الرد على افتراء المشركين بأن النبي كاهن أو شاعر
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٧]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
الإعراب:
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أَيَّ منصوب على المصدر ب يَنْقَلِبُونَ وتقديره: أي انقلاب ينقلبون. ولا يجوز نصبه ب سَيَعْلَمُ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله لأن الاستفهام له صدر الكلام، وإنما يعمل فيه ما بعده.
البلاغة:
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ كلاهما صيغة مبالغة على وزن فعّال وفعيل، أي كثير الكذب كثير الفجور.
يَقُولُونَ ويَفْعَلُونَ وانْتَصَرُوا وظُلِمُوا بين كلّ طباق.
فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استعارة تمثيلية، شبه حال الشعراء بإفراطهم في المديح والهجاء واسترسال الخيال بالتائه في الصحراء الذي هام على وجهه، فهو لا يدري أين يسير.
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ جناس اشتقاق.
يَهِيمُونَ، يَنْقَلِبُونَ، يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ سجع لمراعاة الفواصل وخواتيم الآيات.
المفردات اللغوية:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم يا أهل مكة وأمثالكم. تَنَزَّلُ أي تتنزل، ثم حذفت إحدى التاءين من الأصل. أَفَّاكٍ كذاب. أَثِيمٍ فاجر، مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة، وهما صيغة مبالغة، أي كثير الإفك والكذب، كثير الذنوب والفجور. يُلْقُونَ السَّمْعَ أي
الأفاكون من الشياطين يصغون أشد الإصغاء إلى الشياطين، فيتلقون منهم ما أكثره كذب وزور من الظنون والأمارات. وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ فسره بعضهم بالكل لقوله تعالى: كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ قال البيضاوي: والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم، على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني. وقيل: تعود الضمائر للشياطين، أي يلقون ما سمعوه من الملائكة إلى الكهنة، ويضمون إلى المسموع كذبا كثيرا، وكان هذا قبل أن حجبت الشياطين عن السماء.
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أي الضالون المائلون عن منهج الاستقامة، فهم مذمومون، وهذا للمقارنة بينهم وبين المؤمنين، فالشعراء يتبعهم الضالون في شعرهم، فيقولون به، ويروونه عنهم، أما أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم فليسوا كذلك. أَلَمْ تَرَ تعلم. فِي كُلِّ وادٍ من أودية الكلام وفنونه، والوادي: الشّعب. يَهِيمُونَ يمضون أو يسيرون حائرين، فيجاوزون الحد مدحا وهجاء لأن أكثر مقدماتهم خيالات لا حقيقة لها، وأغلب كلماتهم في الباطل. يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي يكذبون فيقولون: فعلنا وهم لم يفعلوا.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. أي من الشعراء. وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً لم يشغلهم الشعر عن الذكر. وَانْتَصَرُوا بهجوهم الكفار. مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بهجو الكفار لهم مع جملة المؤمنين، فليسوا بمذمومين، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء ٤/ ١٤٨] وقوله سبحانه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة ٢/ ١٩٤]. مُنْقَلَبٍ مرجع. يَنْقَلِبُونَ يرجعون بعد الموت، وهو تهديد شديد لأن قوله: سَيَعْلَمُ وعيد بليغ، وقوله: الَّذِينَ ظَلَمُوا على الإطلاق والتعميم، وقوله:
أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فيه إبهام وتهويل.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٢٤) وما بعدها: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ: أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فأنزل الله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الآيات.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: لما نزلت وَالشُّعَراءُ إلى قوله:
ما لا يَفْعَلُونَ قال عبد الله بن رواحة: قد علم الله أني منهم، فأنزل الله:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ السورة.
وأخرج ابن جرير والحاكم عن أبي حسن البرّاد قال: لما نزلت وَالشُّعَراءُ الآية، جاء عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فقالوا: يا رسول الله، والله لقد أنزل الله هذه الآية، وهو يعلم أنا شعراء، هلكنا، فأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتلاها عليهم.
المناسبة:
هذا عود على بدء، فبعد أن أبان الله تعالى استحالة تنزل الشياطين بالقرآن (الآية ٢١٠ وما بعدها) وأثبت أنه تنزيل من رب العالمين، أردف ذلك بأن الشياطين تتنزل على كل كذاب فاجر، لا على الرسول الصادق الأمين، فهو ليس من فئة الكهنة الذين يستمعون إلى الشياطين، كما أنه ليس من فئة الشعراء الغارقين في الخيال، الهائمين في كل واد من فنون القول والكلام، من غير ترجمة للحقيقة، ولا صدق في القلب، وقناعة في العقل، والرسول صلّى الله عليه وسلم لا ينطق إلا بالحق ولا يتكلم إلا بالصدق.
ولما كان إعجاز القرآن من جهة المعنى واللفظ، وقد قدح المشركون في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء، فإنه تعالى ردّ على القسمين، وبيّن منافاة القرآن لهما، ومخالفة حال الرسول صلّى الله عليه وسلم لحال أصحابهما، فهو ليس بكاهن ولا بشاعر.
التفسير والبيان:
هذه الآيات تتضمن نفي فريتين عن القرآن وعن الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهما
الكهانة والشعر، فليس القرآن الكريم من جنس ما تتلقاه الكهنة عن الشياطين، وليس هو من الشعر في شيء، كما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليس كاهنا ولا شاعرا.
أما الفرية الأولى فوصفها تعالى ثم ردّ عليها فقال:
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ أي هل أخبركم خبرا حقيقيا، نافعا لكم في قاموس المعرفة والعلم، على من تنزل عليه الشياطين من الكهان ونحوهم من الكذبة الفسقة؟
وكان للكهانة تأثير كبير عند العرب في الجاهلية، ولكهانهم مركز مهم، لقطع النزاع، وفض المشكلات من الأمور، مثل هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان، وفاطمة الخثعمية.
وهذه الآيات رد على من زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم ليس بحق، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه، أو أنه أتاه به رئيّ من الجن، أي مسّ، وبيان قاطع بأن ما جاء به هذا الرسول صلّى الله عليه وسلم إنما هو من عند الله، وأنه تنزيله ووحيه، نزل به ملك كريم، أمين عظيم، وأنه ليس من قبل الشياطين، والجواب من وجهين:
١- تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي إن الشياطين تنزل على كل كذوب، فاجر فاسق في أفعاله، من الكهنة المتنبئة، مثل شقّ بن رهم، وسطيح بن ربيعة، ومسيلمة وطليحة، ومن الكفار الذين يدعون إلى طاعة الشيطان، ومحمد صلّى الله عليه وسلم كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه. وأما الكهنة فالغالب عليهم الكذب، ومحمد صلّى الله عليه وسلم فيما أخبر عنه من المغيبات لم يظهر عليه إلا الصدق.
٢- يُلْقُونَ السَّمْعَ، وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أي يصغي الكهنة الأفاكون سمعهم إلى الشياطين، فيلقون وحيهم الزائف إليهم، ويتلقفون منهم ما أكثره كذب
وزور من الظنون والأمارات، فأكثر الشياطين كاذبون فيما يوحون به إليهم، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، كما أن أكثر الأفاكين كاذبون، يفترون على الشياطين ما لم يوحوا به إليهم، فيكون أكثر ما يحكمون به باطلا وزورا.
وقيل: يعود الضمير إلى الشياطين، أي يلقون إلى أوليائهم الكهنة المسموع من الملائكة، مما يختطفونه من بعض الكلمات، مما اطلعوا عليه من المغيبات، قبل أن يحجبوا بالرجم، ويبعدوا عن التقاط الكلام من الملأ الأعلى، ثم يوحون به إلى أوليائهم، ويضمون إلى المسموع كذبا كثيرا.
والخلاصة: أن الواقع خير شاهد، يوضح كالشمس الفرق بين النبي صلّى الله عليه وسلم والكهنة، فكل ما أخبر به النبي عن ربه كان صادقا مطابقا للواقع ولم يعرف عنه في سيرته الطويلة المدى إلا الصدق، وأكثر ما يخبر به الكهنة كذب يتنافى مع الواقع، ولم يعرف عن الكهنة إلا الكذب، لذا مجّهم التاريخ، ورفضهم العقل، ولم يعد يصدق أباطيلهم وترهاتهم إلا السّذّج البسطاء من الأولاد والنساء وبعض الكبار السطحيين.
وبعد أن بيّن الله تعالى الفرق بين محمد صلّى الله عليه وسلم وبين الكهنة، بين الفرق بينه صلّى الله عليه وسلم وبين الشعراء، ردا على الكفار القائلين: لم لا يجوز أن يقال: إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد، كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء، جريا على ما هو المعتاد بأن لكل كاهن وشاعر شيطانا، فقال:
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أي أن الشعراء يتبعهم الضالون، ضلّال الإنس والجن، المنحرفون عن جادة الحق والاستقامة، أما أتباع محمد صلّى الله عليه وسلم فهم المهتدون المستقيمون القائمون على منهج الحق والإيمان بالله وعبادته والاستقامة على أمره. ثم بيّن الله تعالى تلك الغواية بأمرين:
١- أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ أي ألم تعلم أن الشعراء يخوضون في كل
فن من الكلام، ويتناقضون مع أنفسهم، فقد يمدحون الشيء بعد أن ذموه، وبالعكس، وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس، وذلك يدل على أنهم لا يقصدون إظهار الحق، ولا إعلان الصدق، فهم قوم خياليون عاطفيون، أما محمد صلّى الله عليه وسلم فلا يقول إلا الحق ولا يأمر إلا بالصدق، ويدعو إلى طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى، والترغيب في الآخرة، والإعراض عن الدنيا غير المفيدة.
٢- وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ أي أن أكثر قولهم الكذب، فإنهم يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر عنهم، وهذا أيضا من علامات الغواة، فإنهم يرغّبون في الجود ويرغبون عنه، وينفّرون عن البخل ويصرّون عليه، ويقدحون في الأعراض لأدنى سبب، ولا يرتكبون إلا الفواحش، أما النبي محمد صلّى الله عليه وسلم فعلى خلاف ذلك، لا يأمر بالشيء إلا وقد فعله، ولا ينهى عن الشيء إلا وقد اجتنبه، يأمره ربه بإخلاص العبادة له أولا: فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ولا يستثني قرابته من شيء من التكاليف الشرعية أو المدنية أو السياسية: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. فمنهج الشعراء مخالف لحال النبوة، فإنها طريقة واحدة لا يتبعها إلا الراشدون، ودعوة الأنبياء واحدة، وهي الدعاء إلى توحيد الله وعبادته والترغيب في الآخرة والصدق «١».
ثم استثنى الله تعالى من الشعراء من اتصف بصفات أربع هي الإيمان، والعمل الصالح، وذكر الله وتوحيده، ونصرة الحق وأهله، فقال:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً، وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي إلا الذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا الأعمال الصالحة، وذكروا الله كثيرا في كلامهم أو شعرهم، ودافعوا عن النبي ودينه وقاوموا الشرك وأهله، مثل حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك،
وكعب بن زهير الذين ردوا على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين. ومثلهم بعدئذ البوصيري رحمه الله وأحمد شوقي في مدائحه النبوية ونحوهم.
وقيل: المراد بهذا الاستثناء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشا،
وعن كعب بن مالك «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل»
وكان يقول لحسان بن ثابت: «قل وروح القدس معك».
ثم ختم الله تعالى السورة بالتهديد الشديد والوعيد الأكيد، فقال:
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أي إن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات، والتأمل في هذه البينات الفارقة بين نبوة النبي وكهانة الكهان وشعر الشعراء، سيعلمون أي مرجع يرجعون إليه بعد الموت لأن مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب، وهو شر مرجع.
ذكر الجمهور أن المراد من الآية الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء. قال الرازي: والأول- أي هذا الرأي- أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها. ثم قال ابن كثير: والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم، كما قال ابن أبي حاتم، ومن الوقائع الشهيرة في الاستشهاد بهذه الآية ما قالته عائشة:
«كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما وصّى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر، وينتهي الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فإن يعدل فذاك ظني به، ورجائي فيه، وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ».
قال القرطبي: والفرق بين المنقلب والمرجع: أن المنقلب: الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع: هو العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها، فصار كل مرجع منقلبا، وليس كل منقلب مرجعا، ذكره الماوردي.
فقه الحياة أو الأحكام:
حسمت الآيات الفرق بين النبوة وبين الكهانة والشعر، فالنبوة حق وصدق، والنبي موحى إليه من عند ربه، والقرآن كلام الله الذي نزل به جبريل الأمين على قلب النبي صلّى الله عليه وسلم.
ولا يمكن للشياطين أن تتنزل بالقرآن ولا تستطيعه ولا تنسجم معه، فهو يدعو إلى الإيمان والهداية والحق والاستقامة، أما الشياطين فتدعو إلى الكفر والضلال والباطل والفساد والانحراف.
والشياطين تتنزل على كل أفّاك (كذوب) أثيم (فاجر في أفعاله) والكهنة يصغون السمع إلى الشياطين، وأكثر الكهنة والشياطين كاذبون في أخبارهم وأقوالهم. أما الأنبياء فينزل جبريل الأمين عليهم بالوحي الصادق الذي لا مرية فيه بكونه من رب العالمين.
والشعراء الماجنون يتّبعهم ضلال الجن والإنس الزائغون عن الحق، وهذا دليل على أن الشعراء أيضا غاوون لأنهم لو لم يكونوا غاوين، ما كان أتباعهم غواة. أما النبي فيتبعه صلحاء الجن والإنس لأنه يدعو إلى الخير والصلاح والبر والتقوى.
والدليل على غواية أغلب الشعراء أمران: أنهم في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق لأن من اتّبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبّت، ولم يكن هائما على وجهه، لا يبالي بما قال وأن أكثرهم يكذبون، فيدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه.
لكن هناك أيضا شعراء صالحون هم المتصفون بالأوصاف الأربعة التالية:
وهي الإيمان بالله الحق وبنبيه المرسل، والقيام بالعمل الصالح الذي يرضي الله،
وذكر الله كثيرا في كلامهم، والانتصار من الظالم بعد ظلمه، والانتصار يكون بالحق وحده وبما حدّه الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل. ثم حذر القرآن وهدد من انتصر بظلم، فإنه سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل، فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة.
موقف الإسلام من الشعر:
ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أحاديث في الشعر، منها ما أقره، ومنها ما ذمّه، فمن الأحاديث التي ذمّت الشعر:
ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه «١» خير من أن يمتلئ شعرا».
ومن الأحاديث التي مدحت الشعر
ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن من البيان سحرا، وإن من الشعر حكما».
ويمكن التوفيق بين الحديثين بحمل الأول على الشعر المذموم الرديء المردود، كالشعر الذي يتكلم في الغزل الخليع، ويشبّب بالنساء والغلمان، والذي يدعو إلى الفجور والفسق، وإن كان فنا رائعا في الأدب. ومنه شعر الشاعر الذي يتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطي، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ومثل هذا، كلّ ما يكتسبه بالشعر حرام، وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه، ولا يحل إعطاؤه شيئا لأن ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه للضرورة بنية وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة.
ومنه شعر الهجاء الذي لم يقصد به هجو الكفار ونصرة الإسلام والمسلمين، فإن كان انتصارا لمن هجا المسلمين، وشبب بأعراضهم جاز، وكان مستحسنا لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء ٤/ ١٤٨].
ويحمل الحديث الآخر على الشعر الممدوح الحسن المقبول الذي قصد به إظهار الحق، وإيراد الحكمة، وتعليم الجاهل، ونصرة المظلوم والحق، والدفاع عن الوطن، والذود عنه بجيد الكلام، ونحو ذلك من كل ما فيه نفع، وتربية للنفوس، وتهذيب للعقول، وتوحيد الصفوف.
وهذا التوفيق بين الحديثين ما هو إلا نوع من وسطية الإسلام المعروفة، والاعتدال في الأشياء كلها
روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام». «١»
وردد هذا المعنى كبار الأئمة وعلماء اللغة والأدب، فقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: الشعر نوع من الكلام: حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته، وإنما يكره لمضمونه، وقد كان عند العرب عظيم الأثر والموقع.
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النّهى، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثّل به أو سمعه، فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء، لا يحل سماعه ولا قوله. والخلاصة: إن من الشعر ما يجوز إنشاده، ومنه ما يكره أو يحرم.
ومن الأمثال الرائدة والنماذج الطيبة للشعر الذي أقره النبي صلّى الله عليه وسلم ما يأتي:
١-
روي مسلم من حديث عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما، فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصّلت شيء؟
قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتا، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتا فقال:
هيه، حتى أنشدته مائة بيت.
قال القرطبي: وهذا دليل على جواز حفظ الأشعار المتضمنة للحكمة والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا وعقلا، أي والداعية إلى فضائل الأخلاق. وإنما استكثر النبي صلّى الله عليه وسلم من شعر أمية لأنه كان حكيما ألا ترى
قوله صلّى الله عليه وسلم: «وكاد أمية بن أبي الصّلت أن يسلم».
٢- فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه، فذلك مندوب إليه، وكذلك مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقد مدحه العباس،
فقال له: «لا يفضض الله فاك»
ومنه الدفاع عن النبي صلّى الله عليه وسلم، فقد أقر حسّان بن ثابت على ذلك،
ثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم- أو هاجهم- وجبريل معك» أو «قل وروح القدس معك».
وروى الإمام أحمد عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: قد أنزل الله في الشعراء ما أنزل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل» أو «اهجهم، فو الذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من رشق النّبل».
٣-
روى مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم على المنبر يقول: «أصدق كلمة- أو أشعر كلمة- قالتها العرب قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل».
أما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم: فهو المتكلم بالباطل، حتى يفضّلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحّهم على حاتم، وأن يبهتوا البريء،
ويفسقوا التقيّ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبة في تسلية النفس وتحسين القول، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحة بعنوان (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر).
لكن قد يكون الشعر حراما كما بينا في أغراضه وفي أمثلة الشعر المذموم، وقد يكون كفرا كهجو النبي صلّى الله عليه وسلم، سواء كان قليلا أو كثيرا. وأما هجو غير النبي صلّى الله عليه وسلم من المسلمين فهو محرم قليله وكثيره.
قال ابن العربي: أما الاستعارات والتشبيهات فمأذون فيها، وإن استغرقت الحدّ، وتجاوزت المعتاد. ثم قال: وبالجملة، فلا ينبغي أن يكون الغالب على العبد الشعر حتى يستغرق قوله وزمانه، فذلك مذموم شرعا «١».
وقد أنهى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه مشكلة تكسب الشعراء بشعرهم، فلم يعطهم العطايا المعتادة، وكشف حقائقهم، وساسهم بمنطق الشرع وعدله، فأعطى الفرزدق أربعة آلاف درهم، لئلا يعرض لأحد من أهل المدينة بمدح ولا هجاء، ومنح الأحوص أحد شعراء المدينة مائة دينار، على أن يكف عن هجاء أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان، وعاقب الشاعر جرير بالرغم من مدحه، مع عمرو بن لجأ التيمي، لما تهاجيا وتقاذفا، وغضب على شاعر الخلاعة والعزل والتشبيب بالنساء عمر بن أبي ربيعة، ونفاه إلى دهلك، لكثرة تعرضه لنساء الأشراف وبناتهم «٢».
(٢) الخليفة الراشد العادل عمر بن عبد العزيز للمؤلف ٦٢ وما بعدها، المرجع السابق: ٣/ ١٤٣٠.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النملمكية، وهي ثلاث وتسعون آية.
تسميتها:
سميت سورة النمل لإيراد قصة وادي النمل فيها، ونصيحة نملة منها بقية النمل بدخول جحورهن، حتى لا يتعرضن للدهس من قبل جند سليمان عليه السلام دون قصد، ففهم سليمان الذي علمه الله منطق الطير والدواب كلامها، وتبسم ضاحكا من قولها، ودعا ربه أن يلهمه شكره على ما أنعم به عليه.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها من وجوه:
١- أنها كالتتمة لها في بيان بقية قصص الأنبياء، وهي قصة داود وسليمان عليهما السلام.
٢- أن فيها تفصيلا لما أجمل في سورة الشعراء من القصص النبوي، وهي قصة موسى في الآيات [٧- ١٤] وقصة صالح في الآيات [٤٥- ٥٣] ولوط في الآيات [٥٤- ٥٨].
٣- نزلت هذه السور الثلاث (الشعراء، والنمل، والقصص) متتالية على هذا الترتيب، وذلك كاف في ترتيبها في المصحف على هذا النحو. روي عن صفحة رقم 252
ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب نزول السور: أن الشعراء، ثم طس، ثم القصص. كما يوجد تشابه بينها في البداية والافتتاح (طسم، الشعراء، طس، النمل، طسم، القصص) ولعل التشابه بين الأولى والثالثة، والاختلاف الجزئي في الثانية دليل على تأكيد المقصود بهذه الحروف المقطعة وهو تحدي العرب بالقرآن الذي تكوّن من حروف لغتهم المتركبة في جمل، بزيادة أحيانا ونقص أحيانا من تلك الحروف.
٤- كذلك وجد التشابه الموضوعي بينهما في وصف القرآن وتنزيله من عند الله لأنه قال في بداية الشعراء: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ وقال هنا:
تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ وقال في أواخر الشعراء: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وقال هنا: تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ أي الذي هو تنزيل رب العالمين.
٥- تلتقي السورتان في بيان وحدة القصد من القصص القرآني، وهو تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه، وإعراضهم عنه.
مشتملاتها:
هذه السورة المكية تتفق مع أغراض السور المكية في بيان أصول العقيدة:
وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، وإثبات كون القرآن الكريم منزلا من عند الله العزيز الحكيم.
وإسهاما في توضيح تلك الأغراض أبانت السورة معجزة النبي محمد صلّى الله عليه وسلم الخالدة، وهي تنزيل القرآن المجيد هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين، ثم سردت وقائع مثيرة من قصص الأنبياء: موسى، وداود، وسليمان، وصالح، ولوط، عليهم السلام، تبين مدى ما تعرّض له موسى وصالح ولوط من أذى أقوامهم، وتكذيبهم برسالاتهم، وإنزال العقاب الأليم بهم، وتنبّه إلى ما أنعم الله به على
داود وسليمان من النعم العظمى، بهبة النبوة والملك والسلطان، وتسخير الجن والإنس والطير، وإذعان الملكة بلقيس لدعوة سليمان.
وفي هذا حكمة بالغة لأصحاب السلطة هي اتخاذ السلطان والنفوذ سبيلا للدعوة إلى الله جل جلاله.
وتلا ذلك بيان الأدلة والبراهين على وجود الله وتوحيده من خلق الكون:
سمائه وأرضه، بره وبحره، وإلهام الإنسان الإفادة من كنوز الأرض، والهداية في ظلمات البر والبحر، وإمداده بالأرزاق الوفيرة، ومفاجأته بأهوال يوم القيامة ومغيبات الأحداث، وسعة علم الله، وتعاقب الليل والنهار.
وأنكرت السورة بعدئذ على المشركين تكذيبهم بالبعث والحشر والنشور، وألزمت بني إسرائيل بالاحتكام إلى القرآن في خلافاتهم وخصوماتهم، وتحدثت عن أشراط الساعة، كخروج دابة الأرض، وحشر فوج من كل أمة، وتسيير الجبال، ثم ذكّرت بالنفخ في الصور لجمع الناس ومجيئهم داخرين صاغرين لله تعالى.
وختمت السورة بتصنيف الناس إلى سعداء أبرار، وأشقياء فجار، وجزاء كلّ بما يستحق خيرا أو شرا، وإعلام المشركين بوجوب عبادة الله وحده، والتخلي عن عبادة الأصنام والأوثان، والالتزام بمنهج القرآن ودستوره في الحياة لأنه نور وهداية، ومن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها، وتعريفهم بآيات الله العظمى في وقت لا ينفعهم فيه شيء غير الإيمان بالله وحده، وتعرضهم للجزاء الحتمي عن جميع أعمالهم.
والخلاصة: أن ما ذكر في هذه السورة يدعو إلى المبادرة إلى الإيمان بالله تعالى ربا وإلها لا شريك له، والتصديق بالبعث طريقا لإنصاف الخلائق، واتخاذ القرآن نبراسا ودستورا للحياة الإنسانية.