آيات من القرآن الكريم

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
ﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ

فقال: «ماذا معك من القرآن؟» حتى أتى على آخرهم، وهو أحدثهم سنّا، فقال: «ما معك من القرآن؟» قال: كذا وكذا وسورة البقرة، فقال: «اخرجوا وهذا عليكم أمين»، قالوا: يا رسول الله هو أحدثنا سنّا، قال: «معه سورة البقرة» «١» [٦١].
(التفسير:)
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
قوله تعالى: الم: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور، فذهب كثير منهم إلى أنّها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها، فنحن نؤمن بتنزيلها ونكل إلى الله تأويلها.
قال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : في كل كتاب سر، وسر القرآن أوائل السور.
وقال علي بن أبي طالب عليه السّلام: إنّ لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.
وفسّره الآخرون، فقال سعيد بن جبير: هي أسماء الله مقطّعة، لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم، ألا ترى أنّك تقول: الر «٢» وتقول: حم «٣» وتقول: ن «٤» فيكون الرَّحْمنُ، وكذلك سائرها على هذا الوجه، إلّا أنّا لا نقدر على وصلها والجمع بينها.
وقال قتادة: هي أسماء القرآن.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي أسماء للسور المفتتحة بها.
وقال ابن عباس: هي أقسام أقسم الله بها، وروي أنّه ثناء أثنى الله به على نفسه.
وقال أبو العالية: ليس منها حرف إلّا وهو «٥» مفتاح لاسم من أسماء الله عز وجل، وليس منها حرف إلّا وهو في الآية وبلائه»
، وليس منها حرف إلّا في مدّة قوم وآجال آخرين.
(١) سنن الترمذي: ٤/ ٢٣٤، بتفاوت. [.....]
(٢) سورة الحجر: ١.
(٣) سورة الدخان: ١.
(٤) سورة القلم: ١.
(٥) في المخطوط: وهي.
(٦) هكذا في المخطوط.

صفحة رقم 136

وقال عبد العزيز بن يحيى: معنى هذه الحروف أنّ الله ذكرها، فقال: اسمعوها مقطعة، حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، وكذلك تعلم الصبيان أولا مقطعة، وكان الله أسمعهم مقطعة مفردة، ليعرفوها إذا وردت عليهم، ثم أسمعهم مؤلّفة.
وقال أبو روق: إنّها تكتب للكفار، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يجهر بالقراءة في الصلوات كلّها، وكان المشركون يقولون: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما لفظوا ليغلّطوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا رأى رسول الله ذلك أسرّ في الظهر والعصر وجهر في سائرها، وكانوا يضايقونه ويؤذونه، فأنزل الله تعالى هذه الحروف المقطعة، فلمّا سمعوها بقوا متحيرين متفكّرين، فاشتغلوا بذلك عن إيذائه وتغليطه، فكان ذلك سببا لاستماعهم وطريقا إلى انتفاعهم.
وقال الأخفش: إنّما أقسم الله بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها، ولأنّها مباني كتبه المنزلة بالألسن المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم بما يتعارفون ويذكرون الله ويوحّدونه، وكأنّه أقسم بهذه الحروف إنّ القرآن كتابه وكلامه لا رَيْبَ فِيهِ.
وقال النقيب: هي النبهة والاستئناف ليعلم أنّ الكلام الأول قد انقطع، كقولك: ولا إنّ زيدا ذهب.
وأحسن الأقاويل فيه وأمتنها أنّها إظهار لإعجاز القرآن وصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنّ كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين.
والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه كقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ «١» أي صلّوا لا يصلّون، وقوله: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ «٢» فعبر بالركوع والسجود عن الصلاة إذ كانا من أركانها، وقال: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «٣» أراد جميع أبدانكم.
وقال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أي الأنف فعبّر باليد عن الجسد، وبالأنف عن الوجه.
وقال الشاعر في امرأته:
لما رأيت أمرها في خطي... وفنكت في كذب ولط
أخذت منها بقرون شمط... فلم يزل ضربي بها ومعطي «٤»

(١) سورة المرسلات: ٤٨.
(٢) سورة العلق: ١٩.
(٣) سورة آل عمران: ١٨٢.
(٤) تفسير الطبري: ١/ ١٣٢، ولسان العرب: ١٠/ ٤٨٠.

صفحة رقم 137

فعبّر بلفظة «خطي» عن جملة حروف أبجد.
ويقول القائل: (أب ت ث) وهو لا يريد هذه الأربعة الأحرف دون غيرها، بل يريد جميعها وقرأت الْحَمْدُ لِلَّهِ، وهو يريد جميع السورة، ونحوها كثير، وكذلك عبّر الله بهذه الحروف عن جملة حروف التهجّي، والإشارة فيه أنّ الله تعالى نبّه العرب وتحدّاهم، فقال: إنّي قد نزّلت هذا الكتاب من جملة الثمانية والعشرين التي هي لغتكم ولسانكم، وعليها مباني كلامكم، فإن كان محمد هو النبي يقوله من تلقاء نفسه، فأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله، فلمّا عجزوا عن ذلك بعد الإجهاد ثبت أنّه معجزة.
هذا قول المبرّد وجماعة من أهل المعاني، فإن قيل: فهل يكون حرفا واحدا عودا للمعنى؟
وهل تجدون في كلام العرب أن يقال: الم زيد قائم؟ وحم عمرو ذاهب؟ قلنا: نعم، هذا عادة العرب يشيرون بلفظ واحد إلى جميع الحروف ويعبّرون به عنه.
قال الراجز:

قلت لها قفي فقالت قاف لا تحسبي أنّا نسينا الإيجاف «١»
أي قف أنت.
وأنشد سيبويه لغيلان:
نادوهم ألا ألجموا ألا تا قالوا جميعا كلّهم ألا فا «٢»
أي لا تركبون فقالوا: ألا فاركبوا.
وأنشد قطرب في جارية:
قد وعدتني أم عمرو أن تا تدهن رأسي وتفليني تا
أراد أن تأتي وتمسح «٣»
وأنشد الزجّاج:
بالخير خيرات وإن شرّا فا ولا أريد الشرّ إلّا أن تا «٤»
أراد بقوله (فا) : وإن شرا فشر له، وبقوله: تا إلا أن تشاء.
قال الأخفش: هذه الحروف ساكنة لأنّ حروف الهجاء لا تعرب، بل توقف على كلّ حرف على نيّة السكت، ولا بدّ أن تفصل بالعدد في قولهم واحد- اثنان- ثلاثة- أربعة.
(١) شرح شافية ابن الحاجب: ٤/ ٢٦٤، والبيت الأوّل موجود في تفسير القرطبي: ١/ ١٥٥.
(٢) تفسير القرطبي: ١/ ١٥٦.
(٣) لسان العرب: ١/ ١٦٤ وفيه: تفليني وا.
(٤) لسان العرب: ١٥/ ٢٨٨.

صفحة رقم 138

قال أبو النجم:

أقبلت من عند زياد كالخرف تخط رجلاي بخط مختلف «١»
تكتبان في الطريق لام الألف فإذا أدخلت حرفا من حروف العطف حركتها.
وأنشد أبو عبيدة:
إذا اجتمعوا على ألف وواو وياء هاج بينهم جدال «٢»
وهذه الحروف تذكّر على اللفظ وتؤنّث على توهم الكلمة.
قال كعب الأحبار: خلق الله العلم من نور أخضر، ثم أنطقه ثمانية وعشرين حرفا من أصل الكلام، وهيّأها بالصوت الذي سمع وينطق به، فنطق بها العلم فكان أوّل ذلك كلّه [.....] «٣» فنظرت إلى بعضها فتصاغرت وتواضعت لربّها تعالى، وتمايلت هيبة له، فسجدت فصارت همزة، فلمّا رأى الله تعالى تواضعها مدّها وطوّلها وفضّلها، فصارت ألفا، فتلفظه بها، ثم جعل القلم ينطق حرفا حرفا «٤» إلى ثمانية وعشرين حرفا، فجعلها مدار الكلام والكتب والأصوات واللغات والعبادات كلّها إلى يوم القيامة، وجميعها كلّها في أبجد.
وجعل الألف لتواضعها مفتاح أول أسمائه، ومقدّما على الحروف كلّها، فأمّا قوله عزّ وجلّ: الم فقد اختلف العلماء في تفسيرها.
عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله تعالى: الم قال: أنا الله أعلم.
أبو روق عن الضحاك في قوله الم: أنا الله أعلم.
مجاهد وقتادة: الم اسم من أسماء القرآن.
الربيع بن أنس: (ألف) مفتاح اسم الله، و (لام) مفتاح اسمه لطيف، و (ميم) مفتاح اسمه مجيد.
خالد عن عكرمة قال: الم قسم.
محمد بن كعب: (الألف) آلاء الله، و (اللام) لطفه، و (الميم) ملكه.
(١) لسان العرب: ٦٩٨. [.....]
(٢) شرح الرضي على الكافية: ١/ ٦٨.
(٣) كلمة غير مقروءة.
(٤) في الأصل: حرف حرف.

صفحة رقم 139

وفي بعض الروايات عن ابن عباس: (الألف) الله، و (اللام) جبرئيل، أقسم الله بهم إنّ هذا الكتاب لا رَيْبَ فِيهِ
، ويحتمل أن يكون معناه على هذا التأويل: أنزل الله هذا الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقال أهل الإشارة: (ألف) : أنا، (لام) : لي، (ميم) : منّي.
وعن علي بن موسى الرضا عن جعفر الصادق، وقد سئل عن قوله: الم فقال: في الألف ست صفات من صفات الله: الابتداء لأنّ الله تعالى ابتدأ جميع الخلق، و (الألف).
ابتداء الحروف، والاستواء: فهو عادل غير جائر، و (الألف) مستو في ذاته، والانفراد: والله فرد والألف فرد، واتصال الخلق بالله، والله لا يتصل بالخلق، فهم يحتاجون إليه وله غنى عنهم.
وكذلك الألف لا يتصل بحرف، فالحروف متصلة: وهو منقطع عن غيره، والله باين بجميع صفاته من خلقه، ومعناه من الألفة، فكما أنّ الله سبب إلفة الخلق، فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب إلفتها.
وقالت الحكماء: عجز عقول الخلق في ابتداء خطابه، وهو محل الفهم، ليعلموا أن لا سبيل لأحد إلى معرفة حقائق خطابه إلّا بعلمهم، فالعجز عن معرفة الله حقيقة خطابه.
وأما محل الم من الإعراب فرفع بالابتداء وخبره فيما بعده.
وقيل: الم ابتداء، وذلِكَ ابتداء آخر والْكِتابُ خبره، وجملة الكلام خبر الابتداء الأول.
ذلِكَ: قرأت العامة ذلِكَ بفتح الذال، وكذلك هذه وهاتان، وأجاز أبو عمرو الإمالة في هذه، (ذ) للاسم، واللام عماد، والكاف خطاب، وهو إشارة إلى الغائب.
والْكِتابُ: بمعنى المكتوب كالحساب والعماد.
قال الشاعر:

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة أتتك من الحجج تتلى كتابها «١»
أو مكتوبها، فوضع المصدر موضع الاسم، كما يقال للمخلوق خلق، وللمصور تصوير، وقال: دراهم من ضرب الأمير، أي هي مضروبة، وأصله من الكتب، وهو ضم الحروف بعضها إلى بعض، مأخوذ من قولهم: كتب الخرز، إذا خرزته قسمين، ويقال للخرز كتبة وجمعها كتب.
قال ذو المرّجة:
(١) جامع البيان للطبري: ٣/ ٣٤١.

صفحة رقم 140

وفراء غرفية أثاي خوارزها... مشلشل ضيعته فبينها الكتب «١»
ويقال: كتبت البغل، إذا حرمت من سفرتها الخلقة، ومنه قيل للجند كتيبة، وجمعها كتائب.
قال الشاعر:
وكتيبة جاءوا ترفل... في الحديد لها ذخر
واختلفوا في هذا الْكِتابُ قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك ومقاتل:
هو القرآن، وعلى هذا القول يكون (ذلِكَ) بمعنى (هذا) كقول الله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ «٢» أي هذه.
وقال خفاف بن ندبه السلمي:
إن تك خيلي قد أصيب صميمها... فعمدا على عين تيممت مالكا «٣»
أقول له الرمح يأطر متنه... تأمل خفافا إنني أنا ذالكا «٤»
يريد [هذا].
وروى أبو الضحى عن ابن عباس قال: معناه ذلِكَ الْكِتابُ الذي أخبرتك أن أوجّه إليك.
وقال عطاء بن السائب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي وعدتكم يوم الميثاق.
وقال يمان بن رئاب: ذلِكَ الْكِتابُ الذي ذكرته في التوراة والإنجيل.
وقال سعيد بن جبير: هو اللوح المحفوظ.
عكرمة: هو التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة.
وقال الفراء: إنّ الله تعالى وعد نبيه أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الردّ، فلمّا أنزل القرآن قال: هو الكتاب الذي وعدتك.
وقال ابن كيسان: تأويله أنّ الله تعالى أنزل قبل البقرة بضع عشرة سورة «٥» كذّب بكلها المشركون ثم أنزل سورة البقرة بعدها فقال: ذلِكَ الْكِتابُ يعني ما تقدم البقرة من القرآن.
وقيل: ذلِكَ الْكِتابُ الذي كذب به مالك بن الصيف اليهودي.

(١) الصحاح: ١/ ٢٠٨.
(٢) سورة الأنعام: ٨٣.
(٣) لسان العرب: ٣/ ٣٠٢.
(٤) جامع البيان للطبري: ١/ ١٤٣.
(٥) في المخطوط: سورا.

صفحة رقم 141

لا رَيْبَ فِيهِ: لا شكّ فيه، إنّه من عند الله.
قال: هُدىً: أي هو هدى، وتم الكلام عند قوله فِيهِ، وقيل: «هو» نصب على الحال، أي هاديا تقديره لا ريب في هدايته للمتقين.
قال أهل المعاني: ظاهره نفي وباطنه نهي، أي لا ترتابوا فيه، كقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ «١» : أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الهدى، والبيان وما يهتدي به ويستبين به الإنسان.

فصل في التقوى


هُدىً لِلْمُتَّقِينَ: اعلم أنّ التقوى أصله وقى «٢» من وقيت، فجعلت الواو تاء، كالتكلان فأصله وكلان من وكلت، والتخمة أصلها وخمة من وخم معدته إذا لم يستمرئ.
واختلف العلماء في معنى التقوى وحقيقة المتقي،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جماع التقوى في قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ... «٣» الآية» «٤» [٦٢].
قال ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشرك والكبائر والفواحش.
وقال ابن عمر: التقوى أن لا يرى [نفسه] خيرا من أحد.
وقال الحسن: المتقي الذي يقول لكل من رآه هذا خير مني.
وقال عمر بن الخطاب لكعب الأحبار: حدّثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، وقال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وتشمّرت، فقال كعب: ذلك التقوى، ونظمه ابن المعتز فقال:
خلّ الذنوب صغيرها... وكبيرها ذاك التقى
واضع كماش فوق أر... ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحتقرنّ صغيرة... إنّ الجبال من الحصا «٥»
وقال عمر بن عبد العزيز: ليس التقوى قيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى ترك ما حرّم الله وأداء ما افترض الله، فما رزق بعد ذلك فهو خير على خير.
(١) سورة البقرة: ١٩٧.
(٢) في المخطوط: وقوي.
(٣) سورة النحل: ٩٠.
(٤) تفسير مجمع البيان: ١/ ٨٢.
(٥) تفسير القرطبي: ١/ ١٦٢. [.....]

صفحة رقم 142

وقيل لطلق بن حبيب: أجمل لنا التقوى؟ فقال: التقوى عمل يطلبه الله على نور من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معصية الله على نور من الله مخافة عقاب الله.
وقال بكر بن عبد الله: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون يتقي الطمع، ويتقي الغضب.
وقال عمر بن عبد العزيز: المتقي لمحرم لا تحرم، يعني في الحرم.
وقال شهر بن حوشب: المتقي الذي يترك ما لا يأتمن به حذرا لما به بأس.
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: إنّما سمي المتقون؟ لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس «١».
وقال سفيان الثوري والفضيل: هو الذي يحب للناس ما يحب لنفسه.
وقال الجنيد بن محمد: ليس المتقي الذي يحب الناس ما يحب لنفسه، إنّما المتقي الذي يحب للناس أكثر مما يحب لنفسه، أتدرون ما وقع لأستاذي سري بن المفلّس؟ سلّم عليه ذات يوم صديق له فردّ عليه، وهو عابس لم يبشّ له، فقلت له في ذلك فقال: بلغني أنّ المرء المسلم إذا سلّم على أخيه وردّ عليه أخوه قسمت بينهما مائة رحمة، فتسعون لأجلهما، وعشرة للآخر فأحببت أن يكون له التسعون.
محمد بن علي الترمذي: هو الذي لا خصم له.
السري بن المفلّس: هو الذي يبغض نفسه.
الشبلي: هو الذي يبغي ما دون الله.
قال جعفر الصادق: أصدق كلمة قالت العرب قول لبيد:
ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل «٢»
الثوري: هو الذي اتّقى الدنيا وأقلها.
محمد بن يوسف المقري: مجانبة كل ما يبعدك عن الله.
القاسم بن القاسم: المحافظة على آداب الشريعة.
وقال أبو زيد: هو التورّع عن جميع الشبهات.
وقال أيضا: المتقي من إذا قال قال لله، وإذا سكت سكت لله، وإذا ذكر ذكر لله تعالى.
الفضيل: يكون العبد من المتقين حتى يأمنه عدوّه كما يأمنه صديقه.

(١) تفسير مجمع البيان: ١/ ٨٣.
(٢) لسان العرب: ٥/ ٣٥١.

صفحة رقم 143

وقال سهل: المتقي من تبرّأ من حوله وقوّته.
وقال: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك.
وقيل: هو الاقتداء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقيل: هو أن تتقي بقلبك عن الغفلات، وبنفسك من الشهوات، وبحلقك من اللذات، وبجوارحك من السيئات، فحينئذ يرجى لك الوصول لما ملك الأرض والسموات.
أبو القاسم (حكيم) : هو حسن الخلق.
وقال بعضهم: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكّل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما فات.
وقيل: المتقي من اتّقى متابعة هواه.
وقال مالك: حدثنا وهب بن كيسان أنّ بعض فقهاء أهل المدينة كتب إلى عبد الله بن الزبير أنّ لأهل التقى علامات يعرفون بها: الصبر عند البلاء، والرضا بالقضاء، والشكر عند النعمة، والتذلل لأحكام القرآن.
وقال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشدّ محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر.
وقال أبو تراب: بين يدي التقوى عقبات، من لا يجاوزها لا ينالها، اختيار الشدة على النعمة، واختيار القول على الفضول، واختيار الذلّ على العزّ، واختيار الجهد على الراحة، واختيار الموت على الحياة.
وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى إلّا إذا كان بحيث لو جعل ما في قلبه على طبق، فيطاف به في السوق لم يستحي من شيء عليها.
وقيل: التقوى أن تزيّن سرّك للحقّ، كما تزيّن علانيتك للخلق.
وقال أبو الدرداء:

يريد المرء أن يعطى مناه ويأبى الله إلّا ما أرادا
يقول «١» المرء فائدتي وذخري وتقوى الله أفضل ما استفادا «٢»
(١) في المخطوط: ويقول.
(٢) الدرّ المنثور: ١/ ٢٥.

صفحة رقم 144

فصل في الإيمان


الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ اعلم أنّ حقيقة الإيمان هي التصديق بالقلب، لأن الخطاب الذي توجّه عليها بلفظ آمنوا إنّما هو بلسان العرب، ولم يكن العرب يعرفون «١» الإيمان غير التصديق، والنقل في اللغة لم يثبت فيه، إذ لو صح النقل عن اللغة لروي عن ذلك، كما روي في الصلاة التي أصلها الدعاء.
إذا كان الأمر كذلك وجب علينا أن نمتثل الأمر على ما يقتضيه لسانهم، كقوله تعالى في قصة يعقوب عليه السّلام وبنيه وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «٢» : أي بمصدق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ، ويدل عليه من هذه الآية أنّه لما ذكر الإيمان علّقه بالغيب، ليعلم أنّه تصديق الخبر فيما أخبر به من الغيب، ثم أفرده بالذكر عن سائر الطاعات اللازمة للأبدان وفي الأموال فقال: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ والدليل عليه أيضا أنّ الله تعالى حيث ما ذكر الإيمان [نسبه] «٣» إلى القلب فقال: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ «٤»، وقال: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ»
، وقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ «٦»، ونحوها كثير.
فأما محل الإسلام من الإيمان فهو كمحل الشمس من الضوء: كل شمس ضوء، وليس كل ضوء شمسا «٧»، وكل مسك طيب، وليس كل طيب مسكا، كذلك كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا، إذا لم يكن تصديقا لأن الإسلام هو الانقياد والخضوع، يدل عليه قوله تعالى:
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «٨» من خوف السيف،
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«الإيمان سرا» «٩» [٦٣] وأشار إلى صدره «والإسلام علانية» «١٠» [٦٤]
، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه» «١١» [٦٥].
وكذلك اختلف جوابه لجبرائيل في الإسلام والإيمان، فأجاب في الإيمان بالتصديق، وفي الإسلام بشرائع الإيمان، وهو ما
روى أبو بريده، وهو يحيى بن معمر قال: أول من قال في القدر بالبصرة سعيد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألناه عما يقول هو: ما في القدر؟ فوافقنا عبد الله ابن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن
(١) في المخطوط: يعرف.
(٢) سورة يوسف: ١٧.
(٣) زيادة اقتضاها السياق.
(٤) سورة المائدة: ٤١.
(٥) سورة النحل: ١٠٦.
(٦) سورة المجادلة: ٢٢.
(٧) في المخطوط: شمس.
(٨) سورة الحجرات: ١٤.
(٩) تفسير مجمع البيان: ١/ ٨٦.
(١٠) تفسير مجمع البيان: ١/ ٨٦. [.....]
(١١) كنز العمّال: ٣/ ٥٨٥، ح ٨٠٢١.

صفحة رقم 145

شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام لي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنّه قد ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن ويفتقرون [إلى] «١» العلم وذكر من لسانهم أنّهم يزعمون أن لا قدر، وأنّ الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنّهم برءاء مني، والذي يحلف به عبد الله ابن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: أخبرنا أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأسند ركبته إلى ركبته، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإسلام أن يشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدّقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وتؤمن بالقدر خيره وشره».
قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك»، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، قال: فأخبرني عن إماراتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاة شاهقون في البنيان»، قال: ثم انطلق، فلبث علينا ثم قال: يا عمر من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنّه جبرائيل عليه السّلام أتاكم ليعلمكم دينكم» «٢».
ثم يسمى اقرار اللسان وأعمال الأبدان إيمانا بوجه من المناسبة وضرب من المقاربة لأنها من شرائعه وتوابعه وعلاماته وإماراته كما نقول: رأيت الفرح في وجه فلان، ورأيت علم زيد في تصنيفه وإنّما الفرج والعلم في القلب،
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون بابا، أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها شهادة «٣» أن لا إله إلّا الله» [٦٦] «٤».
وعن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان» [٦٧] «٥».
الحسن بن علي قال: حدثني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«الإيمان معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان» [٦٨] «٦».

(١) زيادة اقتضاها السياق.
(٢) صحيح مسلم: ١/ ٢٨- ٢٩ بطوله.
(٣) في المصدر: وارفعها قول.
(٤) مسند أحمد: ٢/ ٤٤٥، وكنز العمّال: ١/ ٣٦.
(٥) صحيح مسلم: ١/ ٤٦.
(٦) المعجم الأوسط: ٦/ ٢٢٦.

صفحة رقم 146

وعن علي بن الحسين زين العابدين قال: حدثنا أبي سيد شباب أهل الجنة قال: حدثنا أبي سيد الأوصياء قال: حدثنا محمّد سيد الأنبياء قال: «الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول واتباع الرسول» [٧٢] «١».
وامّا الغيب فهو ما كان مغيّبا عن العيون محصّلا في القلوب وهو مصدر وضع موضع الاسم فقيل للغائب غيب، كما قيل للصائم: صوم، وللزائر: زور، وللعادل: عدل.
الربيع بن أبي العالية يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: يؤمنون بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وجنته وناره ولقائه، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كلّه.
عمر بن الأسود عن عطاء بن أبي رباح: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: بالله، من آمن بالله فقد آمن بالغيب «٢».
سفيان عن عاصم بن أبي النجود في قوله يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قال: الغيب: القرآن. وقال الكلبي: بما نزل من القرآن وبما لم يجيء بعد.
الضحاك: الغيب لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال زرّ بن حبيش وابن جريج وابن واقد: يعني بالوحي، نظيره قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى «٣» وقوله: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً «٤» وقوله: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ «٥».
الحسن: يعني بالآخرة. عبد الله بن هاني: هو ما غاب عنهم من علوم القرآن.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) انه قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم جالسا فقال: «أتدرون أي أهل الأيمان أفضل؟» قالوا: يا رسول الله الملائكة، قال:
«هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم وقد أنزلهم الله تعالى بالمنزلة التي أنزلهم، بل غيرهم».
قلنا: يا رسول الله الأنبياء؟ قال: «هم كذلك وحقّ لهم ذلك وما يمنعهم، بل غيرهم»، قلنا: يا رسول الله فمن هم؟ قال: «أقوام يأتون من بعدي هم في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يرونني، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» [٧٣] «٦».
وروى حسن إن الحرث بن قيس عن عبد الله بن مسعود: عند الله يحتسب ما سبقتمونا إليه يا أصحاب محمد من رؤية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عبد الله بن مسعود: نحن عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولم تروه، ثم قال عبد الله: إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه والذي لا اله الّا

(١) تفسير مجمع البيان: ١/ ٨٦.
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٤٣.
(٣) سورة النجم: ٣٥.
(٤) سورة الجن: ٢٦.
(٥) سورة التكوير: ٢٤.
(٦) مسند أبي يعلى: ١/ ١٤٧.

صفحة رقم 147

هو ما آمن مؤمن أفضل من إيمان الغيب، ثمّ قرأ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يديمونها ويأتمونها ويحافظون عليها بمواقيتها وركوعها وسجودها وحقوقها وحدودها، وكل من واظب على شيء وقام به فهو مقيم له يقال أقام فلان الحجّ بالناس، وأقام القوم [سوقهم] «١» ولم يعطلوها قال الشاعر:

فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلّى عصاك [كمستديم] «٢»
أي أراد بالصلاة هاهنا الصلوات الخمس، فذكرها بلفظ الواحد، كقوله: فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ «٣» أراد الكتب، وأصل الصلاة في اللغة: الدّعاء، ثمّ ضمّت إليها [عبادة] سميت مجموعها صلاة لأن الغالب على هذه العبادة الدّعاء.
وقال أبو حاتم الخارزمي: اشتقاقها من الصّلا وهو النار، فأصله من الرفق وحسن المعاناة للشيء وذلك إنّ الخشبة المعوجّة إذا أرادوا تقويمها [سحنوها بالنار] قوموها [بين خشبتين] فلذلك المصلّي ينبغي أن يتأنى في صلاته ويحفظ حدودها ظاهرا وباطنا ولا يعجّل فيها ولا يخفّ [ولا يعرف] قال الشاعر:
فلا تعجّل بأمرك واستدمه فما صلّى عصاك كمستديم
أي ما قوّم أمرك كالمباني.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أعطيناهم، والرزق عند أهل السنّة: ما صحّ الانتفاع به، فإن كان طعاما فليتغدّى به، وان كان لباسا فلينقى والتوقي، وإن كان مسكنا فللانتفاع به سكنى، وقد ينتفع المنتفع بما هيّئ الانتفاع به على الوجهين: حلالا وحراما، فلذلك قلنا إنّ الله رزق الحلال والحرام، [وأصل الرزق] في اللغة: هو الحظ والبخت.
يُنْفِقُونَ يتصدقون، وأصل الإنفاق: الإخراج عن اليد أو عن الملك. يقال: نفق المبيع إذا كثر مشتروه وأسرع خروجه، ونفقت الدابة إذا خرجت روحها، ونافقاء اليربوع من ذلك لأنه إذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق وأنفق إن خرج منه «٤»، والنفق: سرب في الأرض له مخلص إلى مكان آخر يخرج إليه.
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ: أي يصدّقون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ: يا محمد يعني القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ: يعني الكتب المتقدمة مثل صحف إبراهيم وموسى والزّبور والإنجيل وغيرها.
(١) زيادة عن تفسير الطبري: ١/ ١٥٢ والمخطوط ممسوح. [.....]
(٢) تاج العروس: ٨/ ٢٩٥.
(٣) سورة البقرة: ٢١٣.
(٤) راجع كتاب العين: ٥/ ١٧٨.

صفحة رقم 148

وَبِالْآخِرَةِ أي بالدار الآخرة، وسمّيت آخرة لأنّها تكون بعد الدّنيا ولأنّها أخّرت حتى تفنى الدنيا ثم تكون.
هُمْ يُوقِنُونَ يعلمون ويتيقّنون أنها كائنة، ودخل (هُمْ) تأكيدا، يسمّيه الكوفيون عمادا والبصريون فصلا.
أُولئِكَ أهل هذه الصفة، وأولاء: اسم مبني على الكسر، ولا واحد له من لفظه، والكاف خطاب، ومحل أُولئِكَ رفع بالابتداء وخبره في قوله: عَلى هُدىً رشد وبيان وصواب. مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ ابتدائان وهُمُ عماد الْمُفْلِحُونَ خبر الابتداء وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار، وقيل: هم الباقون في الثواب والنعيم المقيم.
وأصل الفلاح في اللغة: البقاء. قال لبيد:
نحلّ بلادا كلها حل قبلنا... ونرجو فلاحا بعد عاد وحمير «١»
وقال آخر:
لو كان حي مدرك الفلاح... أدركه ملاعب الرماح
أبو براء يدرة المسياح «٢»
وقال مجاهد: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدهما نزلت في الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: يعني مشركي العرب، وقال الضحّاك: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي: يعني اليهود، وقيل: المنافقون.
والكفر: هو الجحود والإنكار.
وأصله من الكفر وهو التغطية والسّتر، ومنه قيل للحراث: كافر لأنّه [يستر البذر]، قال الله تعالى: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ «٣» : يعني الزرّاع، وقيل للبحر: كافر، ولليل: كافر. قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر... وأجن عورات الثغور ظلامها «٤»
في ليلة كفر النجوم غمامها «٥»

(١) تفسير الطبري: ١/ ١٨٢.
(٢) تاج العروس: ٢/ ١٤٦ لسان العرب: ٢/ ٤٥٤ وفيه: (أبا براء مدرة السياح)، والمسياح: من يسيح بالنميمة والشر في الأرض.
(٣) سورة الحديد: ٢٠.
(٤) لسان العرب: ٥/ ١٤٧.
(٥) جامع البيان للطبري: ١/ ١٦٢.

صفحة رقم 149

ومنه: المتكفّر بالسلاح، وهو الشاكي الذي غطّى السلاح جميع بدنه.
فيسمى الكافر كافرا لأنه ساتر للحق ولتوحيد الله ونعمه ولنبوّة أنبيائه.
سَواءٌ عَلَيْهِمْ: أي واحد عليهم ومتساوي لديهم، وهو اسم مشتق من التساوي.
أَأَنْذَرْتَهُمْ: أخوّفتهم وحذّرتهم.
قال أهل المعاني: الإنذار والإعلام مع تحذير، يقال: أنذرتهم فنذروا، أي أعلمتهم فعلموا، وفي المثل: وقد أعذر من أنذر، وفي قوله: أَأَنْذَرْتَهُمْ وأخواتها أربع قراءات:
تحقيق الهمزتين وهي لغة تميم وقراءة أهل الكوفة لأنها ألف الاستفهام دخلت على ألف القطع وحذف الهمزة التي وصلت بفاء الفعل وتعويض مده منها كراهة الجمع بين الهمزتين وهي لغة أهل الحجاز، وإدخال ألف بين الهمزتين وهي قراءة أهل الشام في رواية هشام وإحدى الروايتين عن أبي عمرو.
قال الشاعر:
تطاولت فاستشرقت قرابته... فقلن له: أأنت زيد لا بل قمر «١»
والأخبار اكتفاء بجواب الاستفهام، وهي قراءة الزهري.
أَمْ: حرف عطف على الاستفهام.
لَمْ: حرف جزم لا يلي إلّا الفصل لأنّ الجزم مختص بالأفعال.
تُنْذِرْهُمْ: تحذرهم لا يُؤْمِنُونَ وهذه الآية خاصّة فيمن حقّت عليه كلمة العذاب في سابق علم الله، وظاهرها إنشاء ومعناها إخبار، ثمّ ذكر سبب تركهم للإيمان فقال:
خَتَمَ اللَّهُ: أي طبع عَلى قُلُوبِهِمْ والختم والطبع بمعنى واحد وهما التغطية للشيء [والاستيثاق] «٢» من أن يدخله شيء آخر.
فمعنى الآية: طبع الله على قلوبهم وأغلقها وأقفلها فليست تعي خبرا ولا تفهمه. يدل عليه قوله: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «٣».
وقال بعضهم: معنى الطبع والختم: حكم الله عليهم بالكفر والشقاوة كما يقال للرجل:
ختمت عليك أن لا تفلح أبدا.
وَعَلى سَمْعِهِمْ: فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وإنما وحّده لأنه مصدر، والمصادر

(١) كذا في المخطوط، ولم نجده.
(٢) المخطوط غير مقروء وما أثبتناه من تفسير القرطبي: ١/ ١٨٦.
(٣) سورة محمد: ٢٤.

صفحة رقم 150
الكشف والبيان عن تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أو الثعالبي
راجعه
نظير الساعدي
الناشر
دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان
سنة النشر
1422 - 2002
الطبعة
الأولى 1422، ه - 2002 م
عدد الأجزاء
10
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية