
روائع التشبيه: في هذا المثل العظيم عيون البلاغة، وقوة التعبير الذي يقف عنده كل بليغ وأديب.
فيه تشبيه القرآن بالمطر إذ المطر يحيى موات الأرض. والقرآن يحيى موات النفوس، ومع القرآن شبهة واهية لا أساس لها كالظلمات العارضة مع المطر.
وفيه وعد ووعيد كالرعد قوة وشدة، وفيه حجج وآيات كالبرق وضوحا وجلاء، وفيه آيات كاشفة فاضحة كالصواعق أو أشد خطرا.
والظاهر- والله أعلم- أن المثل الأول للمنافقين الخلص، والثاني للمترددين تارة يظهر لهم وميض الإيمان ونوره وتارة يخبو، وقيل: هما لصنف واحد.
وحدة الإله. إعجاز القرآن. صدق الرسول [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)

المفردات:
يا صوت يهتف به المنادى، ويكون لنداء البعيد أو الساهي أو الغافل لعظم المأمور به بعد النداء، والظاهر أنها استعملت هنا لهذا اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: أطيعوه.
فِراشاً الفراش: ما يفرشه الإنسان، والمراد أنه مهدها للإقامة عليها. بِناءً:
مبنية محكمة. أَنْداداً: جمع ندّ وهو النظير. شُهَداءَكُمْ: جمع شهيد، وهو من يحضر معكم من الرؤساء، أو من يشهد لكم يوم القيامة.
المناسبة:
لما ذكر الله- سبحانه- القرآن وصفته، وبين أن الناس مع القرآن ثلاثة أنواع:
فمنهم المؤمن، والكافر، والمنافق، خاطبهم جميعا بوصف عام يأنسون به ليكون ذلك أدعى للامتثال ولما أثبت الوحدانية لله. ثنى ببيان إعجاز القرآن وفي ذلك إثبات صدق الرسول.
المعنى:
لقد أمر الله الناس بعبادته، والإقرار له بالربوبية والوحدانية، ونبذ الأصنام وما كانوا يعبدون، لأنه الرب الذي خلقهم، وخلق آباءهم من قبل فلا يليق بهم أن يتخذوا أندادا له.
ففي عبادتهم لله وحده تتحقق تقواهم التي يحبها الله لهم، إذ هو الذي جعل لهم الأرض ممهدة للإقامة عليها مع تحريكها ودورانها، وجعل السماء كالقبة تظلهم بالخير والبركة.
وهي كالبناء المحكم مع ما فيها من عوالم الأفلاك والأجرام لا يسقط منها جزء ولا يختل لها نظام، وأنزل من السماء ماء مباركا طيبا ينبت لنا به الكلأ والزرع.
ألست ترى معى أن الله وصف نفسه بما يدل على انفراده بالربوبية؟ فصفة الخلق والتكوين، والرزق، من الصفات المسلّم بأنها له وحده.

وإذا كان هذا شأن الرب- سبحانه- فاعبدوه، ولا تجعلوا له أندادا في العبادة، تعبدونهم وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له يخلق شيئا مما ذكر، وها هي ذي مظاهر قدرته ودلائل وحدانيته تدل عليه.
وإن كنتم في شك من القرآن وأنه أنزل على عبدنا ورسولنا النبي الأمى محمد بن عبد الله فها هو ذا القرآن، فجدوا واجتهدوا واشحذوا عزائمكم، واجمعوا جموعكم، واستعينوا برؤسائكم وآلهتكم، وأتوا بسورة تماثله في البلاغة وسداد التشريع الصالح لكل زمان ومكان، والإخبار بالمغيبات إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن من عند محمد وليس القرآن من عند الله، وكيف يعقل هذا؟ ومحمد بشر منكم أمى مثلكم لم يقرأ ولم يكتب، وأنتم مجتمعون وفيكم الشاعر والخطيب والبليغ والأديب، والقرآن كلام عربي من جنس ما تتكلمون به في خطبكم وأشعاركم بل كلامكم العادي، وقد تحداكم الله به وأنتم ومن يحضر معكم من جهابذة القول وأعلام البلاغة وفرسان البيان، فإن عجزتم- وأنتم لا شك عاجزون- فارجعوا إلى الحق وآمنوا بمحمد وبما أنزل عليه من القرآن، وفي ذلك وقاية لكم من النار التي وقودها الناس والحجارة التي أعدها الله للكافرين.
تحدى الله العرب أن يأتوا بسورة تماثله في البيان وقوة الأسلوب، ودقة التعبير وغير ذلك مما برع العرب فيه، أما النواحي السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والقانونية فذلك شأن عال، ومنزلة رفيعة أثبتت الأيام أن القرآن فيه معجزة للعالم كله.
(بحث لعل) : أصل لعل للترجى، فإذا قلت لصديقك: لعلك تزورنى، كان المعنى أرجو وأطمع في زيارتك، وهنا لا تصح أن تكون كذلك لأن رجاء تقواهم لا يكون من القادر الذي في قبضته كل شيء وهو العليم الخبير.
ولكن لما خلق الله الخلق لعبادته وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «١» وقد أوضح لهم الطريقتين، وطلب منهم سلوك الطريق المستقيم مرارا كأنه في صورة الذي يرجو تقواهم وكأنها مرجوة له سبحانه... وهي تفيد كذلك التعليل.