهما أدل على بيان فضل المسلمين على غيرهم، ولأن الإيمان يدعيه غيرهم، وتظل الخيرية والفضيلة لهذه الأمة ما دامت تؤمن بالله حق الإيمان وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
وأما الأمم الأخرى فقد غلب عليهم تشوية حقيقة الإيمان، وشاع فيهم الشر والفساد، فلا يؤمنون إيمانا صحيحا، ولا يأمرون بمعروف، ولا ينهون عن منكر.
والإيمان المطلوب: هو الموصوف بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات ٤٩/ ١٥] وقوله أيضا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ، زادَتْهُمْ إِيماناً، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال ٨/ ٢].
وفي قوله: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله لأن من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك، لم يعتد بإيمانه، فكأنه غير مؤمن بالله، كما قال تعالى:
وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ، وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ

صفحة رقم 40

سَبِيلًا، أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا
[النساء ٤/ ١٥٠- ١٥١]. والدليل عليه قوله تعالى:
وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ مع إيمانهم بالله، لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام، حبا للرياسة، واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع، وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين.
هذه المقومات والأوصاف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان الحق بالله وبعناصر الإيمان الأخرى هي سبب الفضيلة والخيرية، ولا تثبت للأمة إلا بمحافظتها على هذه الأصول الثلاثة، روى ابن جرير عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها، رأى من الناس دعة، فقرأ هذه الآية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ثم قال: «من سرّه أن يكون من هذه الأمة، فليؤد شرط الله فيها».
ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى:
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة ٥/ ٧٩].
ولهذا لما مدح الله تعالى هذه الأمة على هذه الصفات، شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال: ولو آمنوا بما أنزل على محمد، لكان خيرا لهم إذ هم يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، ويؤمنون ببعض الرسل كموسى وعيسى، ويكفرون بمحمد، مع أن كتبهم تتضمن البشارة بمحمد وصفته! إلا أن هذا الذم ليس كليا ولا جماعيا شاملا، لذا استطرد الله تعالى فذكر أن بعض أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي ورهطه مؤمنون إيمانا حقا، لكن أكثرهم فاسقون خارجون عن حدود دينهم وكتبهم، متمردون في الكفر، فقليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان. ومرة يعبر تعالى بالأكثر كما هنا، وكما في قوله

صفحة رقم 41

عن بني إسرائيل: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء ٤/ ٤٦]، وتارة يعبر بالكثير، كما في قوله عن النصارى واليهود: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ [المائدة ٥/ ٦٦].
ويكثر الفسق عادة بعد طول الأمد على ظهور الدين، كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ، وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ، فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد ٥٧/ ١٦].
ثم أخبر الله تعالى عباده المؤمنين وبشرهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب، فذكر أن هؤلاء الكافرين الفاسقين لن يلحقوا بكم إلا ضررا بسيطا كالسب والهجاء والتوعد باللسان ومحاولة الصد عن دين الله، والطعن في الدين، وإلقاء الشبهات، وتحريف النصوص، والطعن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، كما يفعل المبشرون اليوم.
وإن يقاتلوكم ينهزموا أمامكم، ولا ينصرون عليكم أبدا ما داموا على فسقهم، ودمتم على خيريتكم بالحفاظ على الأصول الثلاثة، وقد تحققت لسلف أمتنا هذه البشارات الثلاث من أخبار الغيب، فانهزم يهود بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، ويهود خيبر.
وتحقق مثل هذه الانتصارات مرهون بنصر دين الله، كما قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ، وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧] وبالحفاظ أيضا على الأصول الثلاثة المذكورة هنا وفي آيات أخرى مثل قوله تعالى في وصف المؤمنين المجاهدين: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ١١٢].
والخلاصة: إن النصر ليس هبة تمنح كما يتوقع بعض المخدوعين، وإنما هو

صفحة رقم 42

مشروط بالإتيان بمقومات دينية أساسية، فما دمنا نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله إيمانا صحيحا، تحقق لنا النصر والسيادة والعزة، وما داموا هم فاسقين خارجين عن حدود الله والطاعة والإيمان، ظلوا أذلة مقهورين.
والله تعالى ألصق بهم الذل والهوان أبدا أينما كانوا، لا ينعمون بأمن ولا استقرار، إلا بعهدين: عهد الله وعهد الناس. أما عهد الله فهو ما قررته الشريعة لهم من الأمان وتحريم الإيذاء والمساواة في الحقوق والقضاء إذا تم لهم عقد الذمة وفرض الجزية وإلزامهم أحكام الملة.
وأما عهد الناس: فهو ما يصدر لهم من الأمان كالمهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه أحد المسلمين ولو امرأة، وكذا التاجر الذي يتعامل معه في داخل البلاد أو على الحدود الخارجية، لتبادل المنافع والصنائع والتجارات. ومثل ذلك ما نجده من الحماية الثابتة لليهود في فلسطين، سواء من أمريكا وأوربا وروسيا وغيرها من الدول الكبرى.
والله تعالى أيضا ألزمهم غضبا منه فالتزموه، واستوجبوه واستحقوه، وأحاط بهم المسكنة والصغار إحاطة المكان بما فيه، فهم تابعون أذلاء لغيرهم، دائمون في الذل والحاجة والتبعة لغيرهم، متفرقون في أقطار الأرض على قلتهم، وسيظلون كذلك بالرغم من محاولاتهم المستميتة في التجمع والاستيطان والاستقرار في الأراضي المحتلة بفلسطين، وبالرغم من غناهم واعتمادهم على جمع المال والسيطرة على اقتصاديات العالم.
ثم بيّن تعالى سبب كل ذلك وعلته من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بسخط الله عليهم: وهو كفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم، وبدافع من الكبر والبغي والحسد، مع اعتقادهم أنهم على غير حق فيما

صفحة رقم 43

يرتكبونه من جريمة قتل أناس يقولون: ربنا الله. وفي هذا غاية التشنيع عليهم، والتوبيخ لهم.
وما جرأهم على ذلك، وما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسل الله، إلا كثرة المعاصي لأوامر الله، والانغماس الدائم في المعصية، والاعتداء على شرع الله وحدوده، فمن اعتاد العصيان، وانتهك حرمات الله، هان عليه كل شيء حرام ومنكر في الحياة.
والتشنيع على اليهود المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتوجيه اللوم لهم على الكفر وقتل الأنبياء، مع أنه صدر من أسلافهم، إنما كان لأنهم منتسبون إليهم، متكافلون متعاطفون معهم، راضون بأفعالهم، سائرون على منهجهم، فإنهم حاولوا أيضا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات وصف فريقين أو أمتين من الناس، وأبانت سبب الاتصاف، وقارنت بينهما، على أساس دقيق من التعادل والحق.
فالأمة الإسلامية خير الأمم بسبب إيمانها الصحيح التام بكل ما أمر به الله، وبقيامها بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتظل الخيرية والفضيلة لها على الشرائط المذكورة، والتزامها الأصول الثلاثة.
وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم، فإن السنة النبوية أوضحت أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم،
بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» «١»
وهذا مذهب معظم العلماء، فمن صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورآه ولو مرة في عمره مؤمنا به، فهو أفضل ممن يأتي بعده.
وفضل قرن النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم، قليلون في عددهم، مع

(١) أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن مسعود. [.....]

صفحة رقم 44

كثرة الكفار، صابرون على أذاهم، متمسكون حق التمسك بدينهم. وأما أواخر هذه الأمة فلهم فضيلة أخرى لا تمنع ولا تحجب فضيلة السلف الصالح إذا أقاموا الدّين، وتمسكوا به، وصبروا على طاعة ربهم، في وقت ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر، فيصيرون بذلك أشباه السلف غرباء أيضا، وتزكو أعمالهم في ذلك الوقت، كما زكت أعمال أوائلهم، بدليل
قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء»
وقوله فيما رواه الترمذي والحاكم وصححاه وابن ماجه وغيرهم عن أبي ثعلبة الخشني: «إن أمامكم أياما: الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثل عمله، قيل: يا رسول الله، منهم؟ قال: بل منكم»
وذكر أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي: «أمتي كالمطر لا يدرى أوّله خير أم آخره»
وذكره الدارقطني في مسند حديث مالك عن أنس: «مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره».
وحينئذ يستوي أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية.
ومدح الأمة الإسلامية ما داموا قائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بكل ما يجب الإيمان به، فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر، زال عنهم اسم المدح، ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم.
وإيمان أهل الكتاب بالنبي صلّى الله عليه وسلّم خير لهم، ومنهم المؤمن والفاسق، والفاسق أكثر.
ووعد الله المؤمنين ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل الكتاب لا يغلبونهم، وأنهم منصورون عليهم، لا ينالهم منهم أذى إلا بالافتراء والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين.
وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام لأن من قاتله من اليهود انهزم وولى الأدبار.

صفحة رقم 45
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية