آيات من القرآن الكريم

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس... ﴾.
قال أبو حيان: «ثم» قيل إنّها للترتيب في الذكر لا في الزّمان لتعذره وهذا على (الإفاضة) من عرفات وقيل بمعنى الواو.
قال ابن عرفة: لا فرق بينهما لأن الواو كذلك هي أيضا للترتيب في الذكر فالمقدم فيها مقدم في اللفظ لا في المعنى.
قيل لابن عرفة: إنّما يريد النحويون بذلك الذكر القلبي بمعنى: أنه لم يستحضر أوّلا غير (الأول) من المعطوفين فلذلك بدأ به فلما نطق به استحضر الآخر وهذا مستحيل في الآية.
وذكر الزمخشري أن «ثُمّ» هنا لبعد ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ كما تقول: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن الى غير كريم.
قال ابن عرفة: فإن قلت: هلا (قال) ثم أحسن إلى الكريم فيعطف الأمر على الأمر فهو أولى من عطف النهي على الأمر.
فأجاب بأنه أراد تحقيق كونها لبعد ما بين الصواب وهو الإحسان إلى الكريم والخطأ وهو الإحسان إلى غير الكريم ولو أتى بالكل أمرا

صفحة رقم 578

لكانت «ثم» بين الجائز والأولى (ولم) تكن صريحة في البعد والتفاوت.
(وزاد) أبو حيان قولين: أحدهما: أنّها للترتيب الزماني والإفاضة (من) جمع. والآخر: أنها على بابها من الترتيب. وفي الكلام تقديم وتأخير أي وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الألْبَاب ثم أفيضوا.
قال ابن عرفة: والفرق بين القولين (الأولين) عندي أن يريد بقوله «ثُمّ» هنا، قيل للترتيب في الذكر، إنّها في هذه الآية خاصة بمعنى الواو، وبالقول الثاني: إنها بمعنى الواو مطلقا والله أعلم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يقولون: إنّها للتراخي والمهلة فهي على بابها، والمهلة فيها بين الذي يليها فقط والذي يليها هو معطوف على ما قبله بالواو والمشهور في الواو أنّها للجمع من غير ترتيب ولا مهلة، فتكون الجملة الموالية ل «ثم» مراد بها التقديم. والتقدير: «فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا هَدَاكُمْ» «ثم أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ» و ﴿واذْكُرُا الله عِند المَشْعَرِ الحَرَامِ﴾.
قال ابن عرفة: وهذا معنى سادس لم يذكروه، وهو الذي (ينبغي) حمل الآية عليه. والله أعلم.

صفحة رقم 579

وقول الله تعالى: ﴿مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس﴾ قرأ ابن جبير (الناسي).
أبو حيان: والألف واللاّم قيل للعهد وقيل للجنس فالعهد يريد آدم عليه السلام.
(قال) ابن عرفة: كونها للجنس (إما) أن يريد النّاسِي في الحجّ أو بالإطلاق. فالنّاسي في الحج لا إفاضة له لأنه نسي الإفاضة فلا يصح أمرنا له بالإفاضة من حيث أفاض النّاس وإِن أراد الناسي مطلقا، وهو الذي نسي غير هذا أي من حيث أفاض الذي من شأنه النسيان فباطل أيضا، لأن ترتيب الحكم على الاسم (المشتق) (يشعر) بمناسبة معناه للحكم، وعلته له فإذا قلت.
أكرم زيدا المصلي، فإكرامه إنما هو لصلاته لا لصدقته.
قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء. قال: فأما جوازه في العربية فذكره سيبويه وأمّا جوازه مقروءاً به فلا أحفظه.

صفحة رقم 580

قال ابن عرفة: وهذا غير صحيح كيف يقول: لا أحفظه وهو شأن الزوائد في القرآن في الاسم والفعل، قال الله تعالى ﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ وقال أيضا ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ فقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: «يَأْتِ» «وَنَبْغِ» بحذف الياء وصلا ووقفا.
وتعقبه أبو حيان بأن سيبويه لم يجزه إلا في الشعر وجوّزه الفراء.
قال ابن عرفة: وعادتهم يقولون: لم عدل في الآية عن دلالة المطابقة وهي حقيقة إلى دلالة الالتزام، وهي مجاز، فعبر بالإفاضة المستلزمة للوقوف، وهلا عبر بالوقوف نفسه فيقول: ثم قفوا من حيث وقف الناس، فما السر في ذلك؟
قال: وعادتهم يجيبون عن ذلك بأنّ قريشا كانوا لا يخرجون من الحرم لشرفه ويرون الخروج عنه موجبا للوقوع في الإثم، (ويقفون بالمشعر الحرام، فأتت الآية ردا عليهم وتنبيها على أن الخروج هنا لاينقص أجرا ولا يوقع في الإثم) ثم إنّ الإتيان إلى المحل الشريف من

صفحة رقم 581

المحل البعيد مُشْعِر بنهاية تعظيمه وكمال تشريفه، فقصد التنبيه على الحكم مقرونا بعلته، وهذا هو المذهب الكلامي عند البيانيين.
ولو قيل: ثم قفوا، لما أشعر بالانتقال والرجوع من الحل إلى الحرم بعد الخروج منه، فعبر بالإفاضة التي من شأنها أن لاتكون (إلا بعد) وقوف لإشعارها بالانتقال من المحل البعيد وهو عرفة لأنه في الحل إلى هذا الحرم الشريف تكريما له وإجلالا، فالإفاضة مستلزمة للرجوع إلى الحرم، ومشعرة بالوقوف المستلزم للخروج من الحرمِ إلى الحل.
قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنه عبر بالإفاضة للمناسبة بينه وبين لفظه في أول الآية والله أعلم.

صفحة رقم 582
تفسير ابن عرفة
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن محمد ابن عرفة الورغمي التونسي المالكي
تحقيق
حسن المناعي
الناشر
مركز البحوث بالكلية الزيتونية - تونس
سنة النشر
1986
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
2
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية