آيات من القرآن الكريم

وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ۖ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ ۖ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ
ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆ ﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ

- ٣- قتل المصري خطأ وخروجه من مصر
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٥ الى ٢١]
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١)
الإعراب:
هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ أراد بالجملة حكاية حال كانت فيما مضى، كقوله تعالى:
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف ١٨/ ١٨] فأعمل اسم الفاعل، وإن كان للماضي، على حكاية الحال. وقوله: مِنْ عَدُوِّهِ أي من أعدائه، وعدو: يصلح للواحد والجمع.
خائِفاً يَتَرَقَّبُ خبر أصبح المنصوب. ويجوز أن يكون فِي الْمَدِينَةِ خبرها، وخائِفاً حال منصوب. والَّذِي مبتدأ مرفوع، وخبره إما يَسْتَصْرِخُهُ وإما

صفحة رقم 71

فَإِذَا ويستصرخه في موضع نصب على الحال.
يَسْعى صفة رجل، أو حال منه إذا جعل: من أقصى المدينة صفة له.
البلاغة:
رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ استعطاف.
جَبَّاراً لَغَوِيٌّ مُبِينٌ صيغ مبالغة على وزن فعّال وفعيل. وكذلك الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بينهما طباق أي بين «جبار» وهو المفسد في الأرض وبين كلمة الْمُصْلِحِينَ.
إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ التأكيد بإن واللام ليناسب مقتضى الحال، ليجد موسى مخرجا.
المفردات اللغوية:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ أي دخل موسى مصر آتيا من قصر فرعون، وقيل: منف مدينة فرعون، أو عين شمس من نواحي مصر. عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي في وقت لا يعتاد دخولها ولا يتوقعونه فيه، قيل: كان وقت القيلولة، أو بين العشاءين. مِنْ شِيعَتِهِ إسرائيلي، أي من حزبه وجماعته الذين شايعوه وتابعوه في الدين، وهم بنو إسرائيل. وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ قبطي، أي من مخالفيه في الدين، وهم القبط. فَاسْتَغاثَهُ طلب منه الغوث والنصرة والإعانة، ولذلك عدّي بعلى، وقرئ: فاستعانه. فَوَكَزَهُ فضرب القبطي بجمع كفه أي بيده، وكان شديد القوة والبطش، وقرئ: فلكزه، أي فضرب به صدره. فَقَضى عَلَيْهِ قتله خطأ، فأنهى حياته، ولم يكن قصد قتله، ودفنه في الرمل.
هذا أي قتله. مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه الذي هيج غضبي. ولا يقدح ذلك في عصمته لكونه خطأ، وسماه ظلما، واستغفر منه، لاستعظام الصغائر، بل وكان ذلك قبل النبوة في عهد الشباب، في سن دون الثلاثين لأنه أوحي عليه في سن الأربعين بعد زواجه بابنة شعيب في مدين، ورعيه الماشية عشر سنوات. إِنَّهُ عَدُوٌّ لابن آدم. مُضِلٌّ موقع في الضلال والخطأ. مُبِينٌ ظاهر العداوة والإضلال.
قالَ موسى نادما. ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتله. فَاغْفِرْ لِي فاستر ذنبي. فَغَفَرَ لَهُ باستغفاره. الْغَفُورُ لذنوب عباده. الرَّحِيمُ بهم. رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ أي بحق

صفحة رقم 72

إنعامك علي بالمغفرة اعصمني فهو استعطاف، أو هو قسم محذوف الجواب، أي أقسم بإنعامك علي بالمغفرة وغيرها لأتوبن. فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي فلن أكون معينا لمن أجرم بعد هذه إن عصمتني.
خائِفاً يَتَرَقَّبُ ينتظر ما يناله من أذى أي استقادة أو قود (قصاص). اسْتَنْصَرَهُ طلب نصره وعونه. يَسْتَصْرِخُهُ يستغيث به على قبطي آخر. لَغَوِيٌّ ضال. مُبِينٌ بيّن الغواية. فَلَمَّا أَنْ زائدة. يَبْطِشَ يضرب بسطوة وقوة وصولة. بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما لموسى والمستغيث به. قالَ القبطي المصري، أو قال الإسرائيلي المستغيث لأنه سماه غويا، فظن أنه يبطش به. إِنْ تُرِيدُ ما تريد. جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ تتطاول على الناس ولا تنظر العواقب. مِنَ الْمُصْلِحِينَ يبغون الإصلاح بين الناس، فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن. ولما قال هذا سمع القبطي، وانتشر الحديث وبلغ الخبر إلى فرعون وملئه، فعلم أن القاتل موسى، فأخبر فرعون بذلك، فأمر فرعون الذبّاحين بقتل موسى، فهموا بقتله.
وَجاءَ رَجُلٌ هو مؤمن آل فرعون. أَقْصَى الْمَدِينَةِ آخرها أو من أبعد جهاتها.
يَسْعى يسرع في مشيه من طريق أقرب من طريقهم. إِنَّ الْمَلَأَ أشراف قوم فرعون.
يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون فيك، وسميت المشاورة ائتمارا، لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر به. فَاخْرُجْ من المدينة. إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ في الأمر بالخروج. واللام للبيان، وليس صلة للناصحين لأن معمول الصلة لا يتقدم الموصول. يَتَرَقَّبُ يتلفّت يمنة ويسرة.
المناسبة:
بعد بيان ما أنعم الله به على موسى عليه السلام من إنجائه صغيرا من الذبح على يد فرعون، وإيتائه الحكمة والعلم كبيرا تهيئة للنبوة، ذكر ما أنعم به عليه من الخروج آمنا من مصر بعد قتله قبطيا مصريا، كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين.
التفسير والبيان:
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي ودخل موسى المدينة التي كان يسكنها فرعون، وهي قرية على بعد فرسخين من مصر، هي- كما قال

صفحة رقم 73

الضحاك- عين شمس، وذلك في وقت لا يتوقع دخوله فيها، وهو إما وقت القيلولة في نصف النهار وقت الظهيرة والناس نيام، أو ما بين المغرب والعشاء.
فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، هذا مِنْ شِيعَتِهِ، وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ، فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ، قالَ: هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي فوجد موسى في تلك المدينة رجلين يتضاربان ويتنازعان، أحدهما إسرائيلي من حزبه وجماعته، والآخر قبطي مصري مخالف لموسى في العقيدة والدين، وهو طباخ فرعون، كان قد طلب منه أن يحمل حطبا للمطبخ فأبى، فطلب الإسرائيلي من موسى النجدة والعون على عدوه القبطي، فضربه موسى بيده، فقضي عليه، أي كان الضرب مفضيا إلى الموت، وواراه التراب، دون أن يعلم بذلك أحد إلا الرجل العبراني الذي نصره موسى.
ثم ندم موسى على ما فعل، فقال: هذا الحادث من تزيين الشيطان وإغرائه.
إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أي إن الشيطان عدو للإنسان، مضل له أي موقع له في الضلال والخطأ، بيّن العداوة والإضلال، ثم تاب من فعله فقال:
قالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي أي قال موسى: يا رب، إني ظلمت نفسي بهذا الفعل، وهو قتل نفس بريئة، فاستر لي ذنبي، ولا تؤاخذني بما جنت يدي، فإني أتوب إليك، وأندم على فعلي.
وقد عدّ ذلك ذنبا، لأن القتل لا يحل أصلا، وذلك معروف من شرائع الأنبياء المتقدمين. قال النقاش: لم يقتله عن عمد مريدا للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه، وإن هذا كان قبل النبوة.
روى مسلم عن سالم بن عبد الله أنه قال: يا أهل العراق! ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي عبد الله بن عمر يقول: سمعت

صفحة رقم 74

رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن الفتنة تجيء من هاهنا- وأومأ بيده نحو المشرق- من حيث يطلع قرنا الشيطان، وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ، فقال الله عز وجل: وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً».
فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي فعفا عنه وقبل توبته، إنه تعالى الستار لذنوب عباده المنيبين إليه، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد التوبة والإنابة، فشكر موسى ربه:
قالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ أي قال موسى: يا رب اعصمني من الخطأ بحق ما أنعمت علي من المعرفة والحكمة والتوحيد، ومن الجاه والعز والنعمة، فلن أكون إن عصمتني معينا لمن ظلم وأجرم وأشرك. أو أقسم بإنعامك علي بهذه النعم الكثيرة لأتوبن، ولن أناصر المشركين.
قال القشيري: ولم يقل لما أنعمت علي من المغفرة لأن هذا قبل الوحي، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل.
وذكر الماوردي وغيره أن الإنعام بالمغفرة أو الهداية. قال القرطبي: فَغَفَرَ لَهُ يدل على المغفرة، والله أعلم.
وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون وإما بمظاهرة من أدّت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له قتله.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود ١١/ ١١٣].

صفحة رقم 75

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ، فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ، قالَ لَهُ مُوسى: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ أي فصار موسى بعد حادثة قتل القبطي المصري خائفا من أن يظهر أنه هو القاتل، فيطلب به، وصار يتلفت ويتوقع أن يقتل بسبب جنايته، فسار في بعض الطرق متخفيا مستترا، فإذا ذلك الإسرائيلي الذي استنصره بالأمس على المصري، يطلب منه العون والغوث على مصري آخر، فقال له موسى: إنك ظاهر الغواية، كثير الفساد والشر والضلال.
فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما، قالَ: يا مُوسى: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ أي فلما أراد موسى زجر عدوهما وهو القبطي، قال له مستنكرا مستهجنا: أتريد الإقدام على قتلي كما قتلت نفسا البارحة، وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي، قال الرازي: والظاهر هذا الوجه لأنه تعالى قال: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما، قالَ: يا مُوسى فهذا القول إذن منه، لا من غيره، وأيضا فقوله: إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لا يليق إلا بأن يكون قولا للكافر.
وقال بعضهم: لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي مبين، ورآه على غضب، ظن- لما همّ بالبطش- أنه يريده لخوره وضعفه وذلته، فقال هذا القول، وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف لأنه لم يكن يعلم بحادثة الأمس غير هذا العبري، فلما سمعها ذلك القبطي، نقلها إلى فرعون، فاشتد حنقه وعزم على قتل موسى.
إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ أي ما تريد يا موسى إلا أن تكون قتّالا بطاشا، مستعليا، كثير الأذى في الأرض، دون أن تنظر في العواقب، ولا تريد أن تكون من أهل

صفحة رقم 76

الإصلاح الذين يفصلون في خصومات الناس بالحسنى والحكمة، ولو كان أحد الخصوم من ذوي القربى أو العشيرة الواحدة.
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ: يا مُوسى، إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ أي وجاء رجل مؤمن من آل فرعون، يخفي إيمانه عن الناس، من أبعد مكان في المدينة، يسرع ليخبر موسى بما دبره القوم من سوء له، وقال: يا موسى، إن فرعون وأشراف دولته يتشاورون فيك، ويدبرون مؤامرة لقتلك، فاخرج بسرعة من البلد، إني لك ناصح أمين. ووصف بالرجولة لسلوكه طريقا أقرب من طريق المبعوثين وراء موسى.
فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ أي فخرج موسى من مدينة فرعون خائفا على نفسه يتلفّت، ويترقب متابعة أحد له.
قالَ: رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قال موسى في هذه المحنة الشديدة: رب نجني من هؤلاء الظالمين: فرعون وملئه، فاستجاب الله دعاه ونجاه ووصل إلى مدين، كما قال تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه ٢٠/ ٤٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وقوع حادثة قتل خطأ غير عمد من موسى عليه السلام.
٢- ندم موسى عليه السلام على ذلك الوكز (الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين) ونسب الفعل إلى الشيطان، وقال: رب، إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، فغفر له، وحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه، قال قتادة: عرف والله المخرج فاستغفر ثم لم يزل عليه السلام يعدّد ذلك

صفحة رقم 77

على نفسه، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى إنه في القيامة يقول: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها. وكان ذلك القتل قبل النبوة، كما عرفنا.
والقتل الخطأ ذنب، بدليل إيجاب الكفارة عليه في شرعنا، ولأنه لا يخلو عن إهمال أو تقصير أو تجاوز الحدود المألوفة، قال تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء ٤/ ٩٢].
٣- كان من توابع توبة موسى عليه السلام من فعله أنه أقسم بما أنعم الله عليه ألا يظاهر ولا يعاون مجرما.
ويصح أن يكون قوله: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ استعطافا كأنه قال: رب اعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة أو غيرها من النعم كالمعرفة والحكمة والتوحيد، فلن أكون إن عصمتني ظهيرا (معينا) للمجرمين.
٤- دلت آية فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ على أنه لا يجوز معاونة الظلمة والفسقة. قال عطاء: فلا يحل لأحد أن يعين ظالما، ولا يكتب له، ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين.
وفي الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة، حتى من لاق لهم دواة، أو برى لهم قلما؟ فيجمعون في تابوت من حديد، فيرمى به في جهنم».
وفي حديث آخر رواه الديلمي عن معاذ: «من مشى مع ظالم فقد أجرم»
ويروى أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من مشى مع مظلوم ليعينه على مظلمته، ثبّت الله قدميه على الصراط يوم القيامة يوم تزلّ فيه الأقدام، ومن مشى مع ظالم ليعينه على ظلمه، أزلّ الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام».
٥- دل قوله تعالى: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً على أن الخوف غريزة

صفحة رقم 78
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية