آيات من القرآن الكريم

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ
ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ

يوسف ﴿وَاسْتَوَى﴾؛ أي: انتهى شبابه، وتكامل عقله، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين، وقال في يوسف: ﴿بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ فقط؛ لأنه أوحي إليه في صباه حين كان في البئر، وموسى عليه السلام أوحي إليه بعد أربعين سنة، كما قال سبحانه: ﴿آتَيْنَاهُ﴾؛ أي: أعطينا موسى ﴿حُكْمًا﴾؛ أي: نبوة (١) ﴿وَعِلْمًا﴾؛ أي: فقهًا في الدين، أو علمًا بمصالح الدارين، أو علم الحكماء والعلماء، أو سمتهم قبل استنبائه، فلا يقول قولًا، ولا يفعل فعلًا يُستجهل فيه، وهو أوفق لنظم القصة، لأنه تعالى استنبأه بعد الهجرة والمراجعة اهـ. "أبو السعود".
والمراد بالهجرة خروجه إلى مدين، وبالمراجعة رجوعه منها اهـ "شهاب"، وكان عمره عند رجوعه من مدين أربعين سنة؛ لأنه أقام في مصر ثلاثين سنة ثم ذهب إلى مدين، وأقام فيها عشر سنين، ووقعة قتل القبطي كانت قبل ذهابه إلى مدين فهو السبب فيه.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: كما جزينا موسى وأمه ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ على إحسانهم؛ أي: وكما جزينا موسى على طاعته إيانا، وصبره على أمرنا بالحكم والعلم، وجزينا أمه على استسلامها أمرنا، حين ألقت ولدها في البحر تصديقًا لوعدنا؛ أي: كما جزيناها برد ولدها إليها، وجعله من المرسلين، نجزي كل من أحسن من عبادنا، وأطاع أمرنا، وانتهى عما نهيناه عنه، على إحسانه أيًا كان، والمراد العموم، وفي الآية تنبيه على أنهما كانا محسنين في عملهما، متَّقين في عنفوان عمرهما، فمن أدخل نفسه في زمرة أهل الإحسان جازاه الله بأحسن الجزاء.
حكي (٢): أن امرأة كانت تتعشى، فسألها سائل، فقامت ووضعت في فمه لقمة، ثم وضعت ولدها في موضع، فاختلسه الذئب، فقالت: يا رب ولدي، فأخذ آخذ عنق الذئب، واستخرج الولد من فيه بغير أذًى، وقال لها: هذه اللقمة بتلك اللقمة التي وضعتها في فم السائل.
١٥ - وبعد أن أخبر بتهيئته للنبوة، ذكر ما كان السبب في هجرته إلى مدين،

(١) النسفي.
(٢) روح البيان.

صفحة رقم 115

وتوالي الأحداث الجسام عليه، فقال: ﴿وَدَخَلَ﴾ موسى عليه السلام ﴿الْمَدِينَةَ﴾؛ أي: مديثة منف، وهي مدينة فرعون موسى، التي كان ينزلها، وفيها كانت الأنهار تجري تحت سويره، وكانت في غربي النيل، على مسافة اثني عشر ميلًا من مدينة فسطاط مصر، المعروفة يومئذ بمصر القديمة، ومنف بفتح الميم وسكون النون، وقيل: بضم الميم وسكون النون، يمنع من الصرف للعلمية والعجمة، أو التأنيث، أصلها مآفة، ومعناها (١) بلغة القبط ثلاثون؛ لأنها أول مدينة عُمِّرت بأرض مصر بعد الطوفان، نزلهار بن حام بن نوح في ثلاثين رجلًا، فسُمِّيت مآفت، ثم عُرِّبت فصارت منف، وكانت دار الملك بمصر في قديم الزمان.
قيل: إن موسى عليه السلام لما بلغ أشده، وآتاه العلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل، فتكلم بالحق، وعاب دينهم، واشتهر ذلك منه، حتى آل الأمر إلى أن خافوه وخافهم، وكان له من بني إسرائيل شيعة يقتدون به، ويسمعون منه، وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفًا فدخلها يومًا ﴿عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا﴾؛ أي: حال كونه مستخفيًا، في وقت غفلة كائنة من أهل المدينة؛ أي: وقت غفلتهم من دخوله؛ أي: دخلها في وقت لا يُعتاد دخولها.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: دخلها في الظهيرة عند المقيل، وقد خلت الطرق؛ أي: دخلها وقت كونهم قائلين غافلين، مشغولين بنوم القيلولة، ﴿فَوَجَدَ فِيهَا﴾؛ أي: في المدينة بعد دخولها ﴿رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ﴾ ويتضاربان، ويلازمان مقدمات القتل من الضرب والقتل.
﴿هَذَا﴾ أي: أحدهما ﴿مِنْ شِيعَتِهِ﴾؛ أي: من شايعه وتابعه في دينه، وهم بنو إسرائيل، قيل: هو السامري ﴿وَهَذَا﴾ أي: الآخر ﴿مِنْ عَدُوِّه﴾؛ أي: من المعادين له على دينه، وهم قوم فرعون.
﴿فَاسْتَغَاثَهُ﴾؛ أي: طلب من موسى أن ينصره ويعينه ﴿الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ﴾؛

(١) المراح.
(٢) البحر المحيط.

صفحة رقم 116

أي: من شيعة موسى ﴿عَلَى﴾ خصمه ﴿الَّذِي﴾ كان ﴿مِنْ عَدُوِّهِ﴾ أي: من عدو موسى، فأغاثه؛ لأن نصر المظلوم واجب في جميع الملل، فالقبطي الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون، استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه، واسمه فليثون، أو فأثون، والإشارة في هذا على الحكاية، وإلا فهو والذي من عدوه ما كانا حاضرين حال الحكاية لرسول الله - ﷺ -، ولكنهما لما كانا حاضرين يشار إليهما وقت وجدان موسى إياهما حكى حالهما وقتئذٍ، أو لحكاية الحال عبر عن غائب ماض باسم الإشارة الذي هو موضوع للحاضر، وقال المبرِّد: العرب تشير بهذا إلى الغائب، قال جرير:

هَذَا ابْنُ عَمِّي فِيْ دِمَشْقَ خَلِيْفَةٌ لَوْ شِئْتُ سَاقَكُمُ إِلَيَّ قَطِيْنَا
ذكره أبو حيان اهـ.
وقرأ أبو طالب القارىء (١): ﴿على حين﴾ بنصب نون حين، ووجهه أنه أجرى المصدر مجرى الفعل، كأنه قال: على حين غفل أهلها، فبناه كما بناه حين أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض كقوله:
عَلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا
وهذا توجيه فيه شذوذ
وقرأ ثعيم بن ميسرة ﴿يقتلان﴾ بإدغام التاء في التاء، ونقل فتحها إلى القاف، وقرأ الجمهور: ﴿فاستغاثه﴾؛ أي: طلب غوثه، ونصره على القبطي، وقرأ سيبويه وابن مقسم والزعفراني بالعين المهملة والنون بدل الثاء؛ أي: طلب الإعانة على القبطي، قال أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة: والاختيار قراءة ابن مقسم؛ لأن الإعانة أولى في هذا الباب، وقال ابن عطية: ذكرها الأخفش، وهي تصحيف لا قراءة. انتهى.
وليست تصحيفًا فقد نقلها ابن خالويه عن سيبويه، وابن جبارة عن ابن
(١) البحر المحيط.

صفحة رقم 117

مقسم والزعفراني، وروي أنه لما اشتد التناكر بينهما قال القبطي لموسى: لقد هممت أن أحمله عليك - يعني الحطب - فاشتد غضب موسى وكان قد أوتي قوة فوكزه فمات، كما قال: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَى﴾ أي (١): ضربه موسى بجمع كفه، وقيل: الوكز الضرب في الصدر، وقيل: الوكز الدفع بأطراف الأصابع، ﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾؛ أي: قتله موسى، وفرغ من أمره، فندم موسى عليه، ولم يكن قصده القتل بل دفعه، ودفنه في الرمل، وكل شيء فرغت منه وأتممته فقد قضيت عليه.
وقرأ عبد الله (٢): ﴿فلكزه﴾ باللام بدل الواو، وعنه ﴿فنكزه﴾ بالنون، والظاهر أن فاعل ﴿فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ ضمير عائد على موسى، وقيل: يعود على الله؛ أي: فقضى الله عليه بالموت، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه؛ أي: فقضى الوكز عليه، وكان موسى لم يتعمد قتله بل قصد دفعه، فندم على قتله.
﴿قَالَ هَذَا﴾ القتل ﴿مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ﴾ وإنما أضاف العمل إلى الشيطان، لأنه كان بإغوائه ووسوسته، وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل؛ لأنه لم يكن حنيئذٍ مأمورًا بقتل الكفار، أو لأنه كان مأمونًا عندهم فلم يكن له اغتيالهم، ولا يقدح ذلك في عصمته، لكونه خطأ، وإنما عده من عمل الشيطان، وسماه ظلمًا، واستغفر منه جريًا على سنن المقربين في استعظام ما فرط منهم، ولو كان من محقرات الصغائر، أو كان هذا قَبْلَ النبوة.
وقيل (٣): إن هذا إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه، والمعنى إن عمل هذا المقتول من عمل الشيطان، والمراد بيان كونه مخالفًا لأمر الله تعالى، مستحقًا للقتل، وقيل: هذا إشارة إلى المقتول، يعني أنه من جُنْدِ الشيطان وحزبه، ثم وصف الشيطان بقوله: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي: إن الشيطان ﴿عَدُوٌّ﴾ لابن آدم ﴿مُضِلٌّ﴾ له عن طريق الحق والاعتدال ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر العداوة والإضلال.

(١) الخازن.
(٢) البحر المحيط.
(٣) الخازن.

صفحة رقم 118
حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الأمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن الأرمي العلوي الهرري الشافعي
راجعه
هاشم محمد علي مهدي
الناشر
دار طوق النجاة، بيروت - لبنان
سنة النشر
1421
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية