آيات من القرآن الكريم

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ
ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ

والتقى: اسم جامع لكل خصلة محمودة العاقبة، ومن اتقى الشرك فهو من المتقين، وهو أعظم التقى، وأصله من التَّوقّي وهو التستر، فكأن التقي يستر على جميع ما يذم عليه. وقد فسرنا إعراب هذا وما شابهه في كتاب " تفسير مشكل الإعراب "، فأخلينا هذا الكتاب من بسط الإعراب لئلا يطول إلا أن يقع نادر من الإعراب فنذكره على شرطنا المتقدم. فاعلم ذلك.
وقوله: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ الآية.
" الذين ": اسم مبهم ناقص لا بد له من صلة وعائد، وهو مبني في الجمع والواحد لمشابهة الحروف، ولأنه بعض اسم، فإن ثَنَّيْتَهُ أَعْربتَه، لأن التثنية تخرجه من مشابهة الحروف إذ الحروف لا تثنى.
فإن قيل: فأعربه في الجمع إذ الحروف لا تجمع.
فالجواب: إن الجمع مشبه بالواحد، لأنه يأتي إعرابه في آخره كالواحد، ولأنه يأتي على صور وأبنية مختلفة كالواحد، فجرى مجرى الواحد في البناء، والتثنية لا تختلف

صفحة رقم 129

أبنيتها، ولا يقع إعرابها في آخرها، فخالفت الواحد والجمع فأعربت، هذه لغة القرآن وأكثر كلام العرب.
ومن العرب من يعرب الجمع فيقول في الرفع " أَلَّذُون " فهؤلاء أعربوا الجمع إذ الحروف لا تجمع، وأصل " الذي " تدغم الياء منه محذوفة للتنوين كما تحذف في " عم " و " قاض " في الرفع والخفض. فلما دخلته الألف واللام رجعت الياء لزوال التنوين، وكتب " الذي " بلام واحدة، وأصلها لامان، تخفيفاً ولكثرة الاستعمال.
وجرى " الذين " في الجمع على ذلك لقربه من الواحد في المشابهة / المتقدمة الذكر، وكتبت " اللذين " في التثنية بلامين على الأصل، لأن التثنية لا تختلف ولا تأتي في جمع الأسماء إلا على نظام واحد. فلما جرت على أصلها، ولم تختلف كاختلاف الجمع جرت على أصلها في الخط. وأصل الإيمان: التصديق، فالعبد المؤمن يُصَدِّقُ بما أتاه من ربه، والله يصدق عبده بانتظاره ما وعده به من المجازاة على إيمانه، فالله جل ذكره مؤمن، ولا يقال: بكذا، والعبد مؤمن بكذا.
وقد قيل: إن المؤمن مأخوذ من الأمان، وذلك أن العبد يُؤَمِّن نفسه من عذاب الله بإيمانه. والله مُؤَمِّن: أي: يُؤَمِّنُ مطيعه من عذابه.
والهمز في " يؤمن " الأصل، وبدل الهمزة بواو لانضمام ما قبلها حسن

صفحة رقم 130

فصيح.
والغيب: كل ما استتر عنك. وهو في هذه الآية البعث، والحساب، والجنة، والنار، وشبهه. قاله سفيان وغيره.
وقيل: معنى ﴿بالغيب﴾: بالقدر.
وقال عطاء: " ﴿بالغيب﴾: بالله جل ذكره ". وقيل: بالقرآن. وقال بعض المتصوفة: " الغيب: القلب، أي يؤمنون بقلوبهم، لأن المنافق يؤمن بلسانه لا بقلبه ".
فالإيمان الصحيح / النافع ما اعتقده القلب.
وقال بعض العلماء: ﴿يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾، أي: يؤمنون إذا غابوا عن الناس، كما يؤمنون إذا حضروا، أي ليسوا كمن يؤمن بالحضرة، ويكفر بالغيب.
وقوله: ﴿وَيُقِيمُونَ الصلاة﴾.

صفحة رقم 131

معناه يديمون أداءها / بفروضها في أوقاتها.
وقال الضحاك: " إقامتها تمام سجودها وركوعها وخشوعها وتلاوتها وسنتها ".
وأصل " يُقيمُونَ، " يُقْوِمُونَ " على وزن " يُفْعِلُونَ " فألقيت حركة الواو على القاف وأبدل من الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها.
كما قالوا: ميزانٌ وميعادٌ، وهما من الوَعْدِ والْوَزْنِ. وأصل الصلاة في اللغة: الدعاء، لكن سمي الركوع والسجود صلاة للدعاء المستعمل فيها. والعرب تسمي الشيء باسم [ما لابَسَه وقاربه].
والصلاة من الله: الرحمة لعباده، ومن الملائكة. والأنبياء: الدعاء، وكذلك هي من الناس.
وروى أبو هريرة أن النبي [ ﷺ] قال: " إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأكُلْ، وإنْ كَانَ صَائِمَاً فَلْيُصَلِّ " أي: فليدع.

صفحة رقم 132

وقال الأعشى لابنته لما دعت له في قولها:

............ " يا ربِّ جَنِّب أَبي الأوصَابَ والْوَجَعَا.
عليك مثل / الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً.
أي: دعوت.
وقيل: إنما سميت الصلاة صلاة لأنها مشتقة من الصلويْن وهما عرقان في الردف، ينحنيان في الصلاة.
وكتبت الصلاة في المصاحف بالواو لتدل على أصلها، لأن أصل الألف الواو، وأصلها صلوة. فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها، قلبت في اللفظ ألفاً؛ دليله قولهم في الجمع: " صَلَواتٌ ". وقد ذكرنا أن الجمع يرد الأشياء إلى أصولها ولذلك قلنا: إن أصل " ماء ": مَوْهٌ " وإن الألف بدل من الواو، والهمزة بدل من الهاء. ودل على ذلك قولهم في الجمع: أمْوَاءٌ، فرد إلى أصله.
وقيل: إنما كتبت بالواو لأن بعض العرب يفخم اللام والألف حتى تظهر الألف كأن لفظها يشوبه شيء من الواو.

صفحة رقم 133

والقول الأول والآخر، به يعلل ما كتبوه من " الزكوة " و " الحيوة " وشبهه بالواو، فأعلمه. وهاتان الآيتان نزلتا في مؤمني العرب دون غيرهم، بدلالة قوله بعد ذلك: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ يريد من آمن من اليهود والنصارى.
وقيل: [بل الأربع] الآيات نزلت في مؤمني أهل الكتاب.
وقيل: بل هي في جميع من آمن بمحمد عليه السلام. إذ لم يؤمن [أحد به] إلا وهو مؤمن بالغيب مما أخبره به النبي ﷺ والكتاب.
واختار الطبري القول الأول.
وقال مجاهد: " أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان بعدها في نعت الكافرين وهم قادة الأحزاب و [ثلاث عشر] آية بعد ذلك في المنافقين ".
وقوله: ﴿وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
معناه: يتصدقون ويزكون.

صفحة رقم 134

وقيل: " هي نفقة الرجل على عياله ". قاله السدي.
وأصل " ما " في قوله: ﴿وَممَّا﴾ أن تكتب منفصلة، لأنها بمعنى " الذي ". والهاء محذوفة من ﴿رَزَقْنَاهُمْ﴾، أي وبعض الذي رزقناهم ينفقون منه. فحذفت من صلة " ما " لطول الاسم. فإن كانت " ما " بغير معنى " الذي "، وإنما هي صلة، كان أصلها أن تكتب متصلة بما قبلها نحو قوله:
﴿إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ﴾ [النساء: ١٧١]، ﴿إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ [الحج: ٤٩] وشبهه. وقد وقعت " ما " متصلة بما قبلها من الجار في الخط، وهي بمعنى " الذي "، وأصلها الانفصال، وإنما جاز ذلك فيها لأن الجار والمجرور كالشيء الواحد، وذلك نحو " مما " و " عما ".
وأيضاً فإنه / لما كان حرف الجر الذي على حرف واحد لا ينفصل مما جرى ما كان على حرفين على ذلك لأنها كلها حروف الجر، فوصلن بما قبلهن من الجار في الخط لارتباط الجار بالمجرور مع كثرة الاستعمال.
وقيل: إنه لما أدغمت النون في الميم فلم يظهر للنون لفظ / لم يثبت في الخط في مواضع وثبت في الخط في مواضع لبقاء الغنة ظاهرة، فمرة حمل على زوال لفظ النون ومرة حمل على بقاء الغنة في اللفظ.
واعلم أن " كل ما "، إذا كانت بمعنى " إذا " و " متى "، وصلتها مع " ما "، فإن

صفحة رقم 135
الهداية الى بلوغ النهاية
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد مكي بن أبي طالب حَمّوش بن محمد بن مختار القيسي القيرواني ثم الأندلسي القرطبي المالكي
الناشر
مجموعة بحوث الكتاب والسنة - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة الشارقة
سنة النشر
1429
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية