آيات من القرآن الكريم

وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
ﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ

فلله الأمر والحكمة، وبيده مقاليد السموات والأرض، ولا يصدر عنه إلا الخير والعدل، ولا يظلم أحدا من عباده، فلو علم الله فيهم خيرا لما عذبهم وأهلكهم، وسيلقون أيضا في الآخرة عذاب النار.
وقد أجمع المحققون- كما ذكر الرازي- على أن دعاء نوح على قومه كان بأمر الله تعالى، وإلا كان ذلك مبالغة في الإضرار، وسببا لنقصان حال الأنبياء.
القصة الخامسة- قصة داود وسليمان عليهما السلام
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ الى ٨٢]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
الإعراب:
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي واذكر داود وسليمان.
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ الضمير في لِحُكْمِهِمْ راجع إلى داود وسليمان، على طريقة إقامة الجمع مقام التثنية. أو أن المراد بالضمير الحاكمان والمتحاكمان وهم جماعة.

صفحة رقم 96

يُسَبِّحْنَ الجملة حال، أو استئناف لبيان وجه التسخير معه متعلق بيسبحن أو بسخرنا.
وَالطَّيْرَ منصوب معطوف على الْجِبالَ، أو لأنه مفعول معه.
لِتُحْصِنَكُمْ أي الصنعة، وقرئ بالياء أي ليحصنكم الله وقرئ بالنون، أي:
لنحصنكم نحن.
المفردات اللغوية:
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ أي واذكر قصتهما إِذْ يَحْكُمانِ بدل مما قبله الْحَرْثِ الزرع، وقيل: كرم تدلت عناقيده نَفَشَتْ رعت ليلا بلا راع، بأن انفلتت من حظيرتها، والنفش:
الرعي ليلا. وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي حاضرين، وفيه استعمال ضمير الجمع لاثنين أو كنا شاهدين عالمين حكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما. وكان حكم داود: أن يتملك صاحب الزرع الأغنام، وحكم سليمان: تبادل المتحاكمين الشيء المملوك لمدة سنة، فينتفع صاحب الزرع بدرّ الغنم ونسلها وصوفها إلى أن يعود الحرث كما كان بإصلاح صاحب الغنم، ثم يردها إلى صاحبها.
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ الضمير يعود للفتوى الصادرة. وكان حكم داود وسليمان باجتهاد، ثم رجع داود إلى حكم سليمان وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي آتينا كلا منهما حكما أي نبوة، وعلما بأمور الدين.
يُسَبِّحْنَ يقدسن الله معه، إما بلسان الحال، أو بصوت يتمثل له، أو بخلق الله فيها صوتا بلغة معينة. وَالطَّيْرَ أي وكذلك سخرنا الطير له للتسبيح معه، بأمره به في وقت الراحة وَكُنَّا فاعِلِينَ أي تسخير التسبيح معه، فكنا فاعلين لأمثاله، فليس ببدع منا، وإن كان عجبا عندكم أي مجاوبة الجبال والطير لسيدها داود صَنْعَةَ لَبُوسٍ المراد هنا الدروع لأنها تلبس، وهو أول من صنعها، وكان قبلها صفائح. واللبوس في الأصل: السلاح بأنواعه لَكُمْ متعلق بقوله وَعَلَّمْناهُ أو متعلق بصفة للبوس. لِتُحْصِنَكُمْ لتحميكم وتمنعكم وتصونكم الصنعة مِنْ بَأْسِكُمْ بدل اشتمال بإعادة الجار، وبأسكم: حربكم مع أعدائكم، البأس: الحرب فَهَلْ أَنْتُمْ يا أهل مكة شاكِرُونَ نعمتي، بتصديق الرسول، فإن شكركم لي يكون بذلك. وقوله فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟ أمر في صورة الاستفهام للمبالغة والتقريع.
وَلِسُلَيْمانَ أي وسخرنا له الرِّيحَ عاصِفَةً الريح العاصف: هي الشديدة الهبوب.
وكانت رخاء أي لينة خفيفة في نفسها طيبة، كما جاء في آية أخرى، فقد جمعت بين الوصفين، فهي لينة طيبة، وتسرع في جريها كالعاصف إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها هي الشام

صفحة رقم 97

وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي نعلم بكل شيء، فنجزيه على ما تقتضيه الحكمة، وقد علم الله تعالى بأن ما يعطيه سليمان يدعوه للخضوع لربه.
وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي يدخلون في البحر، فيخرجون منه الجواهر لسليمان، والغوص: النزول إلى أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ.
وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي سوى الغوص أو غيره، كبناء المدن والقصور واختراع الصائع الغريبة، كقوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ [سبأ ٣٤/ ١٣]. وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يزيغوا عن أمره، أو يفسدوا ما عملوا لأنهم كانوا إذا فرغوا من عمل أفسدوه إن لم يشتغلوا بغيره.
المناسبة:
هذه القصة كسابقاتها أيضا فيها تعداد النعم العظمى على داود وسليمان عليهما السلام، فذكر فيها أولا النعمة المشتركة بينهما وهي تزيينهما بالعلم والفهم كما قال تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً مما يدل على شرف العلم، لتقديم ذكره على سائر النعم الأخرى. ثم ذكر ما اختص به كل منهما من النعم، أما داود فخص بنعمة تسخير الجبال والطير للتسبيح معه، وبصناعة الدروع. وأما سليمان فاختص بنعمة تسخير الريح، وتسخير الشياطين للغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، ولأعمال أخرى كبناء المدن والقصور وصناعة الأشياء الغريبة من قدور ومحاريب وتماثيل.
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى قصة الحكم بين المزارع والراعي، ثم ذكر النعم الجليلة المختصة بكل من داود وسليمان.
أما قصة الحكم كما قال أكثر المفسرين وكما ذكر الرازي: فهي أن راعي غنم رعت غنمه زرع فلاح ليلا، فاحتكما إلى داود عليه السلام، فحكم بالغنم لصاحب الحرث (الزرع) فقال سليمان- وهو ابن إحدى عشرة سنة-: غير هذا أرفق بهما، وأمر بتسليم الغنم إلى أهل الحرث، فينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها، وتسليم

صفحة رقم 98

الحرث إلى أرباب الغنم، يتعهدونه بالمطلوب، حتى يعود إلى ما كان، ثم يترادّان. وكان حكمهما باجتهاد.
والحكم في شرعنا في رأي الإمام الشافعي: وجوب ضمان المتلف بالليل، إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا، وكذلك قضى النبي صلّى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا (بستانا) وأفسدته،
فقال: «على أهل الأموال حفظها بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظها بالليل» «١».
وفي رأي الإمام أبي حنيفة: لا ضمان إلا أن يكون معها حافظ حارس
لقوله صلّى الله عليه وسلم: «جرح العجماء جبار» «٢»
أي أن ما تتلفه البهيمة هدر لا ضمان فيه.
أما النص القرآني في هذا الحكم فهو:
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ.. أي واذكر أيها الرسول قصة داود وسليمان حينما حكما في زرع رعته ليلا غنم لآخرين، وكان الله عليما شاهدا بما حكم به داود وسليمان، لا تخفى عليه خافية.
ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكومة والفتوى الصحيحة الراجحة فكان رأيه هو الأصوب، مع أنه سبحانه آتى كلا من داود وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات والعلم والفهم والإدراك السليم للأمور، مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة، وعلى أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه، وإن كان الصواب واحدا، وهو ما قضى به سليمان، ودل قوله: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ على إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره.

(١) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن حرام بن سعد بن محيّصة.
(٢)
نص الحديث «العجماء جرحها جبار» رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

صفحة رقم 99

قال ابن العربي: لم يرد إذ جمعها في القول اجتماعهما في الحكم، فإن حاكمين على حكم واحد لا يجوز، وإنما حكم كل واحد منهما على انفراد بحكم، وكان سليمان هو الفاهم لها «١».
أما نعم الله على داود عليه السلام فهي:
١- وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، وَكُنَّا فاعِلِينَ أي وسخر أي ذلل الله الجبال والطيور مسبحات مقدّسات الله مع داود لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور، وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه، وترد عليه الجبال تسبيحا، فيكون ذلك أكثر تأثيرا في مشاعره وعواطفه، فيستديم في التسبيح،
وقد وصف النبي صلّى الله عليه وسلم صوت أبي موسى الأشعري حين استمع لقراءته القرآن فقال فيما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة، والنسائي عن عائشة: «لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود».
وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة الإلهية، وأروع في الإعجاز لأنها جماد، والطير حيوان إلا أنه غير ناطق.
ونطق الجبال والطير بأن يخلق الله فيها الكلام، كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى عليه السلام، فإذا ذكر داود ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه، لذا قال تعالى:
وَكُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل هذا، وإن كان عجبا عندكم.
ونظير الآية: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء ١٧/ ٤٤].

(١) أحكام القرآن: ٣/ ١١٥٤

صفحة رقم 100

٢- وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي وعلمنا داود صناعة الدروع لباسا لكم، وكانت الدروع قبله صفائح وهو أول من جعلها حلقا، كما قال تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ، وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ ٣٤/ ١١] أي لا توسع الحلقة ولا تغلظ المسمار. وذلك لتحميكم وتمنعكم وتحرسكم من شدة الحرب في القتال من جرح وقتل وضرب، فهل أنتم شاكرون نعم الله عليكم بتعليمه داود ذلك من أجلكم؟ وهذا استفهام معناه الأمر للمبالغة والتقريع، أي اشكروا الله على هذه الصنعة. والبأس: الحرب.
وفيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود عليه السلام، ثم تعلم الناس منه، وتوارثوا الصنعة عنه، فعمّت النعمة كل المحاربين إلى آخر الدهر.
وأما نعم الله على سليمان عليه السلام فهي كما قال قتادة: ورّث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته، وزاده أمرين: سخر له الريح والشياطين، فقال.
١- وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً.. أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة الشديد السرعة والهبوب، وجعلناها طائعة منقادة له، مع كونها في نفسها رخاء أيضا أي لطيفة لينة، فهي تجري بأمره، وتخضع لحكمه، وتنقله إلى أجزاء الأرض المقدسة المباركة، وهي أرض الشام، فيخرج مع صحبه في الغداة حيث شاؤوا، ثم يرجعون في يومهم إلى منزله، أي أن تلك الريح كانت جامعة بين الأمرين: رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد.
وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ أي وكان الله عالما بكل شيء وعالما بتدبيره، فما آتاه الملك والنبوة، وما سخر له الريح بأمره إلا لعلمه بما فيه الحكمة والمصلحة

صفحة رقم 101

والاستحقاق، فيشكر هو وقومه المنعم عليهم، ويعرفوا هذه المعجزات الظاهرة.
روي أنه كان له بساط من خشب، يوضع عليه كل ما يحتاجه من أمور المملكة، كالخيل والجمال والخيام والجند، ثم يأمر الريح أن تحمله، فتدخل تحته، ثم تحمله وترفعه، وتسير به وتظله الطير، لتقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض، فينزل، وتوضع آلاته، كما قال تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص ٣٨/ ٣٦] وقال: غُدُوُّها شَهْرٌ، وَرَواحُها شَهْرٌ [سبأ ٣٤/ ١٢] «١».
٢- وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ أي وسخرنا له فئة من الشياطين تغوص في أعماق البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان والجواهر ونحوها، والغوص:
النزول تحت الماء.
وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي ويؤدون له عملا غير ذلك كبناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات ونحوها، كما قال تعالى:
وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ [ص ٣٨/ ٣٨] وقال: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ [سبأ ٣٤/ ١٣] وأما الصناعات فهي مثل الطواحين والقوارير والصابون.
وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي حافظين لأعمالهم، نحرسه من أن يناله أحدهم بسوء، وقد جعلنا له سلطة مطلقة عليهم، إن شاء أطلق، وإن شاء حبس منهم من يشاء، ولهذا قال في الآية السابقة: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ.

(١) تفسير ابن كثير ٣/ ١٨٧

صفحة رقم 102

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي من الأحكام:
١- الحق والصواب واحد لا يتعدد، فإن حكم سليمان كان هو الأصوب، ولكن لا مانع من الخطأ في الاجتهاد، فمن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ولكن لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد بالإجماع، وعلى المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع الحادثة، ولا يعتمد على اجتهاده المتقدم، لإمكان أن يظهر له ثانيا خلاف ما ظهر له أولا.
فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر»
وفي السنن الصحاح: «القضاة ثلاثة: قاض في الجنة، وقاضيان في النار: رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى بخلافه، فهو في النار».
وقال الحسن البصري: لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده.
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن:
ما رواه الإمام أحمد في مسنده والشيخان والنسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بينما امرأتان معهما ابنان لهما، إذ جاء الذئب، فأخذ أحد الابنين، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا، فدعاهما سليمان، فقال: هاتوا السكين أشقّه بينكما، فقالت الصغرى: يرحمك الله، هو ابنها، لا تشقه، فقضى به للصغرى».
وأما حكم مسألة رعي الزرع ليلا في شرعنا، فقال الجصاص: ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ وذلك لأن داود

صفحة رقم 103

عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث، وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم، ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه، فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة نبينا صلّى الله عليه وسلم «١».
وأما آراء فقهائنا فهي كما يلي «٢» :
قال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا ضمان على أرباب المواشي فيما أصابت بالنهار. وقال الليث: يضمن أرباب المواشي بالليل والنهار.
وأما ما تتلفه المواشي بالليل فللعلماء فيه رأيان مشهوران:
رأي الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) : وهو ضمان ما تتلفه البهائم ليلا، عملا بما قضى به النبي صلّى الله عليه وسلم في ناقة البراء، وهو أن حفظ البهائم بالليل على أرباب المواشي، وهذا حديث خاص، وأما
حديث «العجماء جرحها جبار»
أي أن فعل البهائم هدر، فهو عام، ولا خلاف أن العام يقضي عليه الخاص، أي أنه يقدم الخاص على العام، ولأنه لا إشكال في أن من أتلف شيئا فعليه الضمان، ويكون الضمان بالقيمة، وإن زادت على قيمة المواشي.
ورأي أبي حنيفة: ألا ضمان لما تتلفه المواشي، ليلا أو نهارا، للحديث المتقدم: «العجماء جرحها جبار».
٢- قال ابن العربي: من أراد أن يتخذ ما ينتفع به مما لا يضر بغيره مكّن منه، مثل النحل والحمام والإوز والدجاج، وذلك كالماشية. وأما انتفاعه بما

(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٢٢٣
(٢) أحكام القرآن لابن العربي: ٣/ ١٢٥٦ وما بعدها، تفسير الرازي: ٢٢/ ١٩٩، تفسير القرطبي:
١١/ ٣١٥.

صفحة رقم 104

يتخذه بإضراره بأحد، فلا سبيل إليه،
قال صلّى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس: «لا ضرر ولا ضرار» «١».
٣- إنما يكون الأجر للحاكم المخطئ إذا كان عالما بالاجتهاد والسنن والقياس، وقضاء من مضى من السلف لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط. فأما من لم يكن محلا للاجتهاد، فهو متكلف لا يعذر بالخطإ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوزر، بدليل الحديث المتقدم:
«القضاة ثلاثة» قال ابن المنذر: إنما يؤجر على اجتهاده في طلب الصواب، لا على الخطأ، بدليل قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ.
٤- أكثر الفقهاء قالوا: إن الحق واحد من أقوال المجتهدين، وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم، بدليل قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ فخص سليمان بالفهم، ولو كان الكل مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة.
٥- هل للأنبياء الاجتهاد؟ اختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء، فمنعه قوم، وجوزه المحققون الأكثرون لأنه ليس فيه استحالة عقلية لأنه دليل شرعي، فلا مانع أن يستدل به الأنبياء، والله تعالى قال: فَاعْتَبِرُوا [الحشر ٥٩/ ٢] وهو أمر للكل بالاعتبار، وذلك يشمل الرسول صلّى الله عليه وسلم، ولأنه إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل المقيس عليه معلل بمعنى، ثم وجد ذلك المعنى في صورة أخرى، فلا بد وأن يغلب على ظنه أن الفرع كالأصل في الحكم، ثم إنه لو جاز الاجتهاد للعلماء وهو أرفع درجات العلم، لثبت لأحد من أمة النبي صلّى الله عليه وسلم من الفضيلة ما لا يثبت له.
٦- في هذه الآية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به، إذا تبين له أن

(١) أحكام القرآن: ٣/ ١٢٥٨، تفسير القرطبي: ١١/ ٣١٨

صفحة رقم 105

الحق في غيره، فقد رجع داود إلى حكم سليمان عليهما السلام، وهذا ثابت أيضا في رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.
٧- كان ترتيل داود عليه السلام لكتابه الزبور وتسبيحه تتردد أصداؤه في الجبال والطيور، وكانت هذه تتجاوب معه بالتسبيح، وتذكر الله معه بلغة خاصة بها، قال مقاتل: إذا ذكر داود عليه السلام ربه، ذكرت الجبال والطير ربها معه. وقيل: كان داود إذا وجد فترة أي راحة أمر الجبال، فسبّحت حتى يشتاق، ولهذا قال: وَسَخَّرْنا أي جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح. وقيل: إن سيرها معه تسبيحها، والتسبيح مأخوذ من السباحة بدليل قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ ٣٤/ ١٠]. قال الرازي:
والقول الأول (أي قول مقاتل) أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره. وتسبيح الجبال والطير فيه دلالة على قدرة الله تعالى، وعلى تنزهه عما لا يجوز.
٨- كان داود أول من اتخذ الدروع وصنعها، وتعلمها الناس منه، وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلقها، فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد الدهر، لحماية الناس وحراستهم من السلاح في أثناء القتال، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة.
وذلك يقتضي الشكر، لذا قال تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أي على تيسير نعمة الدروع لكم، وأن تطيعوا رسول الله فيما أمر به. والمراد: اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة.
٩- هذه الآية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والأسباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل شرف، واتخاذ الحرفة كرامة، وقد أخبر الله تعالى عن داود أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا

صفحة رقم 106

يصنع الخوص، وأخبر نبينا صلّى الله عليه وسلم عن داود عليه السلام أنه كان يأكل من عمل يده، وذلك أفضل الكسب. وكان آدم حراثا، وكان نوح يصنع السفن وكان نجارا، وكان إدريس ولقمان خياطين، وطالوت دباغا، أو سقّاء، وكل ذلك يدل على أن العمل كان منهج الأنبياء والصالحين، وطريق المؤمنين الأقوياء.
والإسلام دين يحب العمل ويوجبه، ويكره البطالة والكسل، ويحارب العاطلين والخاملين إذا كانوا قادرين على العمل،
جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لأن يأخذ أحدكم حبلة، ثم يغدو إلى الجبل، فيحتطب، فيبيع، فيأكل، ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس».
وبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها الضرر والبأس عن نفسه.
جاء في حديث آخر رواه الحكيم الترمذي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة، وهو ضعيف: «إن الله يحب العبد المؤمن المحترف الضعيف المتعفف، ويبغض السائل الملحف».
١٠- كان من إكرام الله تعالى لسليمان تسخير الريح التي تجري بأمره إلى حيث شاء، ثم تردّه إلى بلاد الشام المباركة. يروى أنها كانت تجري به وبأصحابه إلى حيث أراد، ثم تردّه إلى الشام.
ومن إنعام الله عليه تسخير الشياطين له يعملون بصفة غواصين لاستخراج الجواهر من البحر، كما يعملون له أعمالا أخرى غير الغوص، من بناء المدن والقصور، ونحت المحاريب والتماثيل، وصناعة القدور الراسيات والجفان الواسعة والطواحين والقوارير والصابون، وغير ذلك مما يسخّرهم فيه، ويحفظ الله له أعمالهم من أن يفسدوها، أو أن يهيجوا أحدا من بني آدم في زمان سليمان، أو أن يهربوا أو يمتنعوا من أمره، فقد كانوا رهن إشارته، وطوع إرادته، لا يجرأ أحد منهم على الاقتراب منه.

صفحة رقم 107
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية