
الشَّياطِينُ
لأنها قد عزلت عن السمع الذي كانت تأخذ له مقاعدها، وقوله وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي ما يمكنهم، وقد تجيء هذه اللفظة عبارة عما لا يمكن وعبارة عما لا يليق وإن كان ممكنا، ولما جاء الله بالإسلام حرس السماء بالشهب الجارية إثر الشياطين فلم يخلص شيطان بشيء يلقيه كما كان يتفق لهم في الجاهلية، وقرأ الجمهور «الشياطين»، وروي عن الحسن أنه قرأ «الشياطون» وهي قراءة مردودة، قال أبو حاتم هي غلط منه أو عليه وحكاها الثعلبي أيضا عن ابن السميفع، وذكر عن يونس بن حبيب أنه قال سمعت أعرابيا يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون قال يونس فقلت ما أشبه هذه بقراءة الحسن، ثم وصى عز وجل نبيه عليه السلام بالثبوت على توحيد الله تعالى وأمره بنذارة عشيرته تخصيصا لهم إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية. وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيرهم فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته. وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم، وروي عن ابن جريج أن المؤمنين من غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم من هذا التخصيص وخروجهم منه فنزلت وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ولما أمر رسول الله ﷺ بهذه النذارة عظم موقع الأمر عليه وصعب ولكنه تلقاه بالجلد، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر، فمن ذلك أنه أمر عليا رضي الله عنه بأن يصنع طعاما وجمع عليه بني جده عبد المطلب وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع وظهر منه عليه السلام بركة في الطعام، قال علي وهم يومئذ أربعون رجلا ينقصون رجلا أو يزيدونه، فرماه أبو لهب بالسحر فوجم رسول الله ﷺ وافترق جمعهم من غير شيء، ثم جمعهم كذلك ثانية وأنذرهم ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا، ومن ذلك أنه نادى عمه العباس وصفية عمته وفاطمة ابنته وقال لهم: «لا أغني عنكم من الله شيئا إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد» في حديث مشهور، ومن ذلك أنه صعد على الصفا أو أبي قبيس ونادى «يا بني عبد مناف وا صباحاه» فاجتمع إليه الناس من أهل مكة فقال يا بني فلان حتى أتى، على بطون قريش جميعا، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن. قال لهم «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد الغارة عليكم أكنتم مصدقي» قالوا نعم، فإنا لم نجرب عليك كذبا، فقال لهم «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد»، فقال له أبو لهب ألهذا جمعتنا تبا لك سائر اليوم فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] السورة، و «العشيرة» قرابة الرجل وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة، وخفض الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر، والضمير في عَصَوْكَ عائد على عشيرته من حيث جمعت رجالا فأمره الله بالتبري منهم وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف.
قوله عز وجل:
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢١٧ الى ٢٢٦]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١)
تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦)
قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة «فتوكل» بالفاء وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام،

والجمهور بالواو وكذلك في سائر المصاحف، وأمره الله تعالى بالتوكل عليه في كل أمره، ثم جاء بالصفات التي تؤنس المتوكل وهي العزة والرحمة المذكورتان في أواخر قصص الأمم المذكورة في هذه السورة، وضمنها نصر كل نبي على الكفرة والتهمم بأمره والنظر إليه، وقوله الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
، يَراكَ
عبارة عن الإدراك، وظاهر الآية أراد قيام الصلاة، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات وهو تأويل مجاهد وقتادة، وقوله فِي السَّاجِدِينَ قيل يريد أهل الصلاة أي صلاتك مع المصلين، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما، وقال أيضا مجاهد يريد تقلبك أي تقليبك عينك وأبصارك الساجدين حين تراهم من وراء ظهرك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا معنى أجنبي هنا، وقال ابن عباس أيضا وقتادة أراد تقلبك في المؤمنين فعبر عنهم ب السَّاجِدِينَ، وقال ابن جبير أراد الأنبياء أي تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء، وقوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ معناه قل لهم يا محمد هل أخبركم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ وهذا استفهام توقيف وتقرير، و «الأفاك» الكذاب، و «الأثيم» الآثم. ويريد الكهنة لأنهم كانوا يتلقون من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء، فيخلطون معها مائة كذبة، فإذا صدقت تلك الكلمة كانت سبب ضلالة لمن سمعها، وقوله يُلْقُونَ يعني الشياطين، ويقتضي ذلك أن الشيطان المسترق أيضا كان يكذب إلى ما سمع هذا في الأكثر، ويحتمل الضمير في يُلْقُونَ أي يكون للكهنة فإفكهم وحالهم التي تقتضي نفي كلامهم عن كلام كتاب الله عقب ذلك بذكر الشُّعَراءُ وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام القرآن، إذ قال في القرآن بعض الكفرة إنه شعر، وهذه الكناية هي عن شعراء الجاهلية، حكى النقاش عن السدي أنها في ابن الزبعرى وأبي سفيان بن الحارث وهبيرة بن أبي وهب ومسافع الجمحي وأبي عزة وأمية بن أبي الصلت.
قال القاضي أبو محمد: والأولان ممن تاب رضي الله عنهما، ويدخل في الآية كل شاعر مخلط يهجو ويمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور، وقرأ نافع «يتبعهم» بسكون التاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن والحسن بخلاف عنه، وقرأ الباقون بشد التاء وكسر الباء، واختلف الناس في قوله الْغاوُونَ، فقال ابن عباس هم الرواة وقال ابن عباس أيضا هم المستحسنون لأشعارهم المصاحبون لهم، وقال عكرمة هم الرعاع الذين يتبعون الشاعر ويتغنمون إنشاده وهذا أرجح الأقوال، وقال مجاهد وقتادة الْغاوُونَ الشياطين، وقوله فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث الكلام وباطله وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن قاله ابن عباس وغيره، وقوله، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ، ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب، وفي هذا اللفظ عذر لبعضهم أحيانا فإنه يروى أن النعمان بن عدي لما ولاه عمر بن الخطاب ميسان وقال لزوجته الشعر المشهور عزله عمر فاحتج عليه بقوله تعالى: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فدرأ عنه عمر الحد في الخمر، وروى جابر ابن عبد الله عن النبي ﷺ أنه قال من مشى سبع خطوات في شعر كتب من الغاوين ذكره أسد بن موسى وذكره النقاش.
قوله عز وجل: