
الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ يَعْنِي أَهْلَ مِصْرَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه وَعَدَهَا بِرَدِّهِ إِلَيْهَا وَثَالِثُهَا: هَذَا كَالتَّعْرِيضِ بِمَا فَرَطَ مِنْهَا حِينَ سَمِعَتْ بِخَبَرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَجَزِعَتْ وَأَصْبَحَ فُؤَادُهَا فَارِغًا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى إِنَّا إِنَّمَا رَدَدْنَاهُ إليها لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ مِنْ ذَلِكَ الرَّدِّ هَذَا الْغَرَضُ الدِّينِيُّ، وَلَكِنَّ الْأَكْثَرَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَذَهَابِ الْحُزْنِ تَبَعٌ، قَالَ الضَّحَّاكُ لَمَّا قَبِلَ ثَدْيَهَا قَالَ هَامَانُ إِنَّكِ لَأُمُّهُ، قَالَتْ لَا قَالَ فَمَا بَالُكِ قَبِلَ ثَدْيَكِ مِنْ بَيْنِ النِّسْوَةِ قَالَتْ أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّي امْرَأَةٌ طَيِّبَةُ الرِّيحِ حُلْوَةُ اللَّبَنِ مَا شَمَّ رِيحِي صَبِيٌّ إِلَّا أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِي، قَالُوا صَدَقْتِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ إِلَّا أَهْدَى إِلَيْهَا وأتحفها بالذهب والجواهر.
[سورة القصص (٢٨) : الآيات ١٤ الى ١٧]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧)
اعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ: بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ اسْتِكْمَالُ الْقُوَّةِ وَاعْتِدَالُ الْمِزَاجِ وَالْبِنْيَةِ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّ الْأَشُدَّ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْقُوَّةِ الْجُسْمَانِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالِاسْتِوَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَثَانِيهَا: الْأَشُدُّ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْقُوَّةِ، وَالِاسْتِوَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْبِنْيَةِ وَالْخِلْقَةِ وَثَالِثُهَا: الْأَشُدُّ عِبَارَةٌ عَنِ الْبُلُوغِ، وَالِاسْتِوَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْخِلْقَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْأَشُدُّ مَا بَيْنَ الثَّمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً «١» إِلَى الثَّلَاثِينَ ثُمَّ مِنَ الثَّلَاثِينَ سَنَةً إِلَى الْأَرْبَعِينَ يَبْقَى سَوَاءً مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَمِنَ الْأَرْبَعِينَ يَأْخُذُ فِي النُّقْصَانِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا حَقٌّ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْعُمْرِ فِي النُّمُوِّ وَالتَّزَايُدِ ثُمَّ يَبْقَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ فَنِهَايَةُ مُدَّةِ الِازْدِيَادِ مَنْ أَوَّلِ الْعُمْرِ إِلَى الْعِشْرِينَ وَمِنِ الْعِشْرِينَ إِلَى الثَّلَاثِينَ يَكُونُ التَّزَايُدُ قَلِيلًا وَالْقُوَّةُ قَوِيَّةً جِدًّا ثُمَّ مِنَ الثَّلَاثِينَ إِلَى الْأَرْبَعِينَ يَقِفُ فَلَا يَزْدَادُ وَلَا يَنْتَقِصُ وَمِنَ الْأَرْبَعِينَ إِلَى السِّتِّينَ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ الْخَفِيِّ، وَمِنَ السِّتِّينَ إِلَى آخِرِ الْعُمُرِ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ الْبَيِّنِ الظَّاهِرِ،
وَيُرْوَى أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً
وَالْحِكْمَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ إِلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ قُوَاهُ الْجُسْمَانِيَّةُ مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْحِسِّ قَوِيَّةً مُسْتَكْمَلَةً فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مُنْجَذِبًا إِلَيْهَا فَإِذَا انْتَهَى إِلَى الْأَرْبَعِينَ أَخَذَتِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةُ فِي الِانْتِقَاصِ، وَالْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فِي الِازْدِيَادِ فَهُنَاكَ يَكُونُ الرَّجُلُ أَكْمَلَ مَا يَكُونُ فَلِهَذَا السِّرِّ اخْتَارَ اللَّه تَعَالَى هَذَا السِّنَّ لِلْوَحْيِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي وَاحِدِ الْأَشُدِّ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَشُدُّ وَاحِدُهَا شَدٌّ فِي الْقِيَاسِ وَلَمْ يُسْمَعْ لها

بِوَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَمِ: وَاحِدَةُ الْأَشُدِّ شِدَّةٌ، كَمَا أَنَّ وَاحِدَةَ الْأَنْعُمِ نِعْمَةٌ، وَالشِّدَّةُ الْقُوَّةُ وَالْجَلَادَةُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً فَفِيهِ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا النُّبُوَّةُ وَمَا يُقْرَنُ بِهَا مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ النُّبُوَّةَ كَانَتْ قَبْلَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ أَوْ بَعْدَهُ، لِأَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ الثَّانِي: آتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَالْعِلْمَ قَالَ تَعَالَى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الْأَحْزَابِ: ٣٤] وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ النُّبُوَّةَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مَسْبُوقَةً بِالْكَمَالِ فِي الْعِلْمِ وَالسِّيرَةِ الْمُرْضِيَةِ الَّتِي هِيَ/ أَخْلَاقُ الْكُبَرَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ:
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ مُجَازَاةً عَلَى إِحْسَانِهِ وَالنُّبُوَّةُ لَا تَكُونُ جَزَاءً عَلَى الْعَمَلِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ لَوْ كَانَ هُوَ النُّبُوَّةَ، لَوَجَبَ حُصُولُ النُّبُوَّةِ لِكُلِّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ لِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ، ثُمَّ بَيَّنَ إِنْعَامَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ. وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمَدِينَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمَدِينَةُ الَّتِي كَانَ يَسْكُنُهَا فِرْعَوْنُ، وَهِيَ قَرْيَةٌ عَلَى رَأْسِ فَرْسَخَيْنِ مِنْ مِصْرَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ عَيْنُ شَمْسٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها عَلَى أَقْوَالٍ: فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى وَآتَاهُ اللَّه الْحُكْمَ وَالْعِلْمَ فِي دِينِهِ وَدِينِ آبَائِهِ، عَلِمَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ عَلَى الْبَاطِلِ، فَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ وَعَابَ دِينَهُمْ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ أَخَافُوهُ وَخَافَهُمْ، وَكَانَ لَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ شِيعَةٌ يَقْتَدُونَ بِهِ وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ، وَبَلَغَ فِي الْخَوْفِ بِحَيْثُ مَا كَانَ يَدْخُلُ مَدِينَةَ فِرْعَوْنَ إِلَّا خَائِفًا، فَدَخَلَهَا يَوْمًا عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَخَلَهَا نِصْفَ النَّهَارِ وَقْتَ مَا هُمْ قَائِلُونَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُرِيدُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْغَفْلَةَ إِلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا دَخَلَ الْمَرْءُ مُسْتَتِرًا لِأَجْلِ خَوْفٍ، لَا تُضَافُ الْغَفْلَةُ إِلَى الْقَوْمِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ كَبِرَ كَانَ يَرْكَبُ مَرَاكِبَ فِرْعَوْنَ، وَيَلْبَسُ مِثْلَ مَا يَلْبَسُ، وَيُدْعَى مُوسَى ابْنُ فِرْعَوْنَ، فَرَكِبَ يَوْمًا فِي أَثَرِهِ فَأَدْرَكَهُ الْمَقِيلُ فِي مَوْضِعٍ، فَدَخَلَهَا نِصْفَ النَّهَارِ، وَقَدْ خَلَتِ الطُّرُقُ، فَهُوَ قَوْلُهُ: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها حُصُولُ الْغَفْلَةِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، بَلِ الْمُرَادُ الْغَفْلَةُ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى وَأَمْرِهِ، فَإِنَّ مُوسَى حِينَ كَانَ صَغِيرًا ضَرَبَ رَأْسَ فِرْعَوْنَ بِالْعَصَا وَنَتَفَ لِحْيَتَهُ، فَأَرَادَ فِرْعَوْنُ قَتْلَهُ، فَجِيءَ بِجَمْرٍ فَأَخَذَهُ وَطَرَحَهُ فِي فِيهِ، فَمِنْهُ عُقْدَةُ لِسَانِهِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: لَا أَقْتُلُهُ، وَلَكِنْ أَخْرِجُوهُ عَنِ الدَّارِ وَالْبَلَدِ، فَأُخْرِجَ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَبِرَ، وَالْقَوْمُ نَسُوا ذِكْرَهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ وَلَا مَطْمَعَ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى بَعْضٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ تَعَالَى: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ، هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ قَالَ الزَّجَّاجُ:
قَالَ: هَذَا وَهَذَا وَهُمَا غَائِبَانِ عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ، أَيْ وَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ، إِذَا نَظَرَ النَّاظِرُ إِلَيْهِمَا قَالَ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدِوِّهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ مُقَاتِلٌ: الرَّجُلَانِ كَانَا كَافِرَيْنِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْآخَرُ مِنَ الْقِبْطِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [الْقَصَصِ: ١٨] وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ كَانَ مُسْلِمًا، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِيمَنْ يُخَالِفُ الرَّجُلَ فِي دِينِهِ وَطَرِيقِهِ: إِنَّهُ مِنْ شِيعَتِهِ،

وَقِيلَ إِنَّ الْقِبْطِيَّ الَّذِي سَخَّرَ الْإِسْرَائِيلِيَّ كَانَ/ طَبَّاخَ فِرْعَوْنَ، اسْتَسْخَرَهُ لِحَمْلِ الْحَطَبِ إِلَى مَطْبَخِهِ، وَقِيلَ الرَّجُلَانِ الْمُقْتَتِلَانِ: أَحَدُهُمَا السَّامِرِيُّ وَهُوَ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ، وَالْآخَرُ طَبَّاخُ فِرْعَوْنَ واللَّه أَعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ الْحَالِ، فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، أَيْ سَأَلَهُ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْهُ وَاسْتَنْصَرَهُ عَلَيْهِ، فَوَكَزَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْوَكْزُ الدَّفْعُ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ بِجَمْعِ الْكَفِّ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (فَلَكَزَهُ مُوسَى)، وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
الْوَكْزُ فِي الصَّدْرِ وَاللَّكْزُ فِي الظَّهْرِ، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَدِيدَ الْبَطْشِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فَوَكَزَهُ بِعَصَاهُ، قَالَ الْمُفَضَّلُ هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ وَكَزَهُ بِالْعَصَا فَقَضى عَلَيْهِ أَيْ أَمَاتَهُ وَقَتَلَهُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ طَعَنَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقَّ الْقَتْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلِمَ قَالَ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ وَلِمَ قَالَ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ وَلِمَ قَالَ فِي سُورَةٍ أُخْرَى فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاءِ: ٢٠] ؟ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْقِبْطِيَّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقَّ الْقَتْلِ كَانَ قَتْلُهُ مَعْصِيَةً وَذَنْبًا وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا حَرْبِيًّا فَكَانَ دَمُهُ مُبَاحًا فَلِمَ اسْتَغْفَرَ عَنْهُ، وَالِاسْتِغْفَارُ عَنِ الْفِعْلِ الْمُبَاحِ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يُوهِمُ فِي الْمُبَاحِ كَوْنَهُ حَرَامًا؟ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَكْزَ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ ظَاهِرًا، فَكَانَ ذَلِكَ الْقَتْلُ قَتْلَ خَطَأٍ، فَلِمَ اسْتَغْفَرَ مِنْهُ؟ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ كَانَ لِكُفْرِهِ مُبَاحَ الدَّمِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: لَعَلَّ اللَّه تَعَالَى وَإِنْ أَبَاحَ قَتْلَ الْكَافِرِ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ الْأَوْلَى تَأْخِيرُ قَتْلِهِمْ إِلَى زَمَانٍ آخَرَ، فَلَمَّا قَتَلَ فَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ الْمَنْدُوبَ فَقَوْلُهُ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ مَعْنَاهُ إِقْدَامِي عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُ (هَذَا) إِشَارَةٌ إِلَى عَمَلِ الْمَقْتُولِ لَا إِلَى عَمَلِ نَفْسِهِ فَقَوْلُهُ: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أَيْ عَمَلُ هَذَا الْمَقْتُولِ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، الْمُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ كَوْنِهِ مُخَالِفًا للَّه تَعَالَى مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (هَذَا) إِشَارَةً إِلَى الْمَقْتُولِ، يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ، يُقَالُ فُلَانٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، أَيْ مِنْ أَحْزَابِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَعَلَى نَهْجِ قَوْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَافِ: ٢٣] وَالْمُرَادُ أَحَدُ وَجْهَيْنِ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاعْتِرَافِ بِالتَّقْصِيرِ عَنِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذَنْبٌ قَطُّ، أَوْ مِنْ حَيْثُ حَرَمَ نَفْسَهُ الثَّوَابَ بِتَرْكِ الْمَنْدُوبِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَاغْفِرْ لِي أَيْ فَاغْفِرْ لِي تَرْكَ هَذَا الْمَنْدُوبِ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي حَيْثُ قَتَلْتُ هَذَا الْمَلْعُونَ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَقَتَلَنِي بِهِ فَاغْفِرْ لِي أَيْ فَاسْتُرْهُ عَلَيَّ وَلَا تُوصِلْ خَبَرَهُ إِلَى فِرْعَوْنَ فَغَفَرَ لَهُ أَيْ سَتَرَهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ عَلَى عَقِبِهِ قَالَ: رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ وَلَوْ كَانَتْ إِعَانَةُ المؤمن هاهنا سَبَبًا لِلْمَعْصِيَةِ لَمَا قَالَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَلَمْ يَقُلْ إِنِّي صِرْتُ بِذَلِكَ ضَالًّا، وَلَكِنَّ فِرْعَوْنَ لَمَّا/ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا فِي حَالِ الْقَتْلِ نَفَى عَنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ كَافِرًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ كَانَ ضَالًّا أَيْ مُتَحَيِّرًا لَا يَدْرِي مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا يَدَّبَّرُ بِهِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا قَوْلُهُ إِنْ كَانَ كَافِرًا حَرْبِيًّا فَلِمَ اسْتَغْفَرَ عَنْ قَتْلِهِ؟ قُلْنَا كَوْنُ الْكَافِرِ مُبَاحَ الدَّمِ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فَلَعَلَّ قَتْلَهُمْ كَانَ حَرَامًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ إِنْ كَانَ مُبَاحًا لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ