
وقوله: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمنوا وصارت لهم نورا فإذا ماتوا عادوا الى الخشية والظلمة.
قتادة: والمنافق إذا كثر ماله وحسن حاله وأصاب في الإسلام رخاء وعافية ثبت عليه فقال: أنا معكم، وإذ ذهب ماله وأصابته شدّة، قام متحيرا وخفق عندها فلم يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها. وتفسيره في سورة الحجّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ «١» الآية.
الوالبي عن ابن عباس: هم اليهود لما نصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرّنا به موسى لا تردّ له راية، فلمّا نكب بأحد ارتدّوا وسكتوا.
وَلَوْ: حرف تمنّي وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام.
ومعنى الآية: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ: أي أسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صمّا بكما عميا.
إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قادر، وكان حمزة يكسر شِاء، وجِاء وأمثالها لانكسار فاء الفعل، إذا أخبرت عن نفسك قلت: شئت وجئت وزدتّ وطبت وغيرها.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
يا أَيُّهَا النَّاسُ: قال ابن عباس: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب أهل مكة، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب أهل المدينة، وهو هاهنا عام.
اعْبُدُوا وحّدوا وأطيعوا. رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أوجدكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا. وَالَّذِينَ أي وخلق الذين مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ: لكي تنجوا من السحت والعذاب.
قال سيبويه: لعل وعسى حرفا ترج وهما من الله [.....] «٢».
(٢) كلمة غير مقروءة في المخطوط.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً بساطا ومقاما ومناما. وَالسَّماءَ بِناءً سقفا مرفوعا محفوظا.
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ: من السحاب. ماءً وهو المطر فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ من ألوان الثمرات وأنواع النبات.
رِزْقاً طعاما. لَكُمُ وعلفا لدوابكم.
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي أمثالا [وأعدالا] وقرأ ابن المسيقع: ندّا على الواحد، كقول جرير:
أتيما تجعلون إليّ ندّا | وما تيم لذي حسب نديد «١» |
قال ابن مسعود في قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً قال: أكفّاء من الرجال تطيعوهم في معصية الله.
وقال عكرمة: هو قول الرجل: لولا كلبنا لدخل اللص دارنا.
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ الآية نزلت في الكفّار، وذلك أنهم قالوا لما سمعوا القرآن: ما يشبه هذا كلام الله وإنّا لفي شكّ منه، فأنزل الله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ يا معشر الكفّار، [وإن] «٢» لفظة جزاء وشرط، ومعناه: إذ لأنّ الله تعالى علم إنهم شاكّون كقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «٣» وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «٤».
قال الأعشى:
بانت وقد أسفرت في النفس حاجتها | بعد ائتلاف وخير الودّ ما نفعا «٥» |
قال العجاج:
وربّ ذي سرادق محجور | سرت إليه في أعالي السّور |
(٢) غير موجودة في المخطوط، أضفناها لزيادة بيان المطلب.
(٣) سورة آل عمران: ١٣٩.
(٤) سورة البقرة: ٢٧٨.
(٥) جامع البيان للطبري: ١/ ٧٢.

وسمعت حلفتها التي حلفت | إن كان سمعك غير ذي وقر «١» |
مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا محمد يعني القرآن.
فَأْتُوا لم يأتوا بمثله، لأنّ الله علم عجزهم عنه.
بِسُورَةٍ أصلها في قول بعضهم: من أسارت، أي أفضلت فحذفت الهمزة كأنّها قطعة من القرآن، وقيل: هي الدرجة الرفيعة، وأصلها من سورة البناء، أي منزلة بعد منزلة. قال النابغة:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة | ترى كل ملك دونها يتذبذب «٢» |
كقول النابغة:
ولا أرى ملكا في الناس يشبهه | ولا أخا [لي] من الأقوام من أحد |
وقيل في قوله: (مِثْلِهِ) : راجعة الى محمد صلّى الله عليه وسلّم ومعناه: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ أي من رجل أمّي لا يحسن الخط والكتابة.
وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ يعني استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون الله.
وقال مجاهد والقرظي: ناسا يشهدون لكم.
وإنما ذكر الاستعانة بلفظ الدعاء على عادة العرب في دعائهم القائل في الحروب والشدائد: [ياك.....] «٤».
قال الشاعر:
فلمّا التقت فرساننا ورجالهم | دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر «٥» |
(٢) لسان العرب: ٤/ ٣٨٦.
(٣) سورة النور: ٣٠- ٣١. [.....]
(٤) كذا في المخطوط.
(٥) لسان العرب: ١٥/ ٥٣.

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّ محمدا أسرّ قوله من تلقاء نفسه، فلما تحدّاهم وعجزوا [قال الله تعالى] : فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي فإن لم تجيئوا بمثل القرآن.
وَلَنْ تَفْعَلُوا: ولن تقدروا على ذلك.
وقيل فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فيما مضى وَلَنْ تَفْعَلُوا فيما بقي.
فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا حطبها وعلفها النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قال الحسن ومجاهد:
(وُقُودُهَا) بضم الواو حيث كان وهو رديء، لأن الوقود بضم الراء المصدر وهو الالتهاب، والوقود بالفتح وهو ما يوقد به النار كالظهور والبرود، ومثليهما ومثل الوضوء والوضوء.
وقرأ عبيد بن عمير: وقيدها الناس والحجارة.
قيل: تلك الحجارة [كجت الأرض النائية] مثل الكبريت يجعل في أعناقهم إذا اشتعلت فيها النار أحرق توهجها وجوههم، فذلك قوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ «١».
اختلفوا في الحجارة، فقال ابن عباس وأكثر المفسّرين: إنها حجارة الكبريت [الأسود وهي أشد الأشياء حرا]، وقال حفص ابن المعلى: أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت معمولة من الحجر، دليله قوله: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ «٢».
وقيل: هي أن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا فتنشأ سحابة سوداء مظلمة فيرجون الفرج ويرفعون رؤوسهم إليها فتمطرهم حجارة عظاما كحجارة الرّحا، فتزداد النار اتّقادا والتهابا كنار الدنيا إذا زيد حطبها زاد لهيبها.
وقيل: ذكر الحجارة ها هنا تعظيما لأمر النار لأنها لا تأكل الحجارة إلّا إذا كانت فظيعة وهائلة.
أُعِدَّتْ: خلقت وهيئت لِلْكافِرِينَ، وفي هذه الآية دليل على أنّ النار مخلوقة لأنّ المعدّ لا يكون إلّا موجودا.
وَبَشِّرِ أي وأخبر.
الَّذِينَ آمَنُوا وأصل التبشير: إيصال الخبر السار على [مسامع الناس] ويستبشر به، وأصله من البشرة لأنّ الإنسان إذا فرح بان ذلك في وجهه وبشرته، ثمّ كثر حتى وضع موضع الخبر فيما [ساء وسرّ] قال الله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٣».
(٢) سورة الأنبياء: ٩٨.
(٣) سورة آل عمران: ٢١.

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الخصال والفعلات الصَّالِحاتِ نعت لاسم مؤنث محذوف.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه في وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ: معناه أخلصوا الأعمال، يدلّ عليه قوله: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً «١» أي خالصا لأن المنافق والمرائي لا يكون عمله خالصا، وقال: أقاموا الصلوات المفروضات، دليله قوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ.
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ «٢» من المسلمين.
وقال ابن عباس: عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فيما بينهم وبين ربّهم، وقال: العمل الصالح يكون فيه أربعة أشياء: العلم، والنية، والصبر، والإخلاص.
وقال سهل بن عبد الله: لزموا السنّة لأنّ عمل المبتدع لا يكون صالحا.
وقيل: أدّوا الأمانة، يدل عليه قوله: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً «٣» أي أمينا.
وقيل: تابوا، ودليله قوله تعالى: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ «٤» أي التائبين.
أَنَّ لَهُمْ: محل (أن) نصب بنزع حرف الصّفة، أي بأنّ لهم.
جَنَّاتٍ: في محل النصب فخفض لأنها جمع التأنيث، وهي جمع الجنّة وهي البستان، سمّيت جنّة لاجتنانها بالأشجار.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ: أي من تحت شجرها ومساكنها. وقيل: بأمرهم، كقوله:
وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي «٥» أي بأمري.
والأنهار: جمع نهر، سمّي نهرا لسعته وضيائه ومنه النهار.
وأنشد أبو عبيدة:
ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها | يرى قائم من دونها ما وراءها «٦» |
وأراد بالأنهار المياه على قرب الجوار لأن النهر لا يجري.
وقد جاء في الحديث: «أنهار الجنّة تجري في غير أخدود» [٧٦].
(٢) سورة الأعراف: ١٧٠.
(٣) سورة الكهف: ٨٢.
(٤) سورة يوسف: ٩.
(٥) سورة الزخرف: ٥١.
(٦) لسان العرب: ٥/ ٢٣٧.

كُلَّما متى ما رُزِقُوا أطعموا مِنْها من الجنّة مِنْ ثَمَرَةٍ: أي ثمره، و (من) صلة.
رِزْقاً طعاما. قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا أطعمنا مِنْ قَبْلُ: طعامهما، وقيل معناه:
هذا الذي رزقنا من قبل، أي وعدنا الله في الدنيا وهو قول عطاء، و (قَبْلُ) رفع على الغاية، قال الله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ «١».
وَأُتُوا وجيئوا بِهِ بالرزق.
قرأ هارون بن موسى: (وأتوا) بفتح الألف، أراد أتاهم الخدم به.
مُتَشابِهاً اختلفوا في معناه، فقال ابن عباس ومجاهد والربيع والسّدي: مُتَشابِهاً في الألوان، مختلفا في الطعوم.
الحسن وقتادة: مُتَشابِهاً في الفضل، خيارا كلّه لأنّ ثمار الدنيا [تبقى] ويرذل منها، وإن ثمار الجنة لا يرذل منها شيء.
محمد بن كعب وعلي بن زيد: بمعنى يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب.
وقال بعضهم: مُتَشابِهاً في الإسم مختلفا في الطعم.
قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء ممّا في الدنيا غير الأسماء.
وَلَهُمْ فِيها في الجنّات. أَزْواجٌ نساء وجوار، يعني الحور العين.
قال ثعلب: الزوج في اللغة: المرأة والرجل، والجمع والفرد، والنوع واللون، وجميعها أزواج.
مُطَهَّرَةٌ من الغائط والبول والحيض والنفاس والمخاط والبصاق والقيء والمني والولد وكل قذر ودنس.
وقال إبراهيم النخعي: في الجنة جماع ما شئت ولا ولد «٢».
وقيل: مطهّرة عن مساوئ الأخلاق.
وقال يمان: مطهّرة من الإثم والأذى.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتفلون ولا يتغوّطون ولا يبولون ولا يتمخطون». قيل: فما بال الطعام؟ قال: «جشأ ورشح تجري من أعرافهم كريح المسك يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس» [٧٧] «٣».
(٢) الدر المنثور: ١/ ٤٠.
(٣) كنز العمال: ١٤/ ٤٦٩ بتفاوت. [.....]