
السلام: «يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هذا الجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَصَدَّقْتُمُونِي؟» قالوا: نعم. قال: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ». فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم وما دعوتنا إلا لهذا! فنزل تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: ١] «١».
ثم قال عز وجل: وَاخْفِضْ جَناحَكَ يعني: لين جانبك لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعني: من المصدقين بك فَإِنْ عَصَوْكَ قال مقاتل: فيها تقديم يعني: الأقربين فإن خالفوك فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من الشرك.
ثم قال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ قرأ نافع وابن عامر فتوكل بالفاء، لأنه متصل بالكلام الأول، ودخلت الفاء للجزاء. وقرأ الباقون: وَتَوَكَّلْ بالواو على وجه العطف، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ يعني: ثق بالله، وفوض جميع أمورك إلى العزيز الرحيم الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ
في الصلاة وحدك وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يعني: وحين تصلي في الجماعة.
وقال عكرمة: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ قال: في حال القيام والركوع والسجود يعني: يرى قيامك وركوعك وسجودك، ويراك مع المصلين، ويقال: الذى يراك حين تقوم من منامك للصلاة بالليل، ويقال: حين تقوم وتدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، ويقال: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يعني: تقلبك في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات من آدم إلى نوح، وإلى إبراهيم، وإلى من بعده صلوات الله عليهم. قوله عز وجل: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يعني:
بآبائهم وبأعمالهم.
[سورة الشعراء (٢٦) : الآيات ٢٢١ الى ٢٢٧]
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)
قوله عز وجل: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ يعني: هل أخبركم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ هذا موصول بقوله: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يعني: كذاب صاحب الإثم، فاجر القلب. الأفاك: الكذاب، والأثيم: الفاجر، يعني به: كهنة الكفار يُلْقُونَ السَّمْعَ يعني:
يلقون بآذانهم إلى السمع من السماء لكلام الملائكة عليهم السلام وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ يعني:
حين يخبرون الكهنة. وروى معمر عن الزهري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «الشياطين تسترق السمع، فتجيء بكلمة حق، فتقذفها في أذن وليها، فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة». وهذا كان قبل أن يحجبوا من السماء.

ثم قال عز وجل: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قال قتادة ومجاهد: يتبعهم الشياطين.
وقال في رواية الكلبي: الغاوون هم الرواة الذين كانوا يروون هجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. ويقال:
الْغاوُونَ هم الضالون. ويقال: شعراء الكفار كانوا يهجون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيتبعهم الكفار.
ثم قال عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ يعني: في كل وجه وفن يذهبون ويخوضون، يأخذون مرة يذمون، ومرة يمدحون، وذكر عن القتبي أنه قال: فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ من القول، وفي كل مذهب يذهبون كما تذهب البهائم على وجهها. وقال غيره: هام الرجل والبعير، إذا مضى على وجهه، لا يدري أن يذهب، فكذلك الشاعر يأخذ كلامه لا يدري أين ينتهي. قرأ نافع وحده يَتَّبِعُهُمُ بجزم التاء، والتخفيف، وقرأ الباقون يَتَّبِعُهُمُ بنصب التاء والتشديد، وهما بمعنى واحد: يتبعهم، ويتبعهم.
ثم قال: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ يعني: أن الشعراء يقولون قد فعلنا كذا وكذا، وقلنا كذا، فيمدحون بذلك أنفسهم وهم كذبة. ثم استثنى شعراء المسلمين حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك رضي الله عنهم، فقال عز وجل: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً يعني: ذكروا الله في أشعارهم. ويقال: وذكروا الله عز وجل في الأحوال كلها وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا يعني: انتصر شعراء المسلمين من شعراء الكافرين، فكافؤوهم والبادئ أظلم. ويقال: انتصروا من أهل مكة من بعد ما أخرجوا، لأن الحرب تكون بالسيف وباللسان، فأذن القتال بالشعر، كما أذن بالسيف، إذ فيه قهرهم.
ثم أوعد شعراء الكافرين فقال تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: الذين هجوا المسلمين أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ يعني: أي مرجع يرجعون إليه في الآخرة، يعني: إلى الخسران والنار. ويقال: هاتان الآيتان مدنيتان، وذكر أنه لما نزل وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ جاء عبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وهما يبكيان فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَالشُّعَراءُ إلى قوله:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فقال: عليه السلام «هذا أنتم» وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أنتم. وروي عن عكرمة قال عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً، وَإِنَّ مِنَ الشُّعَرَاءِ لَحُكَمَاءَ» «١» وفي رواية أخرى: «إنّ من الشعر لحكما وَإِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً» والله سبحانه وتعالى أعلم- وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم «٢».
(٢) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة «أ». [.....]