آيات من القرآن الكريم

وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ
ﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ

تعليق على آيات هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ وما بعدها
الآيات متصلة بالسياق واستمرار له أيضا حيث احتوت نفيا لتنزل الشياطين بالقرآن بأسلوب آخر فسألت سؤالا استنكاريا يتضمن التقرير بأن الذين تنزل عليهم الشياطين هم المفترون الآثمون الذين يستمعون إلى وساوس الشياطين ويستندون إليهم فيما يقولون ويخبرون وأكثرهم كاذبون. وينطوي هذا كما هو المتبادر على تقرير بأن النبي الذي يدعو إلى الخير والحق والصدق والفضيلة وينهى عن الشر والباطل والكذب والظلم والرذيلة لا يمكن أن يكون ممن تتنزل عليهم الشياطين وينطق بوحيهم ويتأثر بوساوسهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢٤ الى ٢٢٧]
وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
(١) الغاوون: الضالون أو المنحرفون نحو الغواية.
(٢) يهيمون: يتيهون ويسيرون.
(٣) انتصروا: قابلوا العدوان بمثله ودافعوا عن أنفسهم.
في الآيات وصف ذمّ للشعراء. فهم يسيرون في كل درب منحرف دون ما رادع أو وازع. ويبالغون فيقولون ما لا يفعلون. ولا يهوي إليهم ويتبعهم إلّا الغاوون المنحرفون أمثالهم. وقد استثنت الآية الأخيرة الذين آمنوا وعملوا الصالحات وكانوا في موقف المدافع الذين هبوا للدفاع والانتصار بعد أن ظلموا.
ثم انتهت بهتاف رباني تعقيبي وإنذاري للظالمين بما سوف يصيرون إليه ويرونه من سوء المنقلب والعاقبة.

صفحة رقم 275

تعليق على آية وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ وما بعدها
والآيات غير منقطعة عن السياق بل ومعطوفة عليه. وقد احتوت ردّا ثانيا على الكفار كما هو المتبادر. فالكفار كانوا يقولون إن الشياطين هم الذين ينزلون على النبي ﷺ بالقرآن وإن النبي ﷺ شاعر وإن القرآن شعر، مما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها وبخاصة في سورة يس فردت الآيات السابقة على الزعم الكاذب الأول، واحتوت هذه الآيات ردّا على الزعم الكاذب الثاني. فالشعراء إنما يتبعهم الغاوون، وهم يقولون ما لا يفعلون، وفي كل واد يهيمون في حين أن النبي ﷺ يدعوا إلى الله وحده وإلى الحق والخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويفعل ما يقول، وتحلّى أتباعه بكل ما دعا إليه وأمر به ونهى عنه فصاروا الجماعة الفاضلة القوية بإيمانها وأخلاقها وأفعالها.
تعليق على استثناء المؤمنين من ذمّ الشعراء
ولقد احتوت الآية الأخيرة استثناء الشعراء المؤمنين الصالحين من الوصف الذي احتوته الآيات الأولى، وتنويها بهم. فهم ليسوا من تلك الطبقة حيث خرجوا عن طبيعتها فآمنوا بالله وحده وعملوا الصالحات، ساروا في طريق الخير والحق والصدق، وانتصروا مما وقع عليهم من الظلم. وقد انتهت الآية بوعيد للظالمين وإنذار بالعاقبة السيئة التي سيصيرون إليها.
والمتبادر أن المقصود بالانتصار هو ما كان ينظمه شعراء المسلمين من قصائد يردّون فيها على قصائد الهجو التي كان ينظمها شعراء الكفار.
وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات الأربع مدنيات. وذكر ذلك الزمخشري في مطلع تفسير السورة. والحقيقة أن الطابع المدني ظاهر على الآية الأخيرة فقط. فالمسلمون إنما وقفوا موقف المنتصر من بعد الظلم والمدافع المنتقم بعد الهجرة ولم يكن في مكة مجال للتهاجي بين شعراء المسلمين والكفار،

صفحة رقم 276

لأن المسلمين كانوا قلة مستضعفة من جهة ولأن ما أهاج التهاجي هو الاحتكاك المسلح بين الفريقين الذي كان بعد الهجرة من جهة ثانية. ولذلك فالرواية تصح في اعتقادنا بالنسبة للآية الأخيرة فقط. أما الآيات الثلاث فالمتبادر أنها نزلت في صدد الردّ على نسبة الشاعرية إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ونزول الشياطين عليه بالقرآن على ما كانت عليه عقيدة العرب وأنها متصلة بالآيات السابقة التي لا خلاف في مكيتها.
ولما اضطلع شعراء المسلمين بعد الهجرة بالردّ على شعراء الكفار اقتضت حكمة التنزيل استثناءهم من الوصف الذي وصف به الشعراء فنزلت الآية وألحقت بالآيات الثلاث للاستدراك والمناسبة الظاهرة، شأنها في هذا شأن الآية الأخيرة في سورة المزمل. ولقد ذكر المفسرون في سياق تفسير الآيات أن الآية المذكورة نزلت في حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك رضى الله عنهم الذين أمرهم النبي بهجو المشركين ردّا على هجو هؤلاء النبي والمؤمنين فذكروا له ما وصفت آيات الشعراء به الشعراء فأنزل الله الآية فتلاها عليهم وهو يقول لهم هؤلاء أنتم هؤلاء أنتم، فأخذوا منذئذ يردون على هجو الكفار.
والرواية محتملة الصحة جدا وإن لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة.
وفيها تأييد لما قلناه من أن الآيات الثلاث نزلت في مكة والآية الرابعة فقط هي التي نزلت في المدينة. ولقد روى المفسرون أن النبي كان يقول لحسان «اهجهم وجبريل معك. وإنّه لأشدّ عليهم من رشق النّبل» ولكعب بن مالك «إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل».
وواضح أن في الآية وما روي في سياقها تلقينا مستمر المدى في حقّ المسلم وواجبه في الدفاع عن الإسلام والمسلمين بمختلف أساليب الدفاع. وإن ما يمكن أن يكون في أصله مذموما يغدو في هذا السبيل ممدوحا مرغوبا فيه بل واحيا.
ومع ذلك ففي الاستثناء الذي تضمنته الآية تلقين جليل آخر وهو أن هذه الرخصة التي يرخصها الله ورسوله للمسلمين إنما هي للذين يكون موقفهم موقف المنتصر من الظلم الذي لا يتجاوز الحق.

صفحة رقم 277

دلالة الآيات الأربع الأخيرة من السورة وتلقينها
والآيات الأربع تدل من جهة على ما كان معروفا من طبيعة الشعراء في ذلك الوقت وسيرتهم وعلى ما كان للشعر والشعراء من تأثير قوي في عهد النبي ﷺ وبيئته من جهة أخرى وتنطوي بالإضافة إلى ذلك على صورة من صور السيرة النبوية حيث كان شعراء الكفار يهجون النبي ﷺ والمسلمين، وحيث كان شعراء المسلمين يقابلونهم بالمثل انتصارا من الظلم.
ومع خصوصية الآيات وصلتها بظروف السيرة النبوية فإنها تحتوي تلقينا مستمر المدى، فالدعوة إلى الحق والخير والصلاح لا يقوم بها إلّا من خلصت نيته وطهرت سريرته وصدّقت أفعاله أقواله. ولا يستجيب إليها إلّا من اتصف بهذه الصفات. أما الشر والأذى والإثم والإفك فلا يجري في نطاقه دعوة واستجابة إلّا الشريرون الآثمون والكاذبون الأفاكون والظالمون. وعلى المسلم أن يتبين الحق من الباطل وأن يحذر خطة الذين يهيمون في كل واد ويقولون ما لا يفعلون من ذوي البروز والتأثير، وألّا ينساق وراءهم في أي موقف لما في ذلك من ضرر عام وخاص وانحراف عن جادة الحق والخير وقويم الأخلاق.
ويصح أن يضاف إلى هذا أن من تلقينات استثناء المؤمنين من الشعراء المستمرة المدى أنه لا حرج على الشاعر المسلم في أي وقت ومكان من نظم الشعر إذا كانت نيته حسنة وقصده التنويه بالخير والدعوة إلى الصلاح والإصلاح والحث على مكارم الأخلاق والتنديد بسيئاتها ومقارعة الظلم والبغي، فالشعر كان وما يزال قوي التأثير في النفوس وهو في حد ذاته فنّ جميل فيكون ما ابتعد عن الكذب والخلاعة والفسق والفجور وما أيد الدعوة إلى مكارم الأخلاق والحث عليها وما رمى إلى التنديد بالسيئات والفواحش ومقارعة الظلم والبغي خارجا عن نطاق الذمّ القرآني يصحّ نظمه شعرا ويصحّ سماعه معا.

صفحة رقم 278
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية