
ولما كانت هذه الأحوال مشتملة على الأقوال، وكان قد قدم الرؤية المتضمنة للعلم، علل ذلك بالتصريح به مقروناً بالسمع فقال: ﴿إنه هو﴾ أي وحده ﴿السميع﴾ أي لجميع أقوالكم ﴿العليم*﴾ أي بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم، وقد تقدم غير مرة أن شمول العلم
صفحة رقم 110
يستلزم تمام القدرة، فصار كأنه قال: إنه السميع العليم البصير القدير، تثبيتاً للمتوكل عليه.
ولما بين سبحانه أن القرآن مناف لأقوال الشياطين، وبين أن حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحال أتباعه منافية لأحوالهم وأحوال من يأتونه من الكهان بما ذكره سبحانه من فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعل أشياعه رضي الله عنهم من الإقبال على الله، والإعراض عما سواه، فعلم أن بينهم وبينهم بوناً بعيداً، وفرقاً كبيراً شديداً، وأن حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موافق لحال الروح الأمين، النازل عليه بالذكر الحكيم، تشوفت النفس إلى معرفة أحوال إخوان الشياطين، مقال محركاً لمن يريد ذلك، متمماً لدفع اللبس عن كون القرآن من عند الله، وفرق بين الآيات المتكلفة بذلك تطرية لذكرها وتنبيهاً على تأكيد أمرها: ﴿هل أنبئكم﴾ أي أخبركم خبراً جليلاً نافعاً في الدين، عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان ﴿على من تنزل﴾ وتردد ﴿الشياطين*﴾ حين تسترق السمع على ضرب من الخفاء بما آذن به حذف التاء، ودخل حرف الجر على الاسم المتضمن للاستفهام،

لأن معنى التضمن أنه كان أصله: أمن، فحذفت منه الهمزة حذفاً مستمراً كما فعل في «هل» لأن أصله «أهل» كما قال:
سائل فوارس يربوع بشدتنا | أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم |
ولما كان كأنه قيل: نعم أنبئنا! قال: ﴿تنزل﴾ على سبيل التدريج والتردد ﴿على كل أفاك﴾ أي صراف - على جهة الكثرة والمبالغة - للأمور عن وجوهها بالكذب والبهتان، والخداع والعدوان، من جملة الكهان وأخذان الجان ﴿أثيم*﴾ فعال الآثام بغاية جهده، وهؤلاء الأثمة ﴿يلقون السمع﴾ إلى الشياطين، ويصغون إليهم غاية الإصغاء، لما بينهما من التعاشق بجامع إلقاء الكذب من غير اكتراث ولا تحاش، أو يلقي الشياطين ما يسمعونه مما يسترقون استماعه من الملائكة إلى أوليائهم، فهم بما سمعوا منهم يحدثون، وبما زينت لهم نفوسهم يخلطون ﴿وأكثرهم﴾ أي الفريقين ﴿كاذبون*﴾ فيما ينقلونه عما يسمعونه من الإخبار بما حصل فيما وصل إليهم من التخليط، وما زادوه من الافتراء والتخبيط انهماكاً في شهوة علم المغيبات، الموقع صفحة رقم 112

في الإفك والضلالات؛ قال الرازي في اللوامع ما معناه أنه حيثما كان استقامة في حال الخيال - أي القوة المتخيلة - كانت منزلة الملائكة، وحيثما كان اعوجاج في حال الخيال كان منزل الشياطين، فمن ناسب الروحانيين من الملائكة كان مهبطهم عليه، وظهورهم له، وتأثيرهم فيه، وتمثلهم به، حتى إذا ظهروا عليه تكلم بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى بأبصارهم وأبصروا بعينيه، فهم ملائكة يمشون على الأرض مطمئنين
﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة﴾ [فصلت: ٣٠] ومن ناسب الشياطين من الأبالسة كان مهبطهم عليه، وظهورهم له، وتأثيرهم فيه، وتمثلهم به، حتى إذا ظهروا عليه تكلم بكلامهم وتكلموا بلسانه، ورأى بأبصارهم وابصروا بعينيه، هم شياطين الإنس يمشون في الأرض مفسدين - انتهى.
ولما بطل - بإبعاده عن دركات الشياطين، وإصعاده إلى درجات الروحانيين، من الملائكة المقربين، الآتين عن رب العالمين - كونه سحراً، وكونه أضغاثاً ومفترى، نفى سبحانه كونه شعراً بقوله: ﴿والشعراء يتبعهم﴾ أي بغاية الجهد، في قراءة غير نافع بالتشديد، لاستحسان مقالهم وفعالهم، فيتعلمون منهم وينقلون عنهم ﴿الغاوون*﴾ أي الضالون المائلون عن السنن الأقوم إلى الزنى والفحش وكل فساد يجر إلى الهلاك، وهم كما ترى بعيدون من أتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ورضي عنهم الساجدين الباكين الزاهدين.
ولما قرر حال أتباعهم، فعلم منه أنهم هم أغوى منهم، لتهتكهم في شهوة اللقلقة باللسان، حتى حسن لهم الزور والبهتان، دل على ذلك بقوله: ﴿ألم تر أنهم﴾ أي الشعراء. ومثل حالهم بقوله: ﴿في كل واد﴾ أي من أودية القول من المدح والهجو والنسيب والرثاء الحماسة والمجون وغير ذلك ﴿يهيمون*﴾ أي يسيرون سير الهائم حائرين وعن طريق الحق جائرين، كيفما جرهم القول انجروا من القدح في الأنساب، والتشبيب بالحرم، والهجو. ومدح من لا يستحق المدح ونحو ذلك، ولهذا قال: ﴿وأنهم يقولون ما لا يفعلون*﴾ أي لأنهم لم يقصدوه. وإنما ألجأهم إليه الفن الذي سلكوه فأكثر أقوالهم لا حقائق لها، انظر إلى مقامات الحريري وما اصطنع فيها من الحكايات، وابتدع بها من الأمور المعجبات. التي لا حقائق لها، وقد جعلها أهل الاتحاد أصلاً لبدعتهم الكافرة، وقاعدة لصفقتهم الخاسرة، فما أظهر حالهم، وأوضح ضلالهم! وهذا بخلاف القرآن فإنه معان جليلة محققة، في ألفاظ متينة جميلة منسقة، وأساليب معجزة مفحمة، ونظوم معجبة محكمة،

لا كلفة في شيء منها، فلا رغبة لذي طبع سليم عنها، فأنتج ذلك أنه لا يتبعهم على أمرهم إلا غاو مثلهم، ولا يزهد في هذا القرآن إلا من طبعه جاف، وقلبه مظلم مدلهم.
ولما كان من الشعر - كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكمة، وكان - كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها - بمنزلة الكلام منه حسن ومنه قبيح، وكان من الشعراء من يمدح الإسلام والمسلمين، ويهجو الشرك والمشركين، ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة، ويحث على مكارم الأخلاق، وينفر عن مساوئها، وكان الفيصل بين قبيلي حسنة وقبيحة كثرة ذكر الله، قال تعالى: ﴿إلا الذين آمنوا﴾ أي بالله ورسوله ﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ أي التي شرعها الله ورسوله لهم ﴿وذكروا الله﴾ مستحضرين ما له من الكمال ﴿كثيراً﴾ لم يشغلهم الشعر عن الذكر، بل بنوا شعرهم على أمر الدين والانتصار للشرع، فصار لذلك كله ذكر الله، ويكفي مثالاً لذلك قصيدة عزيت لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وجوابها لابن الزبعرى، وكان إذ ذاك على شركه، وذلك في أول سرية كانت في الإسلام. وهي سرية عبيدة بن الحارث بم المطلب بن عبد مناف رضي الله تعالى عنه،

فإن قصيدة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ليس فيها بيت إلا وفيه ذكر الله إما صريحاً وإما بذكر رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أو شيء من دينه، وما ليس فيه شيء من ذلك فهو ىيل إليه لبنائه عليه، وأما نقيضها فلا شيء في ذلك فيها؛ قال ابن إسحاق: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه في غزوة عبيدة بن الحارث.
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث | أرقت وأمر في العشيرة حادث |
ترى من لؤيّ فرقة لا يصدها | عن الكفر تذكير ولا بعث باعث |
رسول أتاهم صادق فتكذبوا | عليه وقالوا لست فينا بماكث |
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا | وهروا هرير المحجرات اللواهث |
فكم قد متتنا فيهم بقرابة | وترك التقى شيء لهم غير كارث |
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم | فما طيباب الحل مثل الخبائث |
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم | فليس عذاب الله عنهم بلابث |
ونحن أناس من ذؤابة غالب | لنا العز منها في الفروع الأثائث |
فأولى برب الراقصات عشية | حراجيج تخذي في السريح الرثائث |
كأدم ظباء حول مكة عكف | يردن حياض البئر ذاب النبائث |
لئن لم يفيقوا عاجلاً عن ضلالهم | ولست إذا آليت قولاً بحانث |
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق | تحرّم أطهار النساء الطوامث |
تغادر قتلى تعصب الطير حولهم | ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث |
فأبلغ بني سهم لديك رسالة | وكل كفور يبتغي الشر باحث |
فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم | فإني من إعراضكم غير شاعث |
أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث | بكيت بعين دمعها غير لابث |
ومن عجب الأيام والدهر كله | له عجب من سابقات وحادث |
لجيش أتانا ذي عرام يقوده | عبيدة يدعى في الهياج ابن حارث |
لنترك أصناماً بمكة عكفاً | مواريث موروث كريم لوارث |
فلما لقيناهم بسمر ردينة | وجرد عتاق في العجاج لواهث |
وبيض كأن الملح فوق متونها | بأيدي كماة كالليوث العوائث |
نقيم بها إعصاراً ما كان مائلاً | ونشفي الذخول عاجلاً غير لابث |
فكفوا على خوف شديد وهيبة | وأعجبهم أمر لهم أمر رائث |
ولو أنهم لم يفعلوا ناح نسوة | أيامي لهم من بين نسء وطامث |
وقد غودرت قتلى يخبر عنهم | حفيّ بهم أو غافل غير باحث |
فأبلغ ابابكر لديك رسالة | فما أنت عن أعراض فهر بماكث |
ولما تجب مني يمين غليظة | تجدد حرباً حلفه غير حانث |

فاستنشهده القصيدة التي قالها:
أمن آل نعمى أنت غاد فمبكر | غداة غد أم رائح فمهجر |
كأن سيبئة من بيت رأس | يكون مزاجها عسل وماء |
إذا ما الأشربات ذكرن يوماً | فهن لطيب الراح الفداء |
نوليها الملامة إن ألمنا | إذا ما كان مغث أو لحاء |
ونشربها فتتركنا ملوكاً | وأسداً ما ينهنهنا اللقاء |