
(وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي وأخلصوا لى يا أهل العقول والأفهام بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض، واجتناب ما حرمته عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبى وعقابى، وتدركوا ما تطلبون من الفوز برضاى ورحمتى.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٨ الى ١٩٩]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
تفسير المفردات
الجناح: الحرج والإثم، من الجنوح، وهو الميل عن القصد، أن تبتغوا أي أن تقصدوا وتطلبوا، وفضلا أي عطاء ورزقا منه بالربح في التجارة أيام الحج، والإفاضة من المكان:
الدفع منه أي أفضتم أنفسكم ودفعتموها، ويقال أفاض في الكلام إذا انطلق فيه كما يفيض الماء ويتدفق، وعرفات موقف الحاج في أداء النسك، وسمى بهذا الاسم لأن الناس يتعارفون فيه، وعرفة اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات، وهو التاسع من ذى الحجة، والذكر: الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد، والمشعر الحرام: هو جبل المزدلفة يقف عليه الإمام، وسمى بهذا الاسم لأنه معلم للعبادة، والشعائر العلامات، ووصف بالحرام لحرمته فلا يفعل فيه ما نهى عنه
المعنى الجملي
جاء هذا كالاستدراك: والاحتراس مما عساه يسبق إلى الفهم من منع التجارة في الحج ذاك أن الآيات السابقة أرشدت إلى حرمة الرفث والفسوق والجدال في الحج، والتجارة

تفضى إلى الجدال والنزاع في قيم السلع قلة وكثرة، فعقب ذلك ببيان حكمها، وأبان أن الكسب في أيام الحج مع ملاحظة أنه فضل من الله غير محظور، لأنه لا ينافى الإخلاص فى هذه العبادة، وإنما الذي ينافيها أن يكون المقصد التجارة فحسب، بحيث لو لم يرج الكسب لم يسافر للحج.
وقد كان المسلمون في ابتداء الإسلام يتأثمون من كل عمل دنيوى أيام الحج، حتى إنهم كانوا يقفلون حوانيتهم، فأعلمهم الله أن الكسب طلب فضل من الله لا جناح فيه مع الإخلاص.
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا فى الجاهلية، فتأثّموا أن يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله ﷺ عن ذلك فنزلت الآية.
وعن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر إنا نكري (أي الرواحل للحجاج) فهل لنا من حج؟ فقال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فسأله عن الذي سألتنى عنه، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية، فدعاه النبي ﷺ فقال:
أنتم حجاج.
الإيضاح
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) أي لا حرج ولا إثم في الكسب أيام الحج إذا لم يكن هو المقصد بالذات، إذ هو مع حسن النية وملاحظة أنه فضل من الله عبادة، ولكن التفرغ لأداء المناسك في تلك الأوقات أفضل، والتنزه عن حظوظ الدنيا أكمل، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ».
(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) أي يطلب من الحاج إذا دفع من عرفات إلى المزدلفة أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالدعاء والتحميد والثناء

والتلبية، وإنما طلب منه ذلك خشية أن يتركه بعد المبيت، فطلب منه المضىّ في الذكر مادام في هذا الموضع.
(وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه، بأن يكون بتضرع وخيفة وطمع في ثوابه، صادر عن رغبة ورهبة كما
قال ﷺ «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»
ولا تعدلوا عنه إلى ما كنتم تفعلونه في الجاهلية من الشرك واتخاذ الوسطاء بينكم وبينه، فلا تفرغ قلوبكم له، فقد كانوا يقولون في التلبية: لبّيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
(وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) أي وإنكم كنتم من قبل هذا الهدى من الضالين عن الحق في العقائد والأعمال بعباد الأوثان والأصنام، وباتخاذ الوسطاء الذين يشفعون عنده ويقربون إليه زلفى.
(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) روى البخاري ومسلم: أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس (واحدهم أحمس وهو الشديد الصّلب في الدين والقتال) كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع العرب في عرفات.
فأمر الله نبيه أن يأتى عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، ليبطل ما كانت عليه قريش.
فالمعنى- عليكم أن تفيضوا مع الناس من مكان واحد تحقيقا للمساواة وتركا للتفاخر وعدم الامتياز لأحد عن أحد، وذلك من أهمّ مقاصد الدين.
(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) مما أحدثتم من تغيير المناسك بعد إبراهيم، وإدخال الشرك فى أعمال الحج.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يستغفره مع الإنابة والتوبة.