آيات من القرآن الكريم

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ

وأرشدت هذه الآية إلى أن الله تعالى أغنى الإنسان عن كل مخلوق،
وقد أشار عليه السلام إلى هذا المعنى: «والله لأن يأخذ أحدكم حبلة، فيحتطب على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا، أعطاه أو منعه» «١».
قال القرطبي:
ويدخل في معنى الاحتطاب جميع الأشغال من الصنائع وغيرها، فمن أحوج نفسه إلى بشر مثله، بسبب الحرص والأمل، والرغبة في زخرف الدنيا، فقد أخذ بطرف من جعل لله ندّا «٢».
وفي قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دليل على الأمر باستعمال حجج العقول وإبطال التقليد، لأن المشركين يعلمون في الحقيقة أن المنعم عليهم هو الله دون الأنداد، ويعلمون وحدانيته بالقوة والإمكان لو تدبروا ونظروا وأعملوا عقولهم وأفكارهم، فلا داعي للوسائط المزعومة في قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٥/ ٣].
تحدي الجاحدين بالإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)

(١) أخرجه مسلم.
(٢) تفسير القرطبي: ١/ ٢٣٠

صفحة رقم 99

الإعراب:
الهاء في مِثْلِهِ إما أن تكون عائدة على عَبْدِنا فتكون مِنْ ابتدائية، وتقديره: ابتدئوا في الإتيان بالسورة من مثل محمد، وإما أن تكون عائدة على مِمَّا نَزَّلْنا وهو القرآن، فتكون مِنْ زائدة للبيان، وتقديره: فأتوا بسورة مثله. ومِنْ مِثْلِهِ متعلق بسورة صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله. قال الزمخشري: ورد الضمير إلى المنزل أوجه، لقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس ١٠/ ٣٨]، فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود ١٤/ ١٣]، عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء ١٧/ ٨٨]، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح الأساليب، والكلام مع ردّ الضمير إلى «المنزّل» أحسن ترتيبا، وذلك أن الحديث في المنزل، لا في المنزل عليه.
أُعِدَّتْ إما حال للنار على معنى معدّة، وأضمرت معه قد، كما قال: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء ٤/ ٩٠]، أي قد حصرت، وإما بكلام منقطع عما قبله.
البلاغة:
عَلى عَبْدِنا إضافة تشريف وتخصيص. فَأْتُوا بِسُورَةٍ الأمر خرج إلى معنى التعجيز، وتنكير السورة لإرادة العموم والشمول.
وَلَنْ تَفْعَلُوا يفيد دوام التحدي في الماضي والحاضر والمستقبل. فَاتَّقُوا النَّارَ إيجاز صارف إلى الغاية المقصودة جوهريا، أي فإن عجزتم فخافوا نار جهنم بالإيمان بالقرآن وبالنّبي محمد عليه الصلاة والسلام.
المفردات اللغوية:
رَيْبٍ شك. عَبْدِنا محمد. مِنْ مِثْلِهِ أي المنزل، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والإخبار عن الغيب. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ أحضروا آلهتكم أو نصراءكم ورؤساءكم، أو من يشهد لكم يوم القيامة. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره لتعينكم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن محمدا قاله من عند نفسه، فإنكم عرب فصحاء مثله. والسورة: قطعة أو طائفة من القرآن، لها أول وآخر، أقلها ثلاث آيات.

صفحة رقم 100

المناسبة:
بعد أن صنّف القرآن الناس إلى أقسام ثلاثة: متقين موحدين، وجاحدين معاندين، ومنافقين مذبذبين، وبعد أن أثبت الوحدانية والربوبية لله، ونفى الشركاء بالمنطق والبرهان، أثبت الله تعالى أن القرآن كلام الله، وأنه نزل من عنده، بدليل أنه معجز، لم يتمكن أحد من الجن أو الإنس مجاراته والإتيان بمثله، مع أن العرب فرسان البلاغة، وأساطين الفصاحة، ولا فخر لهم إلا بالكلام شعرا ونثرا وخطابة، وبما أنهم عجزوا، ولم يستطيعوا الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن، فقد ثبت صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما ادعاه من النّبوة، وما أتى به من الرسالة الإلهية. وكان منكر نبوته ورسالته مستحقا العقاب والجزاء في نار جهنم.
التفسير والبيان:
إن كنتم أيها العرب وغيركم من الجاحدين في شك من صدق القرآن، الذي أنزله الله على عبده ورسوله النّبي الأميّ محمد بن عبد الله، وزعمتم أنه من كلام البشر، فأتوا بمثله، كما يقدر سائر البشر، وذلك إن كنتم صادقين في أنه مختلق ومن كلام البشر، وأنكم تقدرون على المعارضة لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال ٨/ ٣١]، واستعينوا بمن شئتم من الرؤساء والأشراف والآلهة المزعومة، لمعارضة القرآن، فإنه لا يقدر أن يأتي بمثله إلا الله، وحيث عجزتم ولم تقدروا على الإتيان بسورة تماثل القرآن في البيان الغريب والبلاغة المتفوقة، وعلو حسن النظم، وسلامة المنطق، وروعة التشريع والأحكام الصالحة لكل زمان ومكان، والإخبار بالمغيبات، ويظل العجز دائما في المستقبل، فلن تقدروا على الإتيان بمثله، مع أنه كلام عربي من جنس كلام العرب في الشعر والخطابة والنثر والأسلوب، وفي العرب البلغاء والفصحاء والشعراء والخطباء وأعلام البيان والقول.

صفحة رقم 101

وحيث ظهر العجز فعلا، فارجعوا إلى الحق، والإيمان بالقرآن، والتصديق برسالة النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، ففي ذلك وحده النجاة من عذاب الله في النار التي وقودها الناس الكفار والحجارة (الأصنام) مادة الاشتعال، فهي لا يماثلها أعلى فرن ناري عالي التوتر لصهر الحديد وغيره من المواد الصلبة، ولا تقدّر درجات حرارتها بأفران الدنيا على الإطلاق، وقد أعدها الله وهيأها للكافرين الجاحدين المنكرين رسالة الإسلام، جزاء وفاقا لكفرهم وجحودهم. قال تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء ٢٩/ ٩٨].
والخلاصة: إذا بان العجز التام عن الإتيان بمثل أقصر سورة من القرآن، مع المحاولة وبذل الجهود واستمرار التحدي في المستقبل، فاحذروا العناد، واعترفوا بكون القرآن من عند الله، لئلا تكونوا مع أصنامكم وقودا لنار جهنم التي أعدت لأمثالكم الكافرين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ.. على صحة نبوة نبيّنا عليه الصلاة والسلام من وجوه:
الوجه الأول
- أنه تحداهم بالإتيان بمثل القرآن، وقرّعهم بالعجز عنه، مع ما هم عليه من الأنفة والحميّة، وأنه كلام موصوف بلغتهم، فلو قدروا على معارضته لكانت معارضته أبلغ الأشياء في إبطال دعواه وتفريق أصحابه عنه.
فلما ظهر عجزهم عن معارضته، دلّ ذلك على أن القرآن من عند الله الذي لا يعجزه شيء، وأنه ليس في مقدور العباد مثله. وهذه معجزة باقية لنبيّنا عليه الصلاة والسلام بعده إلى قيام الساعة، وقد كانت هذه المعجزة تتناسب مع اعتزاز العرب بالفصاحة والبلاغة بما لم يتهيأ لغيرهم، فجعل الله تعالى آية محمد الكبرى كتابا معجزا لهم ولسائر الخلق في نظمه وأسلوبه، وفصاحته وبلاغته،

صفحة رقم 102

فكانت عليهم الحجة بأقوى مما قامت به المعجزات المادية السابقة مثل عصا موسى ويده في عصر السحر، وإبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في عصر الطب.
والوجه الثاني
- كان معلوما عند الناس قاطبة: المؤمنين والجاحدين لنبوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان من أتمّ الناس عقلا، وأكملهم خلقا، وأفضلهم رأيا، فما طعن عليه أحد في كمال عقله، ووفور حلمه، وصحة فهمه، وجودة رأيه، فلا يجوز على من كان هذا وصفه أن يدّعي النّبوة، ويجعل علامة نبوته كلاما يقدر كل واحد من العرب على مثله، فيظهر حينئذ كذبه، وبطلان دعواه، فدلّ ذلك على أنه تحداهم بكلام هو من عند الله لا يقدر العباد على مثله.
والوجه الثالث
- أخبر تعالى بقوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا أنهم لا يعارضونه، وذلك إخبار بالغيب، وتحقق الخبر مع مضي الزمان. قال أبو بكر الجصاص «١» : وقد تحدى الله الخلق كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء ١٧/ ٨٨]، فلما ظهر عجزهم قال: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود ١٤/ ١٣]، فلما عجزوا قال: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [الطور ٥٢/ ٣٤]، فتحداهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه، فلما ظهر عجزهم عن ذلك، وقامت عليهم الحجة، وأعرضوا عن طريق المحاجة، وصمموا على القتال والمغالبة، أمر الله نبيه بقتالهم.
والخلاصة: أن التحدي كان متنوعا، مرة بالنظم والمعنى، ومرة بالنظم دون المعنى، بافتراء شيء لا معنى له، وفي كل الأحوال ظهر فشلهم.

(١) أحكام القرآن: ١/ ٢٩

صفحة رقم 103
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية